أنا لا تعجبنى مسرحية التسول ومناظر الاستجداء والاستعطاف، التى تبدأ من الليلة الرمضانية الأولى حتى تهدأ ولا تنقطع بعد العيد، وربما يوماً يغنينا الله من فضله ونرتاح من هذه المسرحية الهزلية المحزنة والمأساوية. خشبة المسرح ممتدة بطول البلاد وعرضها دون ستار أو حاجز أو كواليس أو رقابة، كله «على عينك يا تاجر». العرض مستمر ليل نهار للصغار والكبار «حاجة ببلاش كده»، ويكفيك عناء المشاهدة «واللى ما يشترى يتفرج»، وممكن تنام أو تسافر، وحين تصحو أو تعود لن يفوتك من النواح والبكاء والشحتفة دمعة واحدة أو ولولة واحدة. انظر حولك فى الطرقات والأزقة والشوارع وعلى منابر المساجد، وشاشات التليفزيون، سيملأ عينيك سواد وحزن وبؤس حالك الظلمة، وتسول وشحاذة، ومد الأيدى يسد ويغم النفس، لا فرق فيه بين صوت منهك يخرج من خلف نقاب «حسنة قليلة تمنع بلاوى كتيرة» تسمعها على رصيف شارعك المظلم، وبين لسان ناعم يهمس فى دلال ونعومة من فم يحيطه «الروج» البنفسجى على وجه صبوح فاتن لممثلة مشهورة تناجيك وتناغشك بدلال ودلع «اكفل قرية فقيرة» أو تبرعوا «لمستشفى الأورام»، ولا مانع أن ترى طوابير المرضى شاحبة هزيلة فى خلفية هذا الوجه الفاتن الساحر الجذاب. ولا اختلاف بين نداء «اكفل يتيم» أو «فك كرب غارمة» على قناة «السفرة» وسط أكوام البط والرومى المدخن وصوانى الكنافة بالمانجو والفراولة والقهوة ومشروب قمر الدين والخروب، وبين قنوات هز الوسط والخمارات والصاجات. ولا فرق بين تسول الفقراء فى الحارات على عكاكيز العرجان وملابس عمال نظافة الهيئة الرثة البالية، وبين الأغنياء فى نوادى النجوم الخمسة بين مضارب التنس والبلياردو، الكل يتسابق ويسارع فى تسويق وترويج الحزن والألم والمرض فى شنطة منمقة ومزركشة ومزخرفة، سباق وخناق ومنافسة على صدقات الناس وزكواتهم، ما بين منتج جيد وآخر ردىء، وبضاعة كاملة الدسم والحبكة شديدة المرار والهم والحزن، وأخرى عالية الجودة والصنف تضيّع العقول وتغيّب الجهاز العصبى لشبابنا، الكل فى مباراة حارّة جارفة تكشف ستر الناس دون خجل أو حياء أو مانع، المهم «التارجت» وتحقيق أعلى مبيعات ممكنة.

هل هذا مقبول أو معقول؟ هل انتقلت عدوى التسول العام إلى التسول الخاص، فزاد ونما وبلغ ذروته؟ وهل رفعنا الحياء العام وخلعنا برقعه من وجوه الجميع، حتى كشف الناس رداء كان لا يزال قائماً ومرفوعاً، فتبجح وتجرأ وخرج عارياً على الناس يطلب الصدقة بغلظة وخشونة وبجاحة من وجب عليه العمل والجد والاجتهاد؟ وما هذه الحيل التى تفوقت على حيل الحواة، وهذه الأفكار التى تحتاج إلى مراجعة علماء الاجتماع والمتخصصين التى تدفع المجتمع إلى امتهان واحتراف النصب والاحتيال وكسب المال دون جهد أو عمل، ومن هذه العروسة المخطوبة على جروب رسالة «أنا وابن عمى» التى طلبت طقم لبس جديد تقابل به خطيبها، فاستجاب لها الجروب بطقمين، وماذا فى بقية الكذبة على الخطيب؟ وكيف تستمر الحياة بأعبائها وتكاليفها إلا إذا اتسعت دائرة التسول. كنت أتمنى لهذا الجروب البحث عن عمل لها، وهو جروب لا أرتاح إليه، وما خفى عنه كان أعظم. وفوضى الغارمات، وما يقال فيها كثير، فإذا كان فك الكرب عملاً عظيماً، وتكافلاً وتراحماً بين أبناء البلد الواحد، فإن الأمر لا يخلو من كارثة مقبلة دون وضع ضوابط محددة، وهى زيادة دائرة الغارمات واتساعها مع تجاوب الناس معها وسداد الغرم عنهن، وربما فك كرب غيرهن قد زاد فى أعدادهن، وكنت أتمنى أن يكون سداد ديون الغارمات وفك حبسهن له قواعد وأصول، وتاريخ محدد لا يتعداه أو يتخطاه، حتى لا يكون دعوة وترويجاً فى وسط هذا المجتمع لاستغلال هذا «الفك» فى الإقبال والإسراع فى زواج البنات والمغالاة فى التجهيز وتوقيع الشيكات، حتى يأتيهن هذا الفرج «واللى تعرف ديته اقتله».

وما هذه التبرعات بالمليارات لمستشفيات استطاعت إقامة شبكة اتصالات قوية، وإعلانات ذكية، وروّجت لأوجاع الناس بمهارة فائقة؟ وما هو نصيب المستشفيات المنهكة والمتهالكة فى ريفنا البائس، والتى ربما لا يجد الفلاح فيها دواء أو علاجاً أو أجهزة طبية، وهم على جهل بتسويق أوجاعهم إلا على منابر المساجد فقط، أليس هذا بظلم للصغار محدودى النفس والهمة وشبكة الاتصال والإعلانات، وإلى أن يأذن الله بدرء هذه المفسدة، أرجو أن يحدد أولو الأمر نسبة من هذه الأموال إلى هذه المستشفيات، وما دام «الخير كتير والرزق وفير»، فلا مانع لمن لم يحضر القسمة أن يقتسم، وكله بثوابه، وهنيالك يا فاعل الخير، ويجعله فى ميزان حسناتك يوم العرض. يا سادة، أصبحت سفرة رمضان عامرة بما لذ وطاب من الطعام والشراب والطبل والرقص والقتل والسرقة والمخدرات وأوجاع المرضى، بلا طعم أو مذاق، حتى ضاعت معالم الشهر الفضيل وسط أطلال الخجل والحياء، التى هدمناها على رؤوسنا بفضل حواة التسول.
نقلا عن الوطن