فاطمة ناعوت
«السلام عليكم/ الاستاذه فاطمه ناعوت. انا (…...) من دولة (...) الشقيقة. اتمنا ان تصل لكى رسالتى وانتى بخير وصحه. اننى افكل بعمل سلسله كتب عن 12 شخصيه عربيه مشهوره. اتمنا التعاون معكى في هذا الموضوع. اذا كنتى على استعداد ارجو الرد باسرع وقت وسوف اشرح لكى كل التفاصيل. ولكى منى جزيل الشكر».

وصلتنى هذه الرسالةُ على الإيميل. ابتسمتُ دهشةً من مفارقة أن كاتبًا بصدد تأليف كتابٍ، بل سلسلة كتب، يكتب رسالة كتلك! وتصورتُ أنه يودُّ أن أنقِّحَ له ما سيكتب؛ لتحريره من أخطاء الإملاء وتحسين الصوغ. فلم أعبأ بالردِّ على الرسالة، ونسيتُ الأمر.

بعد أسبوع تبددتْ دهشتى، وحلَّ محلَّها غضبٌ عارم؛ حين هاتفنى ذلك «الكاتب» العربيّ صاحبُ الرسالة. في بداية المكالمة، بادرنى بالمديح والثناء على رشاقة قلمى وجمال أسلوبى اللذين من أجلهما اختارنى ضمن نخبة من كبار كتّاب الوطن العربى، لإتمام ذلك المشروع. قدّم لى نفسه بوصفه كاتبًا وصحفيًّا. ثم شرح لى المطلوبَ: عليَّ أن أختار شخصيةً أو أكثر من مشاهير العرب. ثم (أُؤلِّفُ) كتابًا عن تلك الشخصية. ثم أرسل مخطوطةَ الكتاب إلى ذلك السيد، مع تحديد المبلغ المالى الذي أرغب فيه، مقابلَ التأليف. هنا ظننتُ أن المتحدثَ ناشرٌ بصدد إصدار سلسلة كتبٍ عن شخصيات عربية راحلة بأقلام كُتّابٍ معاصرين. فكرةٌ لا بأس بها لو أُحسِنت صنعًا. لكنَّ الشكَّ بدأ يساورنى حين طلب منى السيدُ أن يظلَّ الأمرُ سرًّا بيننا، وأن أنساه تمامًا فور تسلُّمى المبلغ! أخبرنى أن الكتب ستخرج حاملةً اسمه هو، بوصفه المؤلف (!!!). ضحكتُ. واعتذرتُ عن عدم المشاركة في المهزلة. فبدأ في مساومتى ومضاعفة المبلغ حتى وصل إلى رقم خيالى. فرفعتُ صوتى بحسم لأوقفه قائلة: «المكالمة انتهت يا سيد! ونصيحة مخلصة ألا تكرر طلبك مع كُتّاب آخرين، لكيلا تسمع ما لا تحبّ». فطبّقتْ ضحكتُه الآفاقَ وهو يخبرنى أننى الوحيدة التي تأخرت في الرد على إيميله؛ لهذا هاتفنى. وأنه حصل بالفعل على موافقات كُتّاب، وكبار، وأننى مغرورةٌ وغير ذكية، ولا أفهم الحياة! وانتهت المكالمة.

لم أصدّقه. فليس من كاتبٍ يحترم «فكرة الكتابة وشرفَها» يوافقُ أن يُهينَ قلمَه، ويشجّع لصوص الفكر. لكننى صدّقتُ أنّ حُلمَ الكتابة يراودُ الناس. الأطفالُ يرسمون ويُغنّون ويعزفون ويرقصون. ثم تتباينُ أحلامُهم وفق مواهبهم واجتهاداتهم. يحلمُ الصبىُّ أن يغدو شاعرًا، فيقرأ آلاف القصائد، ثم ينساها، ليختبر وهجَ ما يحملُ قلبُه من جَذوة الشعر. لكنه، خلال رحلة حُلمه وقراءاته، يكون قد ضَبَط إيقاعَ اللغة في أُذُنه، من حيث ميزانها النَّحوىّ والصَّرفى والعَروضىّ، ومعرفة أسرار اللغة وسحرها ومجازها. بعد كلِّ هذا الجهد والاشتغال، لا تضمنُ له الحياةُ أن يغدو شاعرًا إلا بقدر ما يحملُ من تفرّد وتميّز وقدرة على الإدهاش. نعم، حُلُمُ الكتابةِ لم ينجُ منه أحدٌ، تقريبًا. حتى الزعماء، بعضهم لم يكتفِ بسلطان الحكم، فحاول الكتابة كيفما اتفق. بعضُهم وضع اسمَه على روايات لم يكتبها. وبعضُهم كان راقيًا مثل جمال عبدالناصر، حين أعلن عن مسابقة بين الأدباء ليُكملوا عدة صفحات كان كتبها وهو طالبٌ، كمشروع رواية عنوانها: «فى سبيل الحرية». وفاز في المسابقة كاتبان هما: عبدالرحمن فهمى، عبدالرحيم عجاج. كلٌّ أكمل العملَ وفق رؤاه، وصدرت الروايتان تحملان اسمى الكاتبين على الغلافين، مع تنويه صغير عن الرئيس.

الحلمُ حقٌّ مشروعٌ بل حتمىّ لكل إنسان. لكن الأحلام لا تسعى إلينا، بل تتأبى إلا على الساعين إليها بصدق. هذا السيد الذي قرّر استلاب عصارة إبداع الآخرين، ليضعَ اسمه على ما كتبوا لم يفكر أن يتعلم مبادئ الكتابة دون أخطاء إملاء، على الأقل، قبل أن يقرِّرَ أن يغدو كاتبًا له مؤلَفات!. وبفرض تحقُّقَ ما أراد، هل سيشعرُ بالفرح الذي يغمرُ الكاتبَ مع صدور كتاب جديد؟ وبأىّ اطمئنان سيواجه أصدقاءه حين يناقشونه في مسألة بالكتاب، أو فكرة ملتبسة تحتاج توضيحًا؟ السؤالُ: هل يشترى المالُ كلَّ شىء، كلَّ شىء، ماديًّا كان أو معنويًّا، عارضًا كان أو مبدئيًّا؟ حقًّا، كم بسطوة المال تُرتَكبُ من جرائم!.

في مسرحية الإيطالى «لويجى برانديلو»، «ستُّ شخصيات تبحثُ عن مؤلف»، تقتحم أسرةٌ مكونة من ستة أفراد خشبةَ المسرح؛ ثم يطالبون المخرجَ بأن يجد لهم مؤلفًا مسرحيًّا حتى «يكتبهم». تذكرتُ تلك المسرحية الجميلة الآن.

قبل إرسال مقالى هذا إلى الجريدة، وصلنى إيميل جديد، سأنقله لكم أيضًا دون تحرير:

«بعد ازنك يا استازة انا بكتب بعد المقالت ممكن ابعتلك حاجة اخد فيها ريك وتسعادينى انشر في جرنان المصرى اليوم.»!

«الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم