سامح جميل
رغم ان رحلاته الافريقية كانت من أجل وحدة القارة ومساندة حركات التحرر بها .. الا أن الاساس كان تأمين منابع النيل .. ادرك عبد الناصر أن الأمن القومى لمصر ، يبدأ من عند منابع النيل..

يحكى الأديب الكبير بهاء طاهر أنه حين كان موظفًا باليونسكو بالأمم المتحدة قام ضمن وفد تابع للمنظمة الدولية بزيارة لدولة كينيا.. وفى إحدى القرى التى زارها الوفد شاهد بهاء طاهر صورة جمال عبدالناصر معلقة على الحائط داخل أحد الدكاكين الصغيرة بالقرية الكينية النائية.. فسأل صاحب الدكان عمن يكون صاحب هذه الصورة التى علقها بدكانه ولم يعلق صورة لرئيس دولته كما جرت العادة فى العالم الثالث.. اندهش الرجل من السؤال فلم يكن يتوقع أن أحدًا فى العالم لا يعرف جمال عبدالناصر.. فرد على بهاء طاهر قائلاً: إنه (أبوإفريقيا).. لم يذكر الرجل اسم جمال عبدالناصر فى إجابته.. بل فضل عليه اللقب الذى ربما يقنع السائل بسبب تعليقه الصورة على جدران دكانه.. فعاد بهاء طاهر ليسأله من جديد أو لكن من هو أبوإفريقيا فقال الرجل: وهل هناك غيره (إنه جمال عبدالناصر!!).

يقول بهاء طاهر: إنه لم ينم ليلتها فقد شعر بالفخر أمام بقية زملائه من أعضاء الوفد الدولى، الذين حضروا معه الواقعة وكان معظمهم من الأوروبيين، واستطرد الأديب الكبير فى وصف شعوره بعدها فقال، إن الرجل الكينى البسيط شعر بعدم الراحة وأبدى امتعاضه لأنه صادف أحد سكان العالم لا يعرف جمال عبدالناصر، فماذا لو عرف هذا الرجل الكينى أن بعض المصريين الآن يلومون جمال عبدالناصر، بسبب وقوفه مع الثورات وحركات التحرر الإفريقية وهو السبب فى حصوله على لقب (أبوإفريقيا)؟.. وماذا أيضاً لو عرف الرجل الكينى أن هناك فى مصر الآن من يهاجم عبدالناصر ولا يحترمه لدرجة التقديس كما يفعل كل سكان إفريقيا

هكذا كان بهاء طاهر محقًا فى دهشته، محقا أيضا فى شعوره بالفخر، ومحقاً أكثر فى أسئلته التى حملت معنى الاستنكار لما يحمله البعض هنا من مشاعر سلبية تجاه (أبوإفريقيا) و(أبوالعروبة)!

لاتوجد عاصمة إفريقية واحدة ليس فيها شارع من أكبر الشوارع وأطولها يحمل اسم جمال عبدالناصر بل هناك العديد من الدول الإفريقية التى أقامت له التماثيل فى أكبر ميادينها اعترافا بفضل الرجل وفضل مصر فى استقلالها وتحرير شعوبها وقد كان آخر تلك التماثيل وأضخمها فى مدينة جوهانسبرج بجنوب إفريقيا، والذى أزاح عنه الستار نيلسون مانديلا بنفسه فى حضور أبناء الزعيم المصرى الذين دعاهم الزعيم الإفريقى العظيم لحضور هذه المناسبة.

وحين زار نيلسون مانديلا مصر لأول مرة توجه من المطار مباشرة إلى قبر عبدالناصر ووقف أمامه صامتاً لعدة دقائق ثم قال لمرافقيه من المصريين إنه كان يتمنى أن يزور مصر فى حياة عبدالناصر ليحظى بشرف استقباله له ورؤيته.

وحين فازت جنوب إفريقيا بتنظيم كأس العالم فى المنافسة التى دخلتها مع مصر فى الفيفا قال مانديلا تعليقا على خسارة مصر لو كان عبدالناصر حيا لما جرؤ أحد من الأفارقة على الدخول مع مصر فى منافسة حتى وإن كانت أشرف المنافسات وأعظمها.

هذه هى إفريقيا التى تعيش على ذكرى جمال عبدالناصر حتى الآن.. وإذا كانت لا تزال هناك علاقات مميزة مع بعض دولها الآن فيرجع الفضل فى ذلك إلى جمال عبدالناصر الذى أهملنا علاقاتنا بإفريقيا من بعده فسمحنا لإسرائيل أن تتقدم لتملأ الفراغ الذى تركته مصر وراءها هناك وقد مات عبدالناصر وكل الدول الإفريقية قد سحبت اعترافها بإسرائيل وقامت بطرد سفرائها من هناك فى أعقاب النكسة وهزيمة مصر وإذا كانت بعض دول حوض النيل تتخذ موقفا مواليا لمصر فى مسألة تقسيم المياه فالفضل فى ذلك يرجع إلى اعترافها بفضل مصر عبدالناصر.

45 سنة مرت على رحيل الزعيم المصرى العظيم ولا نجد تمثالاً أو شارعاً باسمه فى عاصمته المدفون فى ترابها الطاهر بينما هناك تمثال لمن يسمى (لاظوغلي) وميدان باسمه فهل يستحق منا عبدالناصر ذلك الجحود وهو الذى قدم لوطنه ما لم يقدم سوى جزء ضئيل منه لإفريقيا المهووسة باسمه وشخصه؟!..

منذ اندلاع ثورة يوليو بقيادة المصري جمال عبد الناصر، وكانت أولوياتها الاهتمام بالبعدين الإفريقي والعربي، والتحرر من الاستعمار لجميع الدول الإفريقية والعربية، وتكمن عظمة الاستراتيجية الناصرية في اتجاهها نحو إفريقيا ودول العالم الثالث، حيث أكد أن قيمة ثورة يوليو التي اندلعت بعد الحرب العالمية الثانية تبلورت لاستكمال التحرر ومواجهة العالم الرأسمالي وتعزيز التوجه الاشتراكي.

جاءت أهمية الثورة لدول العالم الثالث كونها خرجت جزءًا منها، وتوجهت نحو الاستقلال، وخلال العام الأول من الثورة أقيم مؤتمر “باندونج” الذي يعتبر العلامة الأولى للاستقلال الوطني، وفي عام 1956 تم استقلال السودان عن مصر، الذي صوره كارهو عبد الناصر بأنه تقسيم، وأن عبد الناصر هو من فصل السودان عن مصر، لكن الحقيقة غير ذلك تمامًا، فناصر رجل عروبي آمن بالحرية واحترام حقوق الشعوب، لذا عندما خرجت مظاهرات الشباب السوداني تطالب بالانفصال عن مصر وتتهم ناصر بأنه مستعمر جديد، أعلنها ناصر صريحة وواضحة، وقال: إن مصر والسودان شعب واحد يجمعهما التاريخ والجغرافيا ولشعب السودان الحق في تقرير مصيره، وطلب السودان استقلاله، فلم يكن مقبولًا أن يرفض عبد الناصر في ذلك مطلب الحرية الذي يدافع عنه.

ثورة 23 يوليو وإفريقيا
ظهرت جليًّا مؤشرات اتجاه ثورة يوليو نحو العالم الثالث، حيث أقيم عام 1960 مؤتمر الدار البيضاء والمؤتمر الإفريقي العربي بها، وفي عام 1962 تم استقلال الجزائر وانتصار الكفاح المسلح لتحرير الشعوب بالمساعدة المصرية التي لا تنكر، ويشهد برج القاهرة الشامخ الذي تم بناؤه في عهد الرئيس جمال عبد الناصر ـ وتكلف 6 ملايين جنيه وقتها ـ على مساعدة مصر للجزائر حيث كانت الولايات المتحدة قد أعطت تلك المبالغ لمصر بهدف التأثير على موقفها المؤيد للقضية الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، ولم تخدع الملايين الستة الرئيس عبد الناصر لتغيير موقفه تجاه القضايا العربية، ورفض حتى أن يخصصه للإنفاق على البنية الأساسية في مصر، ثم أنشات لجنة تحرير المستعمرات بين مصر والجزائر مع كل الدول الإفريقية، وشهدت الفترة ذاتها استقلال الكونغو.

كانت مهمة مصر على يد عبد الناصر تكمن في تحرير دول القارة الإفريقية إلى أن تحقق تحرير غانا في عام 1957، وكانت غانا بداية لتحرير دول إفريقيا وجنوب الصحراء, حتى جاء عام 1960 حيث شهد موجة من الاستقلال، شملت عددًا من دول إفريقيا، مما ترتب عليه دمج مجموعة برزافيل والدار البيضاء في مجموعة واحدة لتوحيد جهود القارة، وكان ذلك إيذانًا بميلاد منظمة الوحدة الإفريقية مايو 1963.

ظلت إفريقيا ذات مكانة خاصة في استراتيجية ناصر، لأن مصر بتكوينها وطبيعتها وهويتها إفريقية، فضلًا عن مساهمة الأشقاء الأفارقة بالمقاطعة الكاملة للعدو الصهيوني، حينما ضرب المشروع الوطني لناصر عام 1967، حيث ظلت العلاقات الإسرائيلة الإفريقية مقطوعة في غالبية الدول، حتى جاء السادات بمعاهدة السلام، فكان على الدول الإفريقية أن تعيد علاقاتها بإسرائيل.

فى ظل حكم الزعيم عبد الناصر، أصبح الدور المصري تجاه إفريقيا متميزًا، وأكثر شمولًا وقدرة على التأثير الإقليمي من أي مرحلة أخرى، حيث اعتبر عبد الناصر أن الاستعمار السبب فى كل المصاعب والمشكلات التي واجهت مصر في الداخل والخارج، وأنه عقبة في طريق مستقبلها، واعتبر أن تصفية هذا الاستعمار بمثابة رسالة تحملها مصر، وفي البداية أعلنت مصر أنها تشارك أساسًا في حركة مناهضة الاستعمار بإفريقيا، وبعد تطور الاهتمام المصري بالقارة، أعلن عبد الناصر أن مصر تعمل على تحرير القارة من الاستعمار وتأمينها من السيطرة الإمبريالية، وبعد استقلال عدد من الدول الإفريقية، أعلن عبد الناصر في مؤتمر أديس أبابا 1963 أن الاستعمار الذي لم يرحل عن بعض أجزاء إفريقيا، يحاول بشكل وبأدوات أخرى، تحت رداء الأمم المتحدة التى جلبت على الكونغو أزمته العنيفة، وتلك إشارة إلى الاستعمار الجديد.

القاهرة ومواجهة الاستعمار
قاومت مصر الاستعمار بإفريقيا في إطار ثلاثة أشكال، الأول عبر مواجهة الاستعمار التقليدي، عن طريق تأييد حركات التحرر الإفريقية ومساندتها عسكريًّا وإعلاميًّا وسياسيًّا، فقد وقفت مصر مع كل حركات التحرير في القارة بدون استثناء، ولم تظهر أي حركة تحرير إلَّا وكانت على اتصال بالقاهرة، واتخذت مساندة القاهرة لحركات التحرير عدة صور، فمن الناحية العسكرية كانت مصر أول دولة في العالم تقدم مساعدات عسكرية لحركات التحرير، كما وفرت التدريب لكوادر هذه الحركات في المعاهد المصرية، مثل مدرسة الصاعقة والكلية الحربية، كما أعدت المخابرات العامة المصرية ونظمت لنقل هذه الأسلحة وتوصيلها إلى مناطق المقاومة، إضافة إلى تأمين وصول أفراد المقاومة للتدريب وعودتهم لبلادهم، وساهمت صفقة الأسلحة التشيكية عام 1955 في توفير جزء كبير من العتاد البريطاني السابق، الذي يمكن استخدامه من قِبَل هذه الحركات في المناطق البريطانية من إفريقيا على وجه الخصوص، وحين أنشأت لجنة التنسيق لتحرير إفريقيا التابعة لمنظمة الوحدة الإفريقية عام 1963، من قِبَل بعض الدول، كان من بينها مصر استأنفت مصر دورها في دعم حركات التحرير عبر هذا الإطار التنظيمي الإفريقي الجديد، والملاحظ أن العمل العسكري كان موجهًا أساسًا ضد قوى الاستعمار، التي لم تكن مستعدة لتطوير الحكم الذاتي في أقاليمها نحو الاستقلال، وبصفة خاصة، المستعمرات البرتغالية السابقة ونظم حكم الأقليات البيضاء في كل من روديسيا (زيمبابوي الآن) وجنوب إفريقيا، كما كانت مصر تقدم مساعداتها العسكرية لجميع حركات التحرير مهما كانت انتماءاتها، ومن ثم احتفظت مصر بعلاقات طيبة بكل القوى الوطنية في القارة، ودون أي تدخل لفرض أشخاص أو نظام معين.

لم تكتفِ القاهرة بتقديم المساعدات العسكرية، بل قدمت مساعدات إعلامية، حيث أنشأ عبد الناصر صوت إفريقيا بالإذاعة المصرية على غرار صوت العرب، وكان يبث باللغة السواحيلية، متوجهًا لكينيا وشرق إفريقيا، خاصة بعد أحداث ثورة الماوماو واعتقال الزعيم الكيني جومو كينياتا، كما صممت برامج إذاعية أخرى باللغات الإفريقية المحلية لكل أجزاء إفريقيا المختلفة، ومنحت الفرصة لحركات التحرير ومكاتبها في القاهرة لمخاطبة شعوبها مباشرة، وأصبحت مصر الدولة الأولى في العالم التي تتحدث باسم الثورة الإفريقية ضد الاستعمار، وإضافة لذلك ساندت مصر سياسيًّا القضايا الإفريقية أو قضايا التحرر الإفريقي، بتكتيل الرأي العام الدولي بالمحافل والمنظمات المختلفة لصالح هذه القضايا، خاصة في إطار حركة عدم الانحياز، كما ساهمت مصر بشكل مباشر في دعوة حركات التحرير وإيفادها على نفقتها الخاصة إلى نيويورك كي تتمكن من الدعوة لقضاياها أمام لجان الأمم المتحدة الخاصة.

مصر والحركات الانفصالية
كان الشكل الثاني يتمثل في مواجهة الاستعمار الجديد والنظم العميلة والحركات الانفصالية، فقد كان تصور عودة الاستعمار بطرق أخرى من الأفكار التي تؤرق القيادة المصرية، كما كان يؤرق قيادات كثيرة في القارة الإفريقية آنذاك، وكانت معاهدات الدفاع التي تعقد مع البلاد التي استقلت أو الاحتكارات الأجنبية التي كانت تتحكم في مقدرات هذه البلاد، من قبيل النشاط والتغلغل الإسرائيلي بالقارة، كل ذلك قاومته مصر بطرق مختلفة، حيث ساعدت زامبيا بعد استقلالها، في محاولتها لتأميم شركات النحاس، كما ساعدت الصومال حينما تعرضت للضغط الإيطالي الحكومي ولضغط الشركات الإيطالية، التي كانت تحتكر شراء وتوزيع الموز الصومالي، حيث كان يعد محصولًا قوميًّا، وقدمت مصر قروضًا لغينيا، التي أحكمت فرنسا أيام حكم ديجول الضغط عليها لإسقاط حكومة سيكوتور، لخروجها عن الصف واختيارها للاستقلال التام عن فرنسا.

وقدمت القاهرة مساعدات عسكرية لبعض الدول الإفريقية المستقلة؛ كي لا تلجأ لطلب المعونات العسكرية الأجنبية، خاصة من إسرائيل ومن تلك الدول، مالي إضافة إلى كينيا والصومال وغيرها، كما وقفت مصر بجانب الحكومات المركزية الوطنية الإفريقية ضد المحاولات الانفصالية المشبوهة؛ سواء نيجيريا إبان الحرب الأهلية في بيافرا، أو في الكونغو ضد انفصال كاتنجا، إضافة إلى السودان ضد كل المحاولات الانفصالية من قِبَل القوى والأحزاب الجنوبية المدعومة من الخارج.

مساندة الأقليات
الشكل الثالث، ساندت مصر الأغلبية ضد نظام حكم الأقلية البيضاء، سواء فى روديسيا الجنوبية (زيمبابوى حاليًا) عن طريق دعم حركات التحرير فيها ضد حكومة سميث، وبالنسبة لجنوب أفريقيا فقد وقفت مصر ضد سياسات التمييز العنصرية والأبارتهيد التي كانت تتبعها الحكومة البيضاء، ومنذ أن اعتبر عبد الناصر نفسه مسؤولًا وشريكًا في الصراع الجاري بهذه المنطقة بين البيض والسود، وضعت مصر نفسها في مقدمة البلاد التي أعلنت قطع علاقتها مع حكومة جنوب إفريقيا العنصرية آنذاك 30 مايو 1961، كما شاركت مع 28 دولة أخرى لعرض قضية الأبارتهيد بمجلس الأمن للمرة الأولى عام 1962 مما أدى في النهاية إلى اعتبار سياسة التفرقة العنصرية سياسة تهدد السلم والأمن الدوليين، وكان ذلك مقدمة للمقاطعة والحظر التطوعي على مبيعات السلاح لحكومة بريتوريا العنصرية، وفي نفس الوقت كان هناك اتصال مصري بحركات التحرر في جنوب إفريقيا من خلال كوادرها، وعبر البرامج الإذاعية الموجهة سواء باللغة الإنجليزية أو بلغة الزولو.

ركز عبد الناصر على كسب ود الشعوب الإفريقية كافة، دون ان يخسر أحدًا، فبعد تولي عبد الناصر طالبت حركة تحرير إريتريا الاستقلال عن إثيوبيا، فقرر عبد الناصر التريث، ولم يقدم أي نوع من المساعدات العسكرية لثوار إريتريا، بل كان موقف مصر في تلك الفترة هو احترام وتأييد قرار الأمم المتحدة الصادر في ديسمبر 1950 الخاص بضم إريتريا إلى إثيوبيا في اتحاد فيدرالي.

الجانب الديني وحل أزمات إفريقيا
وعن طريق الأدوات الدبلوماسية والمساعدات والتركيز على الجانب الديني تعامل عبد الناصر مع إثيوبيا، حيث كانت الكنيسة الإثيوبية تابعة للكنيسة الأرثوذكسية المصرية، بل وكانت الكنيسة الأم في مصر ترسل القساوسة من مصر للعمل بالكنائس الإثيوبية، فضلًا عن التركيز على الدعم التجاري والثقافي، وانتقال الخبراء المصريين بمختلف المجالات إلى إثيوبيا، لذلك هدم عبد الناصر كل الآمال الأمريكية التي كانت تنعقد على مصر بعد ثورة يوليو بأن تكون مصر حليفة لها، لكن جاء الرجل الذي نغص على الولايات المتحدة والمستعمر كل أطماعه، فكلما حاولوا بسط نفوذهم أو التدخل في شؤون أي دولة إفريقية وجدوا عبد الناصر سدًّا منيعًا لقوة علاقته بجيرانه وثقتهم به حتى ضجت أمريكا في هذا الوقت من عبد الناصر، حتى قال أيزنهاور، رئيس أمريكا في هذا الوقت، لوزير خارجيته جون فوستر دالاس: الولايات المتحدة لن تسيطر على إفريقيا ولن تصل لمبتغاها إلَّا بالسيطرة على الفكر الناصري أو بإقصائه أو حتى باغتيال عبد الناصر نفسه.

لم يتوان عبد الناصر في محاولة بناء دولة قوية، وعلم أن السر يكمن في قوة جيرانه وتعزيز صلتة بإفريقيا والوطن العربي، وظل يحمل القضية الإفريقية والعربية على عاتقه حتى ضجت الولايات المتحدة منه ورأوا أنه لا أمان لأمريكا إلَّا بالتخلص من ناصر، فحقًّا إذا كان مصطلح الحرب الباردة أطلق في تلك الفترة على العلاقات الأمريكية السوفيتية، فإن الحقيقة أيضًا أن الحرب الباردة بمنطقة الشرق الأوسط والقارة الإفريقية كانت بين الولايات المتحدة الأمريكية وعبد الناصر بشكل شخصي مباشر، فقد ظل ناصر حارس إفريقيا والوطن العربي الأمين، لذلك فلا نستغرب إذا كانت الميادين العربية والإفريقية تكتسي بصورته في أي مناسبة وطنية أو أي ثورة أو مظاهرة للمطالبة بالحق والحرية.

تقرير الـ CIA حول سياسة عبدالناصر فى أفريقيا عام 1964:
تنبأت الـ CIA بانحسار النفوذ المصرى فى أفريقيا تحمل الوثيقة رقم 0000008134 من مجموعة مجلس الاستخبارات الوطنيةNIC ، والصادرة فى 9 يناير 1964، عنوان» سياسات وطموحات عبدالناصر فى أفريقيا السوداء». وهى مذكرة خاصة رقم 1-64، صادرة عن مكتب التقديرات الوطنية، بوكالة الاستخبارات المركزية فى الولايات المتحدة الأمريكية، الوثيقة عبارة عن مذكرة موجهة – وموقعة - من رئيس المكتب Sherman Kent إلى مجلس التقديرات الوطنية.

تبدأ المذكرة بتحديد أهداف عبدالناصر فى القارة وهي:
1- باعتبار أن ناصر نفسه شديد الثورية، فهو يريد للقارة الأفريقية أن تنقطع تماما مع ماضيها الاستعماري، ويعتبر أن ثورته نموذج مناسب لكل أفريقيا، وبحكم علاقات مصر التاريخية والجغرافية، فهى تستطيع ان تقدم المساعدة للدول الأفريقية بسبب التقدم الفنى لديها، وأنها قائد طبيعى للنضال ضد الإمبريالية والاستعمار.

2- وعى عبدالناصر للتهديد الإسرائيلى للجمهورية العربية المتحدة فى القارة الأفريقية. فذعر عبدالناصر وجزء كبير من العالم العربى من إسرائيل، يعود للوجود الدبلوماسى الفعال الذى أنشأته إسرائيل مع جزء رئيسى من أفريقيا السوداء المستقلة حديثا. بالمقابل، كثفت القاهرة من برامج المساعدات الثقافية والفنية والعسكرية. وحتى إذا لم يكن هناك حافز آخر، فإن عبدالناصر كان ليستمر فى أنشطته فى أفريقيا ببساطة بدون المنافسة مع إسرائيل.

3- لم يكن عبدالناصر يعتبر اهتمامه وسياسته فى أفريقيا لمجرد كسب الهيبة فى القارة، بل لتعزيز دوره فى المشهد العالمي، خصوصا بين دول عدم الانحياز، وأن سعى عبدالناصر نحو هذه الأهداف لم يكن مخططا بالضرورة، بل غالبا ما كان رد فعل للمواقف والفرص السانحة أمامه.

بعد ذلك تتطرق الوثيقة لما أسمته التأسيس الأفريقى للجمهورية العربية المتحدة وأصوله، إلا ان البند الأول من تلك الأصول تم طمسه فى الوثيقة، ولا توجد أى اشارة عن طبيعة البنود المحذوفة او المطموسة فى الوثيقة، بعدها تتحدث الوثيقة عن دور الجمعية الأفريقية بالزمالك.

ـ إن أحد الأصول الموجودة لدى الجمهورية العربية المتحدة فعلاً، هو ذلك الجمع المتنوع من المنفيين والمنشقين الأفارقة الذين لجأوا إلى القاهرة، فحاليا يوجد اكثر من عشرة أقاليم أفريقية ممثلة فى منظمة تسيطر عليها الحكومة معروفة باسم الجمعية الأفريقية. ومقابل هذا الدعم السخي، يقدم هؤلاء المغتربون النقد والتعليق حول المشكلات الخاصة بأوطانهم.وهم يمثلون أيضا نقطة اتصال مع حركات التحرر الوطنى الأفريقية فى جميع انحاء القارة. اهتمت الوثيقة أيضا بالروابط الدينية الإسلامية مع أفريقيا جنوب الصحراء والمنح الدراسية التى تعطى للطلاب الأفارقة للدراسة فى الأزهر، كذلك للمدرسين الذين ترسلهم القاهرة إلى الدول المختلفة، كما اهتمت الوثيقة بالإذاعات الموجهة للدول الأفريقية سواء راديو القاهرة أو صوت أفريقيا الحرة، وأن المجلس الرئاسى الذى يضع السياسة الخاصة بالبث الإذاعى الداخلى فى القاهرة، قد خصص سبع ساعات يوميا للإذاعات الأفريقية، ومعظم المواد الخاصة بتلك الإذاعات تأتى من خلال المنفيين واللاجئين المدعومين والمقيمين فى القاهرة.

تحكم الوثيقة بقسوة على جهود عبدالناصر فى أفريقيا رغم اعترافها بمناورات القاهرة الذكية فى القارة، فتقول إنه حتى الآن، فإن جهود عبدالناصر لكسب النفوذ فى أفريقيا قد فشلت، فرغم تقديم ناصر كداهية لأول مرة امام العالم الأفريقى والآسيوى فى باندونج عام 1955، وبعد ذلك فى المؤتمر الناجح لمنظمة تضامن الشعوب الأفريقية والآسيوية 1957، فإن جهود كل من موسكو وبكين للسيطرة على المنظمة، لم تترك مجالا كبيرا للقاهرة.

تستمر الوثيقة فى عرض سياسات عبدالناصر فى القارة سواء فى أزمة الكونغو او منظمة الوحدة الأفريقية وانتخاب محمد فايق فى لجنة تحرير المستعمرات، أو دعم عبدالناصر لحركات التحرير الأفريقية فى الجنوب الأفريقى والهجوم على جنوب افريقيا والبرتغال، فى النهاية تتحدث الوثيقة عن عدة عوامل تعمل على عرقلة جهود عبدالناصر لتعزيز نفوذه فى أفريقيا وعلى رأسها صورة العرب فى أعين الأفارقة السود ، فلايزالوا يتذكرونهم كتجار للعبيد من الأجيال السابقة، كذلك فإن اهتمام القاهرة بنفوذها السياسى فى القارة، يزيد من المخاوف الأفريقية، والتى تجعل من إسرائيل، فى مثل تلك الظروف مصدرا آمنا للمعونات والمساعدات الفنية.

تنتهى الوثيقة المكتوبة فى بداية عام 1964بتوقع لسياسة عبدالناصر فى أفريقيا، فمن غير المرجح أن يحقق عبدالناصر درجة كبيرة من النفوذ السياسى فى أفريقيا السوداء، فالتوتر بين العالمين العربى والأفريقى سوف ينمو على مدى السنوات القادمة، وتوقعت الوثيقة أيضاً بأن ينحسر نفوذ عبدالناصر فى أفريقيا الاستوائية كذلك.!!

لقد أهملنا أفريقيا كثيرا ...............