سعيد الشحات يكتب: ذات يوم 24مايو 1941..
أمسك الفنان محمد عبدالوهاب عوده وراح يغنى موال: «زعق الوبور ع السفر عيطت رايحين فين/ رايحين تغيبوا سنة ولا تغيبوا اتنين»، فبكت السيدات، وأخرجت كل واحدة منهن منديلها الصغير المزركش من حقيبة يدها لتمسح دموعها.

هكذا ينقل محمد التابعى جانبا مما كانت عليه السهرة التى دعا لها فى منزله يوم 24 مايو «مثل هذا اليوم» من عام 1941، لوداع المطربة أسمهان التى قررت السفر يوم 25 مايو إلى سوريا لتنفيذ مهمة أوكلتها لها المخابرات البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية، وهى أن يطمئن الحلفاء إلى موقف جبل الدروز منهم أثناء الزحف على سوريا ولبنان ضد القوات الفرنسية الموالية لألمانيا «راجع ذات يوم 23 مايو»، ويذكر التابعى فى كتابه «أسمهان تروى قصتها» عن «دار الشروق - القاهرة» أنه نصحها بخطورة المهمة التى ستنفذها، وأن الأمر ليس مغامرة سينمائية بل هو خطر شديد أكيد فى كل خطوة تخطوها، وأنه لا يثق كثيرا ولا قليلا فى حسن رأيها، وأن لسانها «سايب»، وتحب الشراب، والشراب يطلق اللسان ويفضح الأسرار، ويضيف التابعى أنه سألها: «هل باحت بهذا السر لأحد سواى»؟ قالت: كلا، فأنت وحدك الذى تعرفه، وحذرنى «مستر سمارت» (المستشار الشرقى فى السفارة البريطانية) من أن أبوح بشىء لأحد ما، وذكر اسمك أنت بالذات، ولكننى لم أستطع أن أخفى سرى عنك، ولأننى أعتمد على رأيك، فرد التابعى عليها: يبدو لى أنك لم تحضرى لتأخذى رأيى وإنما لتبلغينى قرارا انتهيت إليه»، فقالت: «صحيح».

يذكر «التابعى» ما كانت عليه «أسمهان» أو «آمال» - اسمها الأصلى - يوم 24 مايو، قائلا: «قضت يوم السبت 24 مايو فى مقابلة سير والتر سمارت ليعد لها جواز سفرها، ثم مستر ناييير فى تسوية شؤونها، وفى المساء دعوت بعض أعز صديقاتها إليها للاجتماع بها فى حفلة صغيرة أقمتها لها فى دارى، ودعوت من الرجال الأستاذ محمد عبدالوهاب، والأستاذين عباس حسين رئيس قلم المستخدمين بوزارة العدل، وجمال جبر، وفى هذه السهرة حط القدر سطرا آخر فى لوحه المحفوظ، وقضائه المحتوم، حيث التقت «آمال» لأول مرة بالآنسة مارى قلادة التى حضرت مع إحدى السيدات المدعوات، وقامت منذ تلك الليلة بينها وبين آمال صداقة دامت حتى الموت».

يوضح التابعى: «كانت الآنسة مارى تود من زمن أن ترى وتسمع أسمهان عن قرب، فلما عرفت من السيدة صديقتها أنها مدعوة لقضاء السهرة مع أسمهان طلبت منها أن تصحبها معها، وأجابتها الصديقة إلى ما طلبت»، ويعلق التابعى: «ما أعجب أحكام القدر فلولا تلك السهرة، ولولا حضور مارى لما نشأت بينها وبين آمال تلك الصداقة، التى حملت مارى على أن تبقى دائما بجانب صديقتها أسمهان سواء فى بيروت أو مصر، ولما سافرت معها بالسيارة إلى رأس البر يوم لقيت الصديقتان منيتهما معا فى الطريق».

يتحدث «التابعى» عن وقائع ما جرى فى سهرة وداع أسمهان، مؤكدا أنه لم يخبر أحدا مسبقا بسفرها، وإنما هى التى أعلنت أنه يوم غد «25 مايو» ولم تذكر السبب، واستحلفت الحاضرين على كتمان هذا الخبر، ويعلق التابعى: «يرحمها الله ما كان فى مقدورها أن تكتم طويلا أى سر مهما كان خطيرا»، ويضيف: «ظنت السيدات أنها تسافر لأن المدة المرخص لها بإقامتها فى مصر قد انتهت، وتركتهن على هذا الاعتقاد، وأقبلت السيدات صديقاتها يسألننى: كيف لا أساعدها كما ساعدتها من قبل وأسعى عند ولاة الأمور بوزارة الداخلية ليمدوا لها مدة إقامتها، هذا وأنا ساكت، ماذا أقول؟ وخرجت السيدات من السؤال إلى التوبيخ، وبدأت أسمع: اخصيه على كده، يا ندامة، أصدقاء إيه دول، ورجالة إيه دول، إلى آخره».

جاء الدور على الفنان محمد عبدالوهاب للمشاركة فى وصلة تأنيب «التابعى»: «رأى صديقنا الحبيب عبدالوهاب أن يستغل الموقف ضدى فتناول عوده وراح يغنى الموال المشهور: «زعق الوابور ع السفر» فأخرجت كل سيدة منديلها الصغير المزركش من حقيبة يدها تمسح دموعها، وانهالت الشتائم على رأسى من جديد، حتى الأصدقاء الرجال الثلاثة بدأوا هم أيضا، كما بدا لى من نظراتهم، بدأوا يراجعون أنفسهم فى حسن ظنهم بى، ولماذا لا أعمل شيئا لهذه المسكينة آمال، ولكننى سكت وسيجارتى لا تفارق فمى إلى أن انتهت السهرة، وانصرفت آمال مع صديقاتها وانصرف الجميع»...!!