د. مراد وهبة
أظن أن عنوان هذا المقال يأتى مرادفا لعنوان مقال كان قد نشره رفيع المقام الدكتور مصطفى الفقى فى جريدة الأهرام بتاريخ 16/4/2019 وهو على النحو الآتي: دوران النخب. وثمة فقرتان فى هذا المقال تدلان على مغزى العنوان: تقول الفقرة الأولى إن دوران النخب يعبر عن حيوية المجتمعات وقدرتها على تجديد ذاتها، وهو يبدو أكثر وضوحاً فى فترات التحول إذ يبدو الأمر حينئذ وكأنه مخاض جديد.

وتقول الفقرة الثانية إن دوران النخبة لا يقل أهمية عن تداول السلطة فقد تتبدل الأخيرة وتبقى النخبة جاثمة على صدر الأجيال الجديدة وتكتفى باعتبار تداول السلطة بديلاً كاملاً لدوران النخبة. ومغزى الفقرتين يكمن فى أن فترات التحول تستلزم مولد نخبة جديدة. وتأسيساً على هذا المغزى يمكن القول إن ثورة 25 يناير وثورة 30 يونيو باعتبارهما من فترات التحول فإنه من اللازم أن يكون لها نخبة جديدة. ولكن ما حدث جاء خاليا من هذا التلازم.

وفى سياق هذا الخلو كانت النتيجة الحتمية أن النخبة الاخوانية التى كانت قائمة حينذاك هى التى استولت على قيادة الثورة الأولي، ثم جاءت الثورة الثانية وأجهزت عليها وأقصتها، وعندئذ حدث دوران للسلطة ولكن لم يحدث دوران للنخبة، ومن ثم بدت السلطة السياسية الجديدة بلا سند من نخبة مغايرة الأمر الذى ترتب عليه مواجهة هذه السلطة لإرهاب الاخوان المسلمين برعاية من نخبة قائمة زعمت أنها غير إخوانية، ومع ذلك فإنه على الرغم من زعمها إلا أن فكرها مماثل لفكر الاخوان.

وإليك الأدلة: المعاهدة المصرية الاسرائيلية التى أبرمت فى 26 مارس 1979 تنص على الاعتراف المتبادل، وتطبيع العلاقات فى جميع المجالات، وسحب القوات الاسرائيلية من سيناء مع تركها منزوعة السلاح ومع ذلك وافقت اسرائيل على تمكين مصر من نشر قوات إضافية فى شمال سيناء لمحاربة الارهاب الأصولي.

ومع ذلك كله فإن النخبة اتفقت مع الاخوان المسلمين على رفض المعاهدة بوجه عام ورفض التطبيع الثقافى بوجه خاص كما اتفقت معها على إدانة مَنْ يؤيد التطبيع مع اتهامه بالخيانة.

كما اتفقت النخبة مع الاخوان المسلمين فى القول بأن على السلطة السياسية أن تنشغل بتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وإتاحة حرية الرأى للمعارضين لأن هذا الانشغال هو الذى يقضى على الارهاب.

وكذلك اتفقت النخبة مع الاخوان المسلمين فى مجال التعليم على أن إصلاح هذا المجال لا يستقيم إلا مع رفع المستوى الاقتصادى للمعلم. أما الانشغال بغير ذلك من إلغاء التلقين والحفظ أو الدعوة إلى الإبداع فهذا تهديد للتراث. وللمرة الرابعة تتفق النخبة مع الاخوان المسلمين على أن الحضارة الغربية هى العدو المشترك للحضارة الاسلامية.

والسؤال بعد ذلك: هل ثمة أمل فى مولد نخبة مغايرة لنخبة قائمة؟
الرأى عندى أن هذا الأمل لن يكون ممكناً إلا إذا حدث صراع بين نخبة قادمة ونخبة قائمة. أقول هذا الرأى وفى ذهنى ما حدث فى أوروبا فى القرن السابع عشر. وفى هذا السياق صدر كتاب عنوانه التنوير الراديكالي.

والمؤلف هو المؤرخ الأمريكى جوناثان اسرائيل. وقد صدر الكتاب فى عام 2001، أى مع بداية القرن الحادى والعشرين. والكتاب، فى مجمله، يتناول الفترة من 1650 إلى 1750، أى يتناول فترة زمانية مدتها مائة عام. والسؤال إذن لماذا هذه الفترة دون غيرها من الفترات؟ لأنها بداية الصراع الذى دار حول فلسفتين لفيلسوفين من أعظم فلاسفة تلك الفترة وهما الفيلسوف الفرنسى ديكارت والفيلسوف الهولندى سبنوزا.

كان ديكارت يمثل مايقال عنه التنوير المعتدل وسبنوزا يمثل ما يقال عنه التنوير الراديكالي. فالأول كان من رأيه أن ما يحدث فى الكون إنما هو خاضع لقوانين صارمة يقال عنها إنها قوانين آلية لا دخل فيها للصدفة. وقد حاول التيار السلفى فى فرنسا منع انتشار أفكار ديكارت وسط الجماهير فارتحل ديكارت إلى هولندا حيث حرية الفكر. وفى أمستردام رأيت لوحة على شرفة أحد المنازل مكتوبا عليها بالفرنسية منزل ديكارت.

وفى تلك المدينة ألف ديكارت معظم كتبه فنشأ تيار ثقافى مؤثر أُطلق عليه التيار الديكارتي. ومع ذلك منعت خمس جامعات تدريس الفلسفة الديكارتية. وفى ألمانيا حدث صراع بين المؤيدين والمعارضين لتلك الفلسفة.

أما الثانى وهو سبنوزا فقد تأثر بالديكارتية ولكن بأسلوب راديكالى إذ تصور الله على أنه خالق ومخلوق بمعنى أن الطبيعة تخلق ذاتها وتحركها، ومع ذلك فالله هو خالقها، ومن ثم فإن ما يحدث فى الكون ما كان يمكن أن يحدث إلا على الوضع الذى أراده الله، وليس على أى وضع آخر.

ومن هنا كانت فلسفة سبنوزا موضع صراع إلى الحد الذى ألَف فيه كتاباً عنوانه: الرسالة اللاهوتية السياسية, دون ذكر اسمه على الغلاف.

ثم ألَف كتابا عنوانه: الأخلاق وفكر فى نشره إلا أنه أحجم خشية الفتنة فأوصى بنشره بعد موته مع عدم كتابة اسمه على الغلاف إلا أن الناشر اكتفى بكتابة ثلاثة حروف من اسمه ب.د.س لأن اسمه باروخ دى سبنوزا.

وتأسيسا على ذلك يمكن القول إنه ليس من الميسور مولد نخبة مغايرة ومع ذلك فإن مولدها حتمى بحكم تطور المسار الحضارى من الفكر الأسطورى إلى الفكر العقلاني.

وفى هذا السياق أظن أننا فى انتظار مولد نخبة مغايرة مع مولدها أيضا فى دول أخرى من أجل استدعاء وضع ثقافى متنور قادم بديلاً عن وضع ثقافى متخلف قائم.
نقلا عن الأهرام