د.مينا بديع عبدالملك
ظل باراباس واقفًا بلا حراك، ناظرًا من خلال الممر الذى أصبح خاليًا الآن. وإذا بالحارس يدفعه ويصرخ فيه: لماذا تقف هكذا فاتحًا فمك؟ اخرج من هنا، أنت حُر! لقد أفاق من ذهوله وخرج من البواكى نفسها، وحينما رأى الآخر يجر صليبه فى الطريق سار وراءه. لماذا؟ إنه لا يدرى. من المؤكد أنه لم يكن هناك داعٍ لوقوف هؤلاء الملتفين حول الصليب! إلا إذا كانوا يريدون ذلك. لكن ليس من شك أنهم من الأقارب والأصدقاء المقربين.

من المؤكد أيضًا أن هذه المرأة أمه على الرغم من أنها لا تشبهه، لكن من ذا يستطيع أن يشبهه؟ تبدو كأنها قروية، صارمة وحزينة، وهى قد ظلت تمسح فمها وأنفها بظهر يدها، وكان أنفها يسيل، لأنها كانت على وشك البكاء لكنها لم تبك. لم يكن حزنها شبيهًا بحزن الآخرين عليه، كذلك لم تكن تنظر إليه مثلما ينظرون. وهكذا بات واضحًا أنها أمه، ومن المحتمل أن حزنها عليه يفوق حزنهم.

وباراباس يعرف كل المعرفة الرجل المُعلق على الصليب الأيمن، كان اسمه «ديماس»، ولو تصادف ولمحه هذا الرجل المُعلق فقد يظن أنه إنما جاء ليتفرج عليه، كى يرى كيف يتعذب. بيد أن الحقيقة تخالف ذلك، لم يحضر إلى هنا لهذا السبب على الإطلاق. لكن لماذا ينظر إلى الرجل المُعلق على الصليب الأيمن ولا ينظر إلى الرجل المُعلق فى المنتصف، الرجل الذى علقوه بدلًا منه هو؟ لقد جاء إلى هنا بسببه. هذا الرجل قد أجبره على القدوم إلى هنا. هذا الرجل يسيطر بقواه الغريبة عليه. ليس هناك أبأس من منظره وهو معلق على الصليب، أما الإثنان الآخران فلا يشبهانه بالمرة، ولا يبدو أنهما يتعذبان مثلما يتعذب. ليست لديه القوة لكى يرفع رأسه، ذلك الرأس الذى انحدر على صدره فجأة. ثم ها هو ذا يرفع رأسه قليلًا دون أن يتغير من مظهره شىء، الصدر النحيل الخالى من الشعر يعلو ويهبط، واللسان يلعق الشفتين الجافتين. وصدر منه أنين يدل على أنه عطشان. ولم يسمعه الجنود الذين كانوا قد تمددوا وشرعوا يلعبون النرد على مسافة أسفل المنحدر، وقد ضايقهم أن الرجال المعلقين استنفدوا مدة طويلة ولم يموتوا بعد، غير أن أحد الأقارب هبط التل وأخبرهم بأنه عطشان. وعلى مضض نهض أحد الجنود وغمس قطعة إسفنج فى دلو، ورفعها على عصا إلى الرجل المُعلق، لكنه حين ذاق هذا السائل المتعفن الملوث رفضه. ووقف الحارس وقد كشف عن أسنانه، ولما عاد إلى رفاقه وحكى لهم ما حدث كشفوا بدورهم عن أسنانهم. وتطلع الأقارب أو غير الأقارب إلى الرجل المصلوب فى يأس. وأخذ يشهق ويشهق، وكان واضحًا أنه سيلفظ أنفاسه الأخيرة سريعًا. وفكر باراباس، الأفضل أن تحين وفاته بسرعة، حتى لا يضطر هذا الرجل المسكين إلى معاناة مزيد من العذاب. آه! لو لفظ أنفاسه الأخيرة! ما كان أن يلفظها حتى يسرع هو مبتعدًا ولا يفكر فى الأمر بعد ذلك أبدًا! وفجأة أظلم التل كله، وكأن النور قد زايل الشمس، وسادت ظلمة حالكة، ووسط الظلمة التى تعلو الرءوس صرخ الرجل المصلوب بصوت عالٍ: «إلهى، إلهى، لماذا تخليت عنى؟» كان للعبارة رنين مخيف. ماذا يعنى؟ ولماذا أظلمت الشمس؟ لقد كانوا فى منتصف النهار. إنه أمر لا يمكن تفسيره. أما الصلبان الثلاثة فبدت شاحبة فوق التل، وبدا الأمر لغزًا. شىء رهيب سيحدث دون شك. هب الجنود واقفين وأمسكوا سلاحهم- إن أى شىء يحدث، أيا كانت طبيعته، يجعلهم يهرعون إلى سلاحهم- التفوا حول الصلبان برماحهم، وسمعهم يتهامسون فيما بينهم بانزعاج. ولقد تسرب إليه الخوف بدوره، وسُرَّ حين بدأ الضياء ينتشر من جديد وأصبحت الرؤية عادية نوعًا. كان الضياء ينتشر ببطء، مثلما يحدث وقت الفجر. وشمل ضوء النهار التل وأشجار الزيتون المحيطة بالمكان، والطيور التى صمتت بدأت تشقشق من جديد. مثلما يحدث وقت الفجر. أما الأقارب الواقفون أعلى التل فشملهم صمت عميق. لم يعد يصدر عنهم صوت بكاء أو عويل، وإنما وقفوا لا يبدون حراكًا، متطلِّعين إلى الرجل المصلوب، حتى الجنود فعلوا ذلك. لقد ران السكون على كل شىء.

يستطيع الآن أن يذهب إلى أى مكان يشاء، لقد انتهى كل شىء، والشمس سطعت من جديد، وكل شىء عاد إلى صورته الأولى. إنما أظلمت الدنيا برهة لأن الرجل مات. نعم سينصرف، بالطبع سينصرف. لا داعى لأن يبقى هنا ما دام هذا الرجل الآخر قد مات. لم يعد هناك داعٍ. وأنزلوه من على الصليب، رأى هذا قبل انصرافه، ولفه الرجلان فى ثوب من الكتان النظيف، لاحظ هذا. وكان الجسد أبيض جدا، وكانوا يمسكون به فى حرص بالغ، ولأنهم يخشون أن يلحقوا به أدنى ضرر، أو يسببوا له ألمًا من أى نوع. كانوا يتصرفون بطريقة غريبة للغاية. ومر به الموكب الحزين على مسافة غير بعيدة. الرجال يحملون الجسد المُدرج فى أكفانه، والنسوة يسرن فى المؤخرة. وهبطوا متَّجهين إلى طريق الجلجثة، ثم انحرفوا ناحية اليسار، وتبعهم وبينه وبينهم مسافة تجعلهم لا يلمحونه. وفى حديقة غير بعيدة وضعوا الميت فى قبر منحوت فى صخرة. وبعد أن صلُّوا بجوار القبر سدوا المدخل بحجر كبير وانصرفوا. وسار متَّجهًا إلى القبر، ووقف هناك فترة، لكنه لم يصلِّ، ذلك أنه آثم ولن تُقبل صلاته، خاصة أنه لم يُعاقب على جريمته. يضاف إلى هذا أنه لا يعرف الرجل الميت. ومع هذا فقد لبث هناك فترة، ثم مضى بدوره متَّجهًا إلى أورشليم. فى أورشليم التقى باراباس صديقته القديمة رفيقة حياة الخطية والفساد، لكنها كانت فى صورة مختلفة عن الحياة الأولى. كلمته عن المصلوب ووجدها تذهب إلى القبر فى وسط الظلام. وعلى الرغم من أنه لم يدرك سبب التغير فى حياتها لكن مناظر الآلام والصلب التى رآها وما صاحبها من أحداث جسام لم تفارق مخيلته. ومن هنا كان فى حيرة من أمره، فلم يعد يفهم شيئًا. كانت هذه المرأة الخاطئة هى مريم المجدلية.

ولقد اختتم بارلاجير كفيست روايته باراباس بقوله: «.. أخذ باراباس يجول فى أورشليم وهو فى حيرة من أمره. يسمع كلامًا لا يمكن تصديقه، لكن ما رأته عيناه من أحداث جعلته يفكر فى أمر ذلك المصلوب. وبعد جولة طويلة فى أنحاء أورشليم قُبض عليه مرة أخرى فى جريمة قتل مع مجموعة أخرى من القتلة، واقتادوهم جميعًا كى يصلبوهم، وربطوهم بالسلاسل، اثنين اثنين، ونظرًا لأن عددهم لم يكن زوجيًا بقى باراباس فى آخر الموكب، لا تربطه السلسلة بأحد. حدث هذا مصادفة. وحدث من ثم أن أصبح مُعلَّقًا بعيدًا فى صفوف الصلبان. بيد أن المصلوبين ظلُّوا يواسون بعضهم بعضًا، ويتبادلون حديث الأمل، لكن لا أحد يتحدث مع باراباس. ولما أحس باراباس بالموت يدنو منه، لما أحس بهذا الشىء الذى ظل يخشاه أشد الخشية، نطق فى الظلام، وكأنه يخاطبه: لك أُسلم روحى، ثم أسلم الروح!».
نقلا عن الدستور