كتبت – أماني موسى
كتب الأنبا مكاريوس أسقف عام المنيا وأبو قرقاص، مقالاً بعنوان "تعالوا إليّ... ابعدوا عنّي"، قائلاً: «ومَتَى جاءَ ابنُ الإنسانِ في مَجدِهِ وجميعُ المَلائكَةِ القِدّيسينَ معهُ، فحينَئذٍ يَجلِسُ علَى كُرسيِّ مَجدِهِ. ويَجتَمِعُ أمامَهُ جميعُ الشُّعوبِ، فيُمَيِّزُ بَعضَهُمْ مِنْ بَعضٍ كما يُمَيِّزُ الرّاعي الخِرافَ مِنَ الجِداءِ، فيُقيمُ الخِرافَ عن يَمينِهِ والجِداءَ عن اليَسارِ. ثُمَّ يقولُ المَلِكُ للّذينَ عن يَمينِهِ: تعالَوْا يا مُبارَكي أبي، رِثوا الملكوتَ المُعَدَّ لكُمْ منذُ تأسيسِ العالَمِ... ثُمَّ يقولُ أيضًا للّذينَ عن اليَسارِ: اذهَبوا عَنّي يا مَلاعينُ إلَى النّارِ الأبديَّةِ المُعَدَّةِ لإبليسَ ومَلائكَتِهِ... فيَمضي هؤُلاءِ إلَى عَذابٍ أبديٍّ والأبرارُ إلَى حياةٍ أبديَّةٍ» (مَتَّى 25: 31-34، 41، 46).
 
الأحاديث والأمثال الواردة في قراءات يوم ثلاثاء البصخة تدور جميعها حول الاستعداد ليوم الدينونة، وأمّا الجزء المرتبط بهذا النص فهو المعروف اصطلاحًا بـ«بي قد فعلتم». -
 
وجدير بالملاحظة أن العطاء على مختلف المستويات في حد ذاته لا يخلّص، كما أن الإمساك لا يهلك، ولكن العطاء والرحمة كما يقول القديس ذهبي الفم يعبّران عن قلب مُحب قَبِل الخلاص، مهتم بالكنز السمائي أكثر من الاهتمامات الأرضية، وإلّا لكان بإمكان الأغنياء أن يتمتعوا بالأرضيات والسمائيات معًا عن طريق رشوة الله ببعض العطايا!
 
تعالوا... ابعدوا...
أهم عبارتين يمكن أن نسمعهما هنا ونحن على الأرض: الأولى هي "الله يحاللك"، وتأتي بعد التوبة والاعتراف، ويشعر من يسمعها بسعادة غامرة إذ غُفِرت له خطاياه؛ أمّا أصعب عبارة ممكن يسمعها هي «أُغلِق الباب»، يقول السيد المسيح: «مِنْ بَعدِ ما يكونُ رَبُّ البَيتِ قد قامَ وأغلَقَ البابَ، وابتَدأتُمْ تقِفونَ خارِجًا وتَقرَعونَ البابَ قائلينَ: يا رَبُّ، يا رَبُّ! افتَحْ لنا. يُجيبُ، ويقولُ لكُمْ: لا أعرِفُكُمْ مِنْ أين أنتُمْ!» (لوقا 13: 25).
 
أما أهم عبارتين يمكن لأحد أن يسمعهما يوم الدينونة هما: «تعالوا إليّ...» و«ابعدوا عني...»
 
هنا ولنا بعض التعليقات:
+ كم من الناس سيُغلَق الملكوت في وجوههم، وكم ممن كانوا يظنون أنهم بنو الملكوت سيُرفَضون في ذلك اليوم. وكم من الناس في المقابل يظنون الآن أنهم ضعفاء غير مستحقين، ولكنهم سيُكلَّلون هناك بالمجد.
 
+ كم من حزين هنا ومظلوم ومُجرَّب وفقير سيفرح هناك، وكم من مستهزئ متعجرف سيخزى أمام الجميع.
 
+ كم من عظماء سيُلقَون في البحيرة المتقدة بالنار، وكم من مساكين مرذولين لشكلهم أو رائحتهم، سيُعوَّضون. ولنا في هذا لعازر المسكين مثلًا، مقارنة بالغني، كان الغني يرفل في النعيم بينما كان لعازر مطروحًا مرذولًا، فصار ذاك يتعذّب وهذا يتعزّى، إذ قد استوفى أحدهما خيراته (كرامة وغنى وشبعًا)، بينما استوفى الآخر بلاياه.
 
+ كم من شخص رفضهم الناس هنا، لا احترام ولا مساعدة ولا فرصة عمل ولا تقدير من أي نوع.. وسيقبلهم الله يومها بكرامة. وكم من آخرين قبلوهم بسبب تزلُّفهم وريائهم..
 
+ وكم من مرة صرخ له مسكين وأغلق احشاءه دونه، والآن يقرع ولا يُفتَح له، يصرخ ولا يُستجاب، «لأنَّ الحُكمَ هو بلا رَحمَةٍ لمَنْ لَمْ يَعمَلْ رَحمَةً، والرَّحمَةُ تفتَخِرُ علَى الحُكمِ» (يعقوبَ 2: 13)، «وأمّا مَنْ كانَ لهُ مَعيشَةُ العالَمِ، ونَظَرَ أخاهُ مُحتاجًا، وأغلَقَ أحشاءَهُ عنهُ، فكيفَ تثبُتُ مَحَبَّةُ اللهِ فيهِ؟» (يوحَنا الأولَى 3: 17).
 
+ كم من شخص ظُلِم وظلّ مظلومًا ومات مظلومًا، لم ينصفه أحد ولم يدافع عنه أحد، وأعلن الله براءته وعوّضه خيرًا.. وكم من جبابرة عاثوا فسادًا في حياتهم وماتوا على أسرّتهم وكأنهم أبرار قديسون، ولكنهم اُفتُضِحوا هناك.
 
+ تعالوا إليّ: إن أعظم مكافأة هي حضن المسيح والذي يدعو أليه أخصاءه، وكأني به يقول لهم: تعالوا إليّ في حضني.
+ ابعدوا عني: وأصعب عقوبة بالتالي هي ابعدوا عني، فهم مرفوضون.
 
إذًا فالمكافأة العظمى للأبرار هي الوجود في الحضرة الإلهية، بينما أصعب عقوبة هي الحرمان منها، فالذين أُبعِدوا صاروا إلى النار الأبدية، وأمّا الذين قُبِلوا فإلى الملكوت الأبدي.
 
+ إن الذين صعّب عليهم بعض الرعاة الدخول إلى الملكوت كما أشار الرب في متى 23، أدخلهم الله بنفسه. وأمّا الذين ظنّوا أنهم أصحاب المكان لمجرد أنهم أولاد ابراهيم "بنوا الملكوت"، فقد طُرِدوا وقيل لهم: لا أعرفكم «فيقولُ: أقولُ لكُمْ: لاأعرِفُكُمْ مِنْ أين أنتُمْ، تباعَدوا عَنّي يا جميعَ فاعِلي الظُّلمِ!» (لوقا 13: 27).
 
هكذا أشبع الله الجياع خيرات، وصرف الأغنياء فارغين..
 
+ إن الرب الحنون الذي قال: «ومَنْ يُقبِلْ إلَيَّ لا أُخرِجهُ خارِجًا» (يومحنا 6: 37)، والذي نادى حال حياتنا على الأرض قائلًا: «تعالَوْا إلَيَّ يا جميعَ المُتعَبينَ والثَّقيلي الأحمالِ، وأنا أُريحُكُمْ» (متى 11: 28)... الآن يقول للبعض: ابعدوا عني.. إني لا أعرفكم... «فحينَئذٍ أُصَرِّحُ لهُمْ: إنّي لَمْ أعرِفكُمْ قَطُّ! اذهَبوا عَنّي يا فاعِلي الإثمِ!» (مَتَّى 7: 23). والله الذي كان يبحث عن الخروف الواحد، الآن يطرد الجداء الذين صاروا عن شماله. والذي يطيل أناته الآن وما تزال يده ممدودة، سيظهر ديّانًا عادلًا، وسيعاقب كل من استنفذ كل الفرص وأغلق قلبه دون الله.
 
+ الذين يقرعون بعد أن أُغلِق الباب يقول لهم: لا أعرفكم (متى 25: 12).
 
+ والعجيب أن بعضًا ممن سيُرفَضون كانوا ضمن من كرزوا باسمه، وأكلوا وشربوا قدامه، وعلّم في شوارعهم (لوقا 13: 26)!
 
+ إن تعبيريْ "تعالوا إليّ"، و"ابعدوا عني"، هما حكم قاطع لا يقبل النقض ولا التأجيل ولا الكفالة ولا وقف التنفيذ.. هنا نسيء ويمكن أن نعتذر، ونخطئ ويمكن أن نتوب، ونبعد ويمكن أن نعود من جديد.. ولكن هناك لا فرصة لذلك لأنه وقت الحساب. وأمّا تعبير «لا يُغفَر له لا في هذا الدهر ولا الآتي» (متى 12: 32)، فيعني أنه لا مغفرة مطلقًا، وليس أن هناك كرازة في الدهر الآتي ولا مطهر بالتالي.
 
+ وفي المزمور الخمسين نقول مع داود النبي: «لا تطرحني من قدام وجهك».. الطرح من قدام الوجه هو رفض المُتقدِّم حتى وهو ساجد، وكأنما العظيم قد "رفس" الشخص الساجد أو "رفضه"، وجاء عن داود بخصوص أبشالوم: «"ليَنصَرِفْ إلَى بَيتِهِ ولا يَرَ وجهي". فانصَرَفَ أبشالومُ إلَى بَيتِهِ ولَمْ يَرَ وجهَ المَلِكِ» (2صموئيل 14: 24). وفي ختام التسبحة نقول: "وأنا الخاطئ أيضًا يا رب، علّمني لكي أصنع توبة، يا رب لا ترذلني". وفي لحن "بي ماي رومي" للصوم الكبير نقول: "ولا تقل لي أيضًا إني لا أعرفك، اذهب عني أيها المُعَدُّ للنار الأبدية. يا محب البشر الصالح، سيدي يسوع، أسألك لا تطرحني على يسارك مع الجداء الخطاة".