منى أبوسنة
فى مقال سابق بعنوان: «العلمانية والجماهير والتحول الديمقراطى»، منشور بنفس الجريدة بتاريخ 2019/4/12 طرحت السؤال الآتى: «مَن المسؤول عن توعية الجماهير بالعلمانية وإقناعهم بضرورتها لهم فى حياتهم اليومية؟»، وقد استبعدت النخبة الثقافية والأحزاب القائمة ومنظمات المجتمع المدنى من تلك المسؤولية، وذلك لأنها خاضعة لفكر الجماهير الأسطورى بدعوى أنها تلبى احتياجاتهم، ومن ثَمَّ تحافظ على تلاشى أى صدام بينها وبين فكر الجماهير الأسطورى، ونتيجة هذا المسلك هى تغييب وعى الجماهير وتركهم للوقوع فى براثن الفكر السلفى الأصولى المضاد للعقلانية، والذى يحرم ويجرم إعمال العقل. وهذا فى تقديرى خطأ تاريخى، حيث إنه يجهض أى محاولات لتوليد العقل العام المتنور من خلال حث الجماهير على ممارسة التفكير العقلانى، أو بالأدق التفكير العلمانى وتجاوز الفكر الأسطورى.

والسؤال الآن: «مَن إذن الذى يتحمل المسؤولية التى فشلت فى تحملها القوى سالفة الذكر؟»، الجواب: الأحزاب الصاعدة بعد ثورة 30 يونيو 2013، وأخص بالذكر حزب «مستقبل وطن» وحزب «تحيا مصر». فى رأيى أنه على هذين الحزبين الصاعدين إدراك الأخطاء التى وقعت فيها الأحزاب السياسية فى الماضى، مما أدخلها فى محنة عدم القدرة على تنوير الجماهير، وذلك لأنها استبعدت العلمانية بدعوى أن الجماهير ترفضها لأنها تتصور أنها معادية للإسلام. وهذا المسلك يتسم بالنفاق فى علاقة الأحزاب بالجماهير. ولو كانت تلك الأحزاب قد تبنت العلمانية أساسًا لتوعية الجماهير من حيث إنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالواقع المتغير والمتطور لكانت قد نجحت فى دفع الجماهير نحو إخضاع فكرها الأسطورى للتفكير العقلانى من خلال إدراك العلاقة بين الفكر النسبى والفكر المطلق، وربط تلك العلاقة برفع مستواهم الاجتماعى، مع إدراك أن امتلاك الحقيقة المطلقة يوقف التطور.

والسؤال الآن هو: «ما الوسائل التى تسمح للجماهير بأن تمتلك هذا الوعى وتمارسه؟». فى تقديرى أن الإجابة عن هذا السؤال تمثل تحديًا للنخبة، المتمثلة فى قيادات الأحزاب السياسية الصاعدة وكوادرها الفكرية، باعتبار أن هذه الأحزاب، بحكم وظيفتها، على اتصال دائم بالجماهير، مما يُمكِّنها من القيام بمسؤوليتها الأصلية، وهى تنوير الجماهير وذلك بتغيير ذهنيتها من التفكير الأسطورى إلى التفكير العلمانى.

إن البحث عن الوسائل العملية يشترط إشراك الجماهير من خلال عقد لقاءات على هيئة ورش عمل يتم فيها طرح الإشكاليات التى تواجه توصيل مفهوم العلمانية إلى الجماهير، ويأتى فى مقدمة هذه الإشكاليات اكتشاف اللغة الملائمة للتواصل مع الجماهير.

وأظن أن كل هذا مُتضمَّن فى تعريف مراد وهبة للعلمانية «بأنها التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق»، ومهمة المنتمين إلى تيار العلمانية والمؤيدين لها، بعد ذلك، استنباط منهج التفكير العلمانى من التعريف وتحويله إلى وسائل وطرق عملية وتطبيقات إجرائية لاستخدامها فى تدريب الجماهير على التفكير النسبى. وهذه مهمة تشترط الإبداع، أما الهدف من البحث عن منهج التفكير العلمانى فهو محاولة فك التلاحم بين التفكير الدينى اللاعقلانى والتفكير الأسطورى الشعبى، وهنا تكمن إشكالية العلاقة بين اللغة العربية الفصحى واللغة المصرية الشعبية «العامية»، أى لغة الأسطورة الشعبية، والمطلوب هو رد المطلق الأسطورى الشعبى إلى أصوله الثقافية النسبية، بمعنى البحث عن جذور الواقع الاجتماعى المُغلَّف بالأسطورة وإزالة الأوهام المترتبة على فصل ما هو واقعى ومتزامن ونسبى عما هو مجاوز للواقع ولا زمنى ومطلق، وكل هذا يستلزم إعمال العقل الناقد فى الأساطير التى تتأسّس عليها الحكمة الشعبية ونقدها بمنهج علمى تاريخى من أجل التحرُّر منها.

وإذا كانت الديمقراطية هى حكم الشعب لنفسه وبنفسه، فإن مهمة التيار الفكرى العلمانى فى مرحلة التحول الديمقراطى فى مصر هى تدريب الجماهير على ممارسة الديمقراطية، ليس بتوجيه الجماهير نحو صناديق الانتخاب فقط، ولكن بتدريب الجماهير على التفلسف فى أمور الحياة بمنهج علمانى، فقد كان سقراط يرى أن الديمقراطية لن تتحقق إلا إذا تفلسفت الجماهير، أى إذا أعملت عقلها الناقد.

والسؤال قبل الأخير الموجه إلى الحزبين الصاعدين هو على النحو الآتى: «هل فى الإمكان تبنى مفهوم العلمانية باعتباره منهج تفكير وأسلوب حياة واتخاذه أساسًا لتوعية الجماهير بدورها فى المشاركة السياسية والاجتماعية فى مرحلة التحول الديمقراطى القادم؟».

أما السؤال الأخير فهو: «إذا لم يكن فى الإمكان تبنى العلمانية، فما البديل فى التعامل مع قضية توعية الجماهير، بمعنى تغيير ذهنيتها من التفكير الأسطورى الخرافى إلى التفكير العلمانى الواقعى؟!».
نقلا عن المصرى اليوم