فاطمة ناعوت
كتبتُ عنها بقدر ما كتبتُ على مدار عشرين عامًا، وما دار بخَلدى أبدًا أن أكتبَ عنها يومًا راثيةً بمداد الحَزَن. فهى في خيالى مقرونةٌ بالفرح والحبّ والقداسة والطفولة ونسائم العصور السحيقة. حين تدخلُها، تنسلخُ من زمانِكَ ومكانك؛ وتخلعُ راهنَك عند عتباتِها، ثم تتأهب لرحلة السفر إلى الماضى قرونًا ثمانيةً، بكل ما يحمل ذلك التاريخُ من سمات أسطورية في الدروب والأزياء واللغات وسمات المجتمع القديم. قطعةٌ أنيقةٌ من الفن الرفيع لا مثيل لها في كل العام. أقفُ أمام واجهتها الشمالية أتأملُ دقائقَ نقوشها وطرازها الدانتيليّ الفريد الخاطف للأبصار، وأندهشُ من عبقرية الإنسان حين يمتلك ناصية الفنّ. الغادةُ ابنة القرن الرابع عشر التي أُهرقت على عتباتها مائتا عام من فكر وجهد مهندسين وعمال، حتى انتصبت عملًا معماريًّا فاتنًا. ألهمت أدباء العالم وشعراءه ليكتبوا أجمل إبداعات الخيال وأخلدها. الأنيقة الرشيقةُ التي تقفُ في قلب باريس تطلُّ بوجهها الجنوبى على صفحة نهر السين، فيشخصُ النهر مأخوذًا بفتنتها، لا يحوّل بصرَه عنها.

حين زرتُها للمرة الأولى، صافحتُ كلَّ حجر في جدرانها، وأنصتُّ إلى حكاياتِ أيقوناتها وأغمضتُ عينىّ على رنين أجراسها الصادحة. حاورتُ كلَّ تمثال من تماثيلها لأستنطقه بكل ما رأى وسمع من أسرار التاريخ. طابقتُ زواياها وأعمدتها وكمراتها وأسقفها وأبراجها وزخارفها ونوافذها مع الأوراق المخبأة في ذاكرتى من أيام الدراسة، حين رسمتُ بيدى قطاعاتها ومساقطها وواجهاتها على مقاعد الجامعة، ونحن نتعلّم في درس «تاريخ العمارة» أجمل نماذج المعمار الذي شُيِّد على الطراز القوطى Gothic.

ولكن ذكرياتى مع (نوتردام دو باغى)، لم تبدأ في أيام الجامعة، بل قبل ذلك بكثير. فمن الصعب على المرء نسيان «أولَ» مرة من كل شىء. أول يوم في المدرسة، أول صديق، أول معلّمة، أول كلمة قرأها، أول لعبة امتلكها، أول حب ضرب القلب، وطبعًا أول كتاب قرأه. بالنسبة لى، وبعد تجاوُز مجلات الأطفال: ميكى وسمير وتان تان، وألغاز «المغامرون الخمسة» لمحمود سالم، وقصص «المكتبة الخضراء» الفاتنة التي كانت تصدر عن دار المعارف بمصر، بعد تجاوز تلك الأقاصيص التمهيدية الأولى، لا أنسى أن أول عمل أدبى قرأته كان: «أحدب نوتردام» للفرنسى الرائع «فيكتور هيجو». وجدت الكتابَ مُلقًى على الأرض أمام مصعد العمارة وأنا عائدة من مدرستى في الصف الثالث الابتدائى. ولم أعِ وقتها ما هي: «نوتردام»؟ كلمة طلسمية! فتحتُ الكتابَ وشرعتُ فورًا بالقراءة في المصعد، ولم أترك الرواية إلا بعدما أجهزتُ عليها! ودخل في عالمى الصغير صديقان جديدان: كوازيمودو وأزميرالدا. الأول رمزٌ للتشوّه الجسدى، والثانيةُ رمزٌ للجمال والفتنة. على أن كليهما يجتمعان في جمال الإنسان وطيبة القلب. أحدبُ بعين واحدة أصمُّ لا يجيد الكلام إلا بلعثمة، يحمل فوق ظهره نتوءًا شاذًا يجعل منه أضحوكة باريس القروسطية المتأنقة، يقع في حب تلك الصبية الغجرية الجميلة التي لفظها المجتمع؛ لأنها الوحيدة التي رحمت ضعفه وروت ظمأه وسط سخرية الناس وضحكاتهم على عذاباته. كان هذا درسى الأول عن الرحمة والحنوّ ونُصرة المظلوم. شكرًا هيجو. مستحيلٌ أن ننسى أول رواية قرأناها ولو بعد مائة عام. عرفت تفاصيل الكاتدرائية غرفةً غرفة وبرجًا برجًا وجرسًا جرسًا. وحين أدخل كلية الهندسة قسم العمارة بعد عقد كامل سأدرس تفاصيل الكنيسة في مساقطها الأفقية والرأسية كأحد أجمل القطع الفنية التي أفرزتها المدرسة القوطية Gothic Architecture في القرن الثانى عشر. شىء يشبه الحلم وأنا أتتبع بقلمى الرصاص كل خطوط الكنيسة. النوافذ الدائرية بزجاجها الملون المعشق، الأبراج، المنمنمات، الحفائر، المنحوتات، الأجنحة الطائرة، تماثيل الملائكة التي تعد الخطّاءين بالغفران. حتى الأرشيدوق «فرولو» وقارع الأجراس «كوازيمودو» رأيتهما في المساقط داخل بعض أروقة الكنيسة وعند المذبح. كأننى أسير داخلها في صحبة الأحدب الذي لم أره إلا وسيمًا ساحرًا. وحين أزور باريس لأول مرة يسألنى الرفاق: أين تريدين أن تذهبى؟ فأقول فورًا: «كاتدرائية نوتردام». أقف على ضفة نهر السين وأتأمل البناية الشاهقة، وألمح كوازيمودو يلوح لى من أحد أبراجها هاتفا: تعالى يا عزيزتى، فأنا أحبك أيضا!. وفى كتابى الجديد الذي صدر قبل أيام عن الهيئة المصرية العامة للكتاب: «الكتابة بالطباشير الملوّن»، فصلٌ تحليلىٌّ من الوجهة المعمارية بالصور عن تلك الكاتدرائية الجميلة. تلك هي الجميلة التي احترقت بالأمس وفقدتها البشريةُ ولا شىء يعوّضها. أحد أهرامات هذا العالم الذي لم يتعلم بعد كيف يحافظ على فرائده وألماساته النادرة. خسارة عالمية وتاريخية وإنسانية ومعمارية وفنية وأدبية هائلة لكل العالم. صمدت في وجه الزمان قرونًا طوالًا، ولابد من استعادتها حتى يقرعَ الحالمون أجراسَها من جديد، ونُسلّمها لأحفادنا أثرًا عظيمًا شاهدًا على عبقرية الإنسان. «الدينُ لله، والأوطانُ لَمن يحافظ على الأوطان».
نقلا عن المصرى اليوم