فى مثل هذا اليوم 17 ابريل عام 1517م

سامح جميل

 
بعد عمليات النهب والتدمير والقتل التى اتبعها السلطان العثمانى سليم اﻻول حين دخل القاهرة بجيوشه وفى مثل هذا اليوم سرت شائعة وكانت شائعة غريبه ولغرابتها لم يصدقها الكثيرين،ولكن ثبت انها حقيقة واجتمع عددا من رجال السلطان بالمدرسة الغورية لتحديد المسافرين الى اسطمبول ،واستدعوا المطلوبين وكانوا من الصفوة قضاة وحرفيين مهرة من الحرف المختلفة مثل المبلطين والمرخمين والحدادين 
 
وهؤﻻء كانوا بمثابة معلمين فى وقت لم يكن هناك تعليم ،وهم الذين انشأوا بيوت المماليك والمساجد والمدارس وابدعوا المشربيات واﻻبواب والسقوف والسجاجيد..واختاروا ايضا رجال الرأسمالية المصريةمن كبار التجار الذى يقودون حركة نقل البضائع والتجارة بين مصر والعالم ،وطلبوا ايضا جماعة من اليهود
وكان اليهود جزءا من نسيج المجتمع وطلبوا اﻻعيان من اليهود..
وكان اﻻمر تفريغ حقيقى لمصر من كوادرها فى المجاﻻت المختلفةودارت العجلة وسافر اول اﻻفواج بعد3 اسابيع...
 
إن بنى مصر كان أصله صنايعي، حرفي ماهر، استطاع أن يصنع بيديه العاريتين حضارة عريقة، تقلبت الأمم زالت ونمت وهو لم يتغير، منذ فجر التاريخ وما قبل عصر الأسرات تشهد تجمعات حضارية في نقادة وبني حسن على قوة الصنايعي المصري، ذلك الصانع الذي أبدع الحسن بن الوزان المشهور "بليو الأفريقي" في كتابه "وصف أفريقيا" في التباهي بحرفيته، ذلك الرجل ولد في غرناطة عام 1495 قُبيل استيلاء الإسبان عليها، وقام بزيارة مصر عام 1516، ليروي لنا ما صنعته أياديهم.
 
"لم يُقاس أهل مصر شدة مثل هذه".. هكذا وصف المؤرخ المصرى محمد بن أحمد بن إياس الحنفي فى كتابه "بدائع الزهور فى وقائع الدهور"، بل إنه تمادى في وصفه لما شاهده بأم عينيه، فقد وقع فيها مثل ما وقع من جند هولاكو فى بغداد، حتي أنه قال "وقع فى القاهرة المصيبة العظمى التى لم يسمع بمثلها فيما تقدم"، كانت أولي جرائمهم ذلك الأمر الذي أطلقه سلطانهم سليم الأول، بشأن نقل أمهر العمال والصُناع وأرباب الحرف فى مصر إلى إسطنبول، ما سبب الخراب وتوقف العديد من الصناعات التى اشتهرت بها مصر المحروسة. 
 
بن إياس في موسوعته قال: إن قرار سليم الأول نقل بعض الحرفيين المتميزين المهرة وأرباب الصناعات المختلفة إلى اسطنبول تسبب في انقراض أكثر من 50 حرفة وصناعة تميزت بها مصر، ما أدى إلى تخلفها وعزلتها ثلاثة قرون، ما يؤكد بشكل جلي دورهم فيما كانت تعيشه القاهرة من مستوى حضاري لم تعشه أوروبا نفسها، يكفي ما أشيع عن ابن عثمان، أنه خرج من مصر وبصحبته ألف جمل محملة ما بين ذهب وفضة، هذا خلاف ما غنمه من التحف والسلاح والصينى والنحاس، بل إنهم نقلوا حتى الرخام الفاخر.
 
كانت القاهرة قبل قدوم العثمانلية عامرة بأبنيتها الفخمة وتراثها المعمارى، ما حرض المصريين على المباهاة بها، كانت يد الصنايعي والحرفي المصري أوضح وأجل، بقي منها ما لم تطله يد الحرق أو النهب والهدم على يد الأتراك، نراها بوضوح في المساجد والبوابات والمنازل والخانات والأسبلة والأضرحة، كل هذا ما كان للعثمانلية أن يتركونه دون أن يبنون لأنفسهم حاضرة تنافس حاضر الخلافة وحاضرات أوروبا التي لم يستطيعوا بناءها بأيدي الترك.
 
هجرة غير شرعية
الحقيقة أن ما فعله سليم الأول لا يختلف عن ما فعله نابليون بونابرت، فكلا الاثنين جاء غازيًا لدولة كان يعتقد أنها بلا أي هوية حضارية، كلا الاثنين صُدما حينما رأوا ما وصلت إليه مصر من حضارة عريقة ظهرت جلية في صنيع يديه، الفرق أن سليم الأول جاء قبل نابليون بأكثر من مائتي وثمانين عاما كاملة، أدرك الأول أهمية أن ينقل المصريين لصناعة تلك الحاضرة العريقة ليبنوا له حاضرته، في حين لم يجد الثاني هؤلاء المهرة، فأمر بنقل بعض مما صنعوه في الأزمنة الغابرة، فقد أقدم الأول على جريمة عانت منها مصر ما يقرب من ثلاثة قرون، فعندما رأى ما بمصر من فنون الصناعة وبديع الحرف، أمر بنقل جميع الصناع والحرفيين وأرباب المهن إلى إسطنبول.
 
كان الجنود العثمانيون ينقضون على منازلهم أو ورشهم وأماكن عملهم، ثم يشحنوهم داخل سفن كالتي ينقل بها الإسبان والبرتغاليين عبيد أفريقيا إلى القارة الأمريكية، وبمجرد أن تمتلئ تلك السفن، يرسلونهم أفواجًا إلى إسطنبول، فأخذوا البنائين والنجارين والنحاسين والمرخمين والقبانيين والحدادين والوراقين والمبلطين والنحاتين، وغيرهم من أصحاب الحرف المهرة، وأصحاب الفنون، حتى عدهم ابن إياس بخمسين مهنة خلت منها مصر عقب تلك المصيبة، ما أدى إلى انهيار الصناعة والبناء في مصر طيلة عقود وقرون وجودهم في أرض المحروسة.
 
اتفق المؤرخون على نقل عمال وصناع ثلاث وخمسين مهنة بالقوة إلى الأستانة، وأن الدولة العثمانية بهؤلاء الصناع المصريين بدأت نهضة كل الفنون التركية المعروفة، فبهم أضحت الدولة العثمانية إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس، وحينما تحررت مصر عام 1805 سقطت تلك الإمبراطورية وأضحت رجل أوروبا المريض الذي لا حول له ولا قوة، ولأن حاضرته لم تكن صنيع يديه، تهاوت بنفس السرعة التي بناها فيها الحرفي والصنايعي المصري، وإن كانت بصمات المبدعين الحرفيين المصريين ما زالت موجودة وتميز الحضارة التركية...!!