فاطمة ناعوت
«الحكاية مش التاريخ، الحكاية إزاى نقرا التاريخ». هكذا أقولُ لنفسى كلّما جمعنى لقاءٌ بالدكتور مصطفى الفقى، لُأنصِتَ إليه حكّاءً عظيمًا، عزَّ نظيرُه، يُشَرِّحُ أوصالَ التاريخ ويشرحُ أعقدَ الظواهر السياسية والاجتماعية بأسلوب يسْرٍ مرحٍ وشديد العمق فى آن. أؤمنُ أن التاريخَ ليس أحداثًا ومواقفَ وحضاراتٍ وزعماءَ وشعوبًا ومعاركَ وحروبًا ومصالحَ ومواءمات. بل هو: دالٌّ ومدلولٌ ودلالة. لا شىء يحدثُ اعتباطًا. إنما الأحداثُ تجرى وفق منظومة دقيقة من التراتبية والتوافقية والسببية. شىءٌ يشبه نظرية «تأثر الفراشة»، حيث «الكلُّ» بنيانٌ مرصوص من «الأجزاء» التى تؤثر وتتأثر؛ فتُغيّرُ ذلك «الكلَّ». لو وقع أمرٌ فى الشرق الأدنى، تجلّى أثرٌ له فى الغرب الأقصى، وإن صدَعَ شأنٌ فى جنوب الأرض، سُمِع وجيبٌ له فى شمالها. هذا العالم المترامى يُشبه أوركسترا متناغمةَ/متصارعة تعزف كونشرتو غير متفقٍ عليه سلفًا. تتبدّلُ نوتتُه على مدار اللحظة. يُغرِّدُ الكمانُ بعذوبة، فيردُّ عليه الناىُ بحزن، يزأرُ التشيللو بصلافة، فتُقرع الطبولُ مُهددةً بغضب، وينفخ الأوبوا بجنون، فيُدندنُ الهارْبُ بحكمة، فتردُّ الماريمبا ساخرةً من الجميع، وهى تُرسل ابتساماتها إلى الدُّفّ لكى يضبطَ إيقاعَه على النغم الجديد. وفى ركن المسرح، يجلسُ عجوزٌ يُنصِتُ وبين يديه دفترٌ وقلم. يضبطُ نظارتَه فوق أنفه، ويبدأ فى تدوين النغماتِ التى عُزِفت للتوّ؛ عذبةً حينًا، وناشزةً أحيانًا. ذاك العجوزُ هو أبونا التاريخُ، المعلمُ الأول. يكتبُ فى هوامش الصفحات: «لكلِّ جوابٍ قرارٌ، ولكلِّ مذهبٍ خاتمة». وكما ينطبقُ الحالُ على المكان، ينطبقُ على الزمان. فوحدةُ التاريخ ظاهرةٌ تشبه القاعدة التى لا تقبلُ الاستثناء. كلُّ حدث وقع على سُلَّم الزمان، له أثرٌ ونتائجُ وتجلياتٌ فى كل لحظة تالية. فلولا «أرسطو» فى القرن الرابع قبل الميلاد، ولولا استنطاق «ابن رشد» لأرسطو وشرحه لأفكاره فى القرن الثانى عشر، ما كانت أوروبا المتحضّرةُ اليوم. كلُّ شىء وقع فى الأمس، له مَردٌّ وأثرٌ اليومَ وغدًا وبعد غد. ذلك هو «فنُّ قراءة التاريخ». القراءةُ فنٌّ عصىٌّ يفوق فى تقديرى فنونَ الكتابة. لأن القراءة الصحيحة فعلُ إدراك، واستقراءٌ للمستقبل. القراءةُ الواعية نوعٌ من «التوقُّع» الذى يشبه «الرؤية» رأىَ العين. فالتاريخُ (الحقيقىُّ وليس المكتوب)، لا يختلف عن علوم الرياضيات والمنطق: مقدماتٌ وتوالٍ، أسبابٌ ونتائجُ.

على شرف معرض الإسكندرية للكتاب، كان لنا «حُظوة» اللقاء بالدكتور مصطفى الفقى فى ندوة عنوانها «مصرُ تطرق أبوابَ المستقبل». واخترتُ كلمة «حُظوة» لأنه من حُسن حظ المرء أن يُنصتَ إلى ذلك الرجل وهو فى حال من «السَّلطنة» الحكائية. والسلطنة هنا ليست بالمعنى السياسى، إنما بالمعنى الاصطلاحى المصرى، الذى لن تجد له أثرًا فى المعاجم، لكن ستجده فى قلب كل مصرى يعشق الطرب الأصيل. «السلطنة» هى حال النشوة والتطريب التى تغمرك وأنت تُنصتُ إلى جميل القول.

ذلك الحكّاءُ العظيم، د. مصطفى الفقى، يمتلك القدرةَ على النظرة العالمية الشاملة Global لقراءة الأحداث. يتأمل الخيوطَ الدقيقة ويتتبع سريانها فى جدائلَ تتواشجُ وتشتجرُ حتى تصنع الأحداثَ الكبرى. يُدرك أن ما يحدث فى شرق الكرة الأرضية، يؤثر على غربها، وما يطرأ فى شمالها، ينعكسُ على جنوبها. فالعالمُ ليس جزرًا منفصلةً، بل مجموعةٌ من الأوانى المُستطرقة التى تتعاونُ، وتتصارعُ، حتى يظلَّ منسوبُ الماء واحدًا أبدًا. لهذا شرح لنا فى تلك الندوة الثرية أن تاريخ مصر يجب ألا يُقرأ فرادى، كلَّ حقبة على حدة. بل يُدرس كوحدة واحدة متناغمة. فلا يجوز أن تقرأ حقبة السادات بمعزل عن الحقبة الناصرية. ولا يجوز أن تقرأ حقبة ناصر بمعزل عن العصر الملكى. التاريخُ المصرى بانوراما متكاملة يُفضى جزءُها إلى كلِّها. ويُمهِّد ماضيها إلى حاضرِها، وحاضرُها إلى مستقبلها.

الحكايةُ فى «ظاهرة مصطفى الفقى» ليست فى غزير العلوم برأسه، ولا فى عظيم الدرجات العلمية تُكلِّلُ هامتَه، ولا فى رفيع المناصب خلال مشوار حياته، ولا فى فريد مؤلفاته تسيل من مداد قلمه، ولا فى حشود تلامذته تُصوّب الأنظارَ حيث يحطُّ رحالَه. الحكايةُ هى حالة «السَّلطنة» التى تضرب وجدانك وأنت تستمع إليه شارحًا ومُفسِّرًا لكل دقيقة من دقائق جسد التاريخ: ماذا، ولماذا، وأين، ومتى، وكيف حدث ما حدث؟ وماذا متوقَّعٌ أن يحدث فى المستقبل؛ بناءً على ما حدث فى الماضى؟ تلك هى المسألةُ. «مصطفى الفقى» فى سرد التاريخ والسياسة بالنسبة لى، هو «أم كلثوم» فى الطرب الرفيع. كلاهما يمنحنى النشوةَ والسلطنةَ فأخرج من بين يدى أحدهما، إنسانًا جديدًا بقلب مفتوح على الحياة، وعقل مفتوح على الإدراك. د. مصطفى، أشكرك، وبارك اللهُ لنا فيك. و«الدينُ لله، والوطنُ لَمن يستحقُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم