د. أحمد الخميسي 
يقول الكاتب الروسي العملاق أنطون تشيخوف:" كل شيء في الانسان يجب أن يكون جميلا: وجهه وملابسه، روحه وأفكاره". إنسان مثل الذي يصفه تشيخوف فارقنا صباح السبت 2 مارس، إنسان كان جميل الروح والفكر والموقف هو د. أبو بكر يوسف الذي قدم إلي اللغة العربية نحو ثلاثين عملا من عيون الأدب الروسي، وعاش حياته النظيفة الشريفة عاكفا على عمله مثل الكاتب المصري القديم، بدأب، من دون أن ينتظر كلمة ثناء.
 
يرحل الأصدقاء مثل أبو بكر، وهم يحملون إلي الأبدية أرواحنا، ومحبتنا، باقات زهور مروية بالدموع، يغيبون بنا بعيدا، فنحيا في الأبدية على ما كان لنا من صور الصداقة، والشجاعة، والكبرياء، وومضة الوجود العابر.
 
تعرفت إلي أبو بكر يوسف عام 1972، ومنذ ذلك الحين ربطتنا صداقة الاهتمامات الأدبية والمواقف السياسية والفكرية المشتركة، والحركة معا من أجل ما كنا نعتقده، وكنا نختلف ونتفق ولكننا لم نفرط في صداقتنا. 
 
كان أبو بكر من عائلة " أبو جليل" البدوية المعروفة بالفيوم، ولم يفارقه طابع البدوي الحر حتى النهاية، وأذكر في عز الاتحاد السوفيتي أننا كنا نجلس مع مستشرق نتحدث عن فلسطين، وقد لزم بكر الصمت طويلا، ثم نهض وقال للمستشرق كلمة واحدة في حضور الجميع: " باختصار أنت صهيوني"! وكان اتهام صريح كهذا يحتاج حينذاك إلي قدر كبير من الشجاعة في ظل وجود وتأثير لوبي يهودي صهيوني قوي في موسكو.
 
رأيته أيضا ونحن نناطح معا سيطرة الجناح الإخواني على اتحاد المبعوثين، وكان يتصدى لهم بقوة وشجاعة ووضوح.
 
رأيته أيضا يرفض الدخول بحزم في مجال البيزنس حينما زال الاتحاد السوفيتي وانفتحت أبواب الاستثمارات والشركات، وكان رجال الأعمال الروس بأمس الحاجة لهمزة وصل تقودهم إلي العالم العربي، فعرض عليه الكثيرون أن يعمل معهم وأن يكون شريكا ورفض. رأيته ونحن مع سفير عربي في مقر سفارة يرفض أن يصافح الجالسين من ذلك البلد في حجرة السفير، ولما نبهه السفير ليصافح الجالسين،  قال له أبو بكر: " اعفيني مش ح أقدر أسلم على حد، لأن احنا عندنا إذا سلمت على حد لازم يقوم لك، وأنتم بتمدوا أياديكم تسلموا وأنتم قاعدين، وده عندنا قلة احترام".
 
وذهل السفير وضيوفه ثم غيرنا مجرى الكلام إلي ما جئنا من أجله. في كل ذلك كان أبو بكر متمسكا بالكبرياء البدوية التي تربى عليها في الفيوم حيث ولد هناك لعائلة بدوية معروفة، وكان والده عمدة يكتب الشعر، وظل بكر يردد على أسماعنا من حين لآخر الأشعار والأمثال البدوية ويستعيدها حتى النهاية.
 
أنهى الثانوية العامة وكان من الخمسة الأوائل على الجمهورية فأرسلته الدولة في أول بعثة طلابية للدراسة في الاتحاد السوفيتي عام 1958 مع مجموعة قليلة ضمت د. مرسي الطحاوي عالم الفيزياء النووية وآخرين.
 
وبعد أن حصل أبو بكر على دبلوم كلية الأدب واللغة الروسية عاد إلي مصر مع زوجته وعمل بالتدريس في معهد الألسن ما بين 1964، و1966، ثم رجع إلي الاتحاد السوفيتي ليواصل دراساته العليا ويحصل على الدكتوراه من جامعة موسكو. هناك استقر أبو بكر وعمل مع دار التقدم التي كانت تترجم الكتب الأدبية والسياسية  الروسية إلي العربية، وترجم لها أبو بكر نحو ثلاثين كتابا أدبيا منها أعمال لأمير الشعراء الروس ألكسندر بوشكين، ولروائيين عظام مثل جنكيز أيتماتوف، وأندريه بلاتونوف، كما راجع ونقح وطابق على الروسية ترجمة سامي الدروبي لأعمال دوستيوفسكي قبل نشرها في روسيا. وكان أبو بكر علاوة على جهده المضني في الترجمة يكتب للصحف والمجلات المصرية والعربية، ويمد يد العون للمستشرقين الروس خلال عكوفهم على ترجمة الأدب العربي، وعندما تستعصي عليهم كلمة أو تعبير، كما ساعد بدأب طلاب الدراسات العليا العرب والمصريين خلال دراساتهم، ولم تقتصر مساعدته على الجانب العلمي فقط ، بل وعلى حل ما أي مشكلات تطرأ في حياتهم.
 
كان أبو بكر باختصار يشبه عمدة المغتربين المصريين في موسكو، هذا علاوة على دوره في تأسيس عدد من المنظمات الشعبية التقدمية مثل أسرة " عبد الله النديم " التي جمعت المصريين المستنيرين ووحدتهم في وجه سياسة الانفتاح الساداتية وكامب ديفيد، وشارك في تأسيس"النادي الثقافي العربي"و" مركز الدراسات"، لتوسيع دائرة التأثير الفكري والحضاري العربي في روسيا.
 
وقد يتصور الكثيرون أن د. أبو بكر يوسف كان مترجما فحسب، وهو تصور خاطيء تماما، فقد كان دوره يتجاوز عمل المترجم إلي دور المثقف المطلع على الثقافتين العربية والروسية والمتمكن بشكل مذهل من اللغتين الروسية والعربية معا بما مكنه من اختيار الكتب التي ترجمها.
 
وينطبق على اختيارات أبو بكر يوسف وما قام بترجمته قول إزرا باوند عن الترجمة: " لم أكن أترجم، كنت أعيد إنسانا إلي الحياة"! هكذا بعث أبو بكر يوسف في لغتنا العربية الكاتب العملاق أنطون تشيخوف في أزهى ترجمة.
 
لقد بدأت ترجمة تشيخوف عندنا منذ 1920، واتصلت بعد ذلك في الأربعينيات حتى 1960عندما صدرت ترجمة محمد القصاص التي كانت أول عمل يضم منتخبات كثيرة للقاص الروسي. لكن كل تلك الترجمات كانت عن لغة وسيطة، إما عن الانجليزية أو الفرنسية، ومن هنا شابتها عيوب كثيرة.
 
لكن ترجمة د. بكر تمتاز ليس فقط بأنها من اللغة الروسية مباشرة ، بل وبأنها مشبعة بمعرفته تفاصيل ودقائق الحياة والثقافة واللغة والتاريخ الروسي، مما يجعل من أعماله صرحا أدبيا لا يزول، لهذا نعته جريدة " ليتراتورنايا جازيتا " وهي أكبر جريدة أدبية روسية، ونعاه اتحاد الكتاب الروس، ووجاء في نعيه قوله: " " رحل عن عالمنا شيخ المترجمين العرب، المصري العظيم، والانسان الرائع، الذي أقام جسرا قويا بين الثقافة الروسية والعالم العربي بأكمله، وقد منح دكتور أبو بكر يوسف عام 2011 ميدالية بوشكين من الرئيس الروسي ميدفيديف تقديرا لجهوده، وكان أيضا عضو شرفي في اتحاد كتاب روسيا. يبقى في ذاكرتنا وقلوبنا حيا إلي الأبد بأعماله الفذة ".
 
وقد كان أبوبكر بالفعل ذلك الانسان الرائع، وذلك المصري العظيم، الذي عزف بطريقة جديدة لحن المقدرة والموهبة المصرية، اللحن الذي طالما عزفه من قبل أبناء الفلاحين الذين يشرقون على العالم من القرى، ليثبتوا أن الإنسان المصري قادر على التأثير الضخم ما إن تتاح له الفرصة، هي قصة رفاعة الطهطاوي الفلاح الصعيدي، وطه حسين القادم من مغاغة، وقصة على مشرفة عالم الذرة الذي جاء من دمياط واقترن اسمه بأينشتاين واضع نظرية النسبية، كلهم جاءوا من الريف الفقير لينيروا العالم ويكسبوه المزيد من الجمال وكلهم أثبتوا أن الانسان المصري قادر وعظيم.
 
قصة حياة أبو بكر هي عزف جديد على ذلك اللحن المصري. من ضمن ما ترجمه أبو بكر قصيدة شهيرة لبوشكين أمير الشعراء الروس يقول فيها: " شيدت لنفسي تمثالا لم تصنعه يدان .. ولن تكسو درب الشعب إليه أعشاب النسيان.. كلا لن أفنى كلي، ستعمر روحي لن تفنى.. وسأظل شهيرا ما بقى ولو شاعر. يتغنى تحت القمر في هذا الكون".
 
ولقد شاد بكر لنفسه تمثالا من الجهد والابداع. وداعا أخي العزيز الغالي، تفارقنا بعد أربعين عاما من الصداقة والخبز والملح والفكر والضحكات والسخرية والمقالات والمعارك الفكرية.
 
ترحل لكنك تعلم قدر المحبة التي نكنها لك أنا وحسام حبشي ومرسي الطحاوي وماهر سلامة ومحمد حنفي ويحيي عبد التواب وكل من عرفك عن قرب.
 
تصحبك محبتنا التي لم تخبو في زمن ولم تنطفي، ونظل نحيا معا على ما كان لنا من صور الصداقة، والشجاعة، والكبرياء، وومضة الوجود العابر: ضفيرة الوهم الجميل والحقيقة المؤلمة.