لميس الحديدي
خمس دقائق فقط تحتاجها للكشف عن فيروس سي وما إذا كنت مصابًا بأي من الأمراض غير السارية (السكر، الضغط أو السمنة) وذلك ضمن حملة ١٠٠ مليون صحة التي أراها أحد أهم المشروعات القومية التي تتكفل بها الدولة المصرية حاليا- إن لم يكن أهمها علي الإطلاق. زارتنا الحملة حيث أقيم في منطقة الشيخ زايد: عدد من الأطباء الشباب ومدخلي البيانات يؤدون عملهم بانضباط وكفاءة، وإقبال من المواطنين من كل الطبقات، فالجميع يريد الاطمئنان على صحته، فما بالك إن كان الكشف بالمجان والعلاج أيضا بالمجان إذا ثبتت إصابتك بالفيروس أو بأي من الأمراض الأخرى. قصة نجاح مصرية تضاهي نجاحنا في القضاء على البلهارسيا وشلل الأطفال.

قصة علاج فيروس سي عايشتها مع أعضاء اللجنة القومية للفيروسات الكبدية منذ حوالي خمس سنوات، حيث كانوا ضيوفا شبة دائمين على برنامجي اليومي (هنا العاصمة)، وكنا نعمل سويا على نشر الوعي والاستماع لشكوى الناس في بداية التجربة حتى انتهت قوائم الانتظار وبدأت الدولة بحثها عمن لا يعرفون بالإصابة: كان حلمًا عشناه جميعًا.. فأصبح حقيقة لم يتخيل كثيرون تحققها.

الأرقام كانت مفزعة، فقد انتشر الفيروس في أجساد المصريين قبل ٥٠ عامًا، لأسباب عدة منها تطور مرض البلهارسيا وعلاجه الخاطئ، حيث كان العلاج كثيرا ما يستخدم إبرَا طبية مستعملة وبالذات في القري والارياف. تخلصت مصر من البلهارسيا بحملات مكثفة، فيما اكتسح فيروس سي أكباد المصريين. ففي ٢٠٠٨ قالت التقارير الطبية الأجنبية إن واحدًا من كل ١٠ مصريين مصاب بفيروس سي، وفي ٢٠١١ ارتفعت الأرقام فأصبحت – طبقا لدورية نيتشر الأمريكية – واحدًا من كل ٧ مصريين. ووصلت نسب الوفاة جراء الإصابة بالفيروس إلى ٤٠ ألف مصري سنويا أي نحو ٧،٦٪‏ من إجمالي الوفيات حينها (مجلة أتلانتيك الأمريكية). كان المرض أشبه بالأسطورة في التسعينيات من القرن الماضي، وكانت مصر تصنف دوليا أنها الأعلى في نسب الإصابة (وصلت إلى ١٥٪‏ من السكان) بل إن تقارير ذهبت إلى أن ١٥ مليون مصري ضربت الفيروسات أكبادهم بعنف.

المرض كان شرسًا ومتفشيا والعلاج باهظ التكلفة لا يقدر عليه الفقراء (وهم الأكثر إصابة) أو حتي المصابين من الطبقة المتوسطة، أما الدولة فكانت تتعامل معه بقرارات العلاج على نفقتها وتلك شابها ما شابها في كثير من الأحيان. كان الوضع كابوسا صحيا لم يقترب منه أحد على مدار سنوات،. خاصة وأن كل العلاجات لم تصل إلى كامل الشفاء حينها. حتى جاءت اللجنة القومية لمكافحة الفيروسات الكبدية: مجموعة من الأطباء والطبيبات المتخصصين قرروا جميعًا اقتحام أهم تحديات مصر الصحية: البحث عن علاج فيروس سي بتكلفة تمكن الدولة من تقديمه للمواطن.

وكان العلم الدافع الأكبر للتحرك. ففي ٢٠١٣ اكتشفت شركة جيلاد الأمريكية وعالمها د.ريموند شينازي علاج السوفالدي الذي حقق نجاحات غير مسبوقة في علاج الفيروس الشرس، وكانت المعركة كيف تحصل عليه الدولة بتكلفة مناسبة كي تتمكن من تقديمه مجانا للمواطنين. استمرت المباحثات شهورًا طويله، حبسنا جميعًا فيها الأنفاس فقد تفشل المفاوضات المالية وقد يكون الرقم كبيرًا خاصة مع ارتفاع عدد المرضي وضعف الوضع الاقتصادي للدولة في ذاك الوقت. مفاوضات طويلة وشاقة نجح في نهايتها أعضاء اللجنة من التوصل لاتفاق "خيالي" أذكر أنه ربما كان يمثل تقريبًا ثمن تكلفته الحقيقية، كانت قناعتهم بالقضية ورغبتهم الشديدة في تحقيق انتصار طبي على الفيروس العنيد دافعًا "للقتال" من أجل الحصول على الدواء للمصريين… وانطلقت المسيرة.

في ٢٠١٤ بدأ العلاج بالسوفالدي الأجنبي، تكالب المصريون على مراكز العلاج المنتشرة في كل المحافظات فهي المرة الأولى – بعد البلهارسيا وشلل الأطفال -التي يعالج فيها المصريون من مرض عضال مجانًا بمعنى مجانًا، وليس ذاك أي مرض إنه الفيروس اللعين الذي فتك بالآلاف على مر السنين. ومع ارتفاع الأعداد لم يكن ممكنا الاعتماد على استيراد الدواء، تعاقدت وزارة الصحة مع الشركات المصرية لإنتاج السوفالدي محليا، ثم تم اللجوء إلى أدوية الجيل الثاني الهارفوني. حتى جاءت مبادرة الرئيس السيسي في ٢٠١٥ بأن تكون مصر خالية من فيروس سي في ٢٠٢٠ تبدو وكأنها ضرب من الخيال، لكنها كانت تحديًا أثبتت الدولة المصرية ووزارات الصحة المتعاقبة فيه نجاحًا لا يمكن إغفاله. حتى أن منظمة الصحة العالمية قدمت خطاب شكر لمصرفي ٢١٠٧ قالت فيه إن مصر" كانت من أوائل الدول التي اتبعت النهج الذكي في دعم تكلفة العلاج". فقد تمكنت مصر من الحصول علي اقل تكلفة لعلاج فيروس سي في العالم.

تم علاج أكثر من أربعة ملايين مصري، وما زلت أذكر اللقاء الذي أجريته مع أعضاء اللجنة القومية للفيروسات عندما أعلنوا انتهاء قوائم الانتظار، كان خبرًا لم نتخيل يومًا أن نصل إليه، فقد كان المرض كابوسا ارق المصريين لعقود. فكيف إذن جاءت فكرة ١٠٠ مليون صحة؟ كانت الدولة – بعد انتهاء قوائم انتظار العلاج- تبحث عن المصابين كي يحصلوا علي العلاج، فكل مريض لا يعرف بإصابته قد يتسبب في عدوى أربعة آخرين. بدأ المسح في الجامعات والمستشفيات والمؤسسات الحكومية بحثًا عن المصابين الذين لا يعرفون أن الفيروس كامن في أجسادهم، حتى جاءت المبادرة الرئاسية الثانية بتعميم الفحص ليشمل كل المصريين مجانا، بل وتوسيع نطاقة للكشف على يطلق عليه بالأمراض غير السارية (السكر، والضغط، السمنة) تلك الأمراض التي تثقل كاهل المواطنين بتكلفة العلاج.

انطلقت الحملة التي بدأت في أكتوبر الماضي على عدة مراحل في كل محافظات مصر ليصل إجمالي ما تم مسحه حتى كتابة هذه السطور ٤٦ مليونًا و١١١ ألفًا و٩١٢ مواطنًا بتكلفة تصل الي ٧ مليارات جنيه. الحملة لا تقوم فقط بالمسح الطبي ولكنها تقديم العلاج لمن يثبت إصابته بأي من تلك الأمراض، وقد اكتشف بالفعل إصابة ٢ مليون مواطن بالفيروس من خلال المسح . والقصص كثيره: عامل سيراميك يبلغ من العمر ٣٥ عاما، اكتشف إصابته من خلال المسح، حصل على العلاج وشفي، ماذا كان مصير أطفاله لو استفحل المرض لا قدر الله وقضي عليه؟ حارس إحدى البنايات في منطقة شعبية أيضا اكتشف إصابته وحصل على العلاج، تلك حالات حقيقية وبالتأكيد غيرها كثير ممن لا نعرف عنهم، لكن المسح أنقذهم وأنقذ اسرهم من هلاك محقق.

أما اقتصاديا فقد ساهمت الحملة في تشغل المئات من شباب الأطباء والخريجين من العمالة غير المنتظمة: ٨٠٠ طبيب وممرض و٢٠٠ مدخل بيانات. الأهم أننا ولأول مرة ستكون لدينا قاعدة بيانات أو خارطة صحية لمصر توضح أماكن تركز الأمراض واستيطانها، يمكن للدولة عن طريقها أن تعيد ترتيب أولوياتها فيما يتعلق بالخدمات الصحية.

هل يمكن أن تكون مصر خالية من فيروس سي بحلول ٢٠٢٠، العام القادم؟ كان حلما… ظننا في وقت من الأوقات أنه مستحيل، لكنه في كل يوم تنطلق فيه هذه الحملة إلى محافظة جديدة، أو حي جديد من أحياء مصر من أقصاها إلى أدناها يبدو أقرب للتحقق. هذا هو الاستثمار في البشر، في صحتهم، في قدرتهم على العمل، وفى سعادتهم. ذاك هو أفضل أنواع الاستثمار وأكثرها بقاء وإنتاجا.

محاذير اقتصاديه:
أسعد الرئيس المصريين بحزمة إجراءات اقتصادية تساعد المواطن على تحمل آثار الإصلاح الاقتصادي وموجات التضخم المتكررة. فما بين رفع الحد الأدنى للأجور إلى العلاوة الاستثنائية ورفع المعاشات وحركة الترقيات، جاءت تلك الإجراءات – إضافة إلى إجراءات عديدة سابقة - لتحاول أن تخفف من وطأة الإصلاح القاسية على حوالي ٥.٤ مليون من العاملين في الجهاز الإداري للدولة وأسرهم إضافة إلى ٩.٥ مليون من أصحاب المعاشات.

غير أنه - رغم أهمية هذه الإجراءات وضرورتها- يصاحبها محاذير اقتصادية لا بد أن نتحوط منها ولا نغفلها. فهذه الزيادة هي زيادة لا يقابلها إنتاج، ما يعني زيادة السيولة في السوق أي موجة تضخمية جديدة (ارتفاع أسعار). كما سيواكب ذلك أيضا زيادة في الاستهلاك ونحن مقبلون على شهر رمضان شهر الاستهلاك (صحيح إن الزيادة لن تطبق إلا في يوليو لكن المصريين من مدرسة اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب!) فماذا نحن فاعلون في ذلك؟ هل سيقوم المركزي مثلا برفع أسعار الفائدة لامتصاص السيولة فيعطي إشارة سلبية جديدة للاستثمار؟ أم أنه سيتخذ إجراءات أخري للحد من السيولة في الاسواق.

وإذا كان المستفيدون من العلاوة ورفع الحد الأدنى هم فقط الجهاز الاداري للدولة ( ٥.٤ ملايين) فهؤلاء يمثلون حوالي ٢١ ٪‏ فقط من عدد المشتغلين (٢٥.٥ مليون نهاية ٢٠١٨ وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة و الإحصاء )، فماذا عن النسبة الكبرى التي يعمل بالقطاع الخاص (حوالي ٢٠ مليون)؟ هؤلاء بالتأكيد ستصيبهم جميعا الموجة التضخمية دون علاوة، فهل يدفع ذلك القطاع الخاص لرفع مماثل؟ وهل يستطيع؟

ويأتي السؤال الأهم عن تكلفة هذه الإجراءات على الموازنة والتي تعمل الحكومة جاهدة لخفض عجزها، (التكلفة طبقا لبيان المالية ٦٠ مليار جنيه) صحيح هي تكلفة مطلوبة، لكن المالية لم تذكر بوضوح من أين سيتم تمويل هذه التكلفة؟ وكانت الجملة الوحيدة المذكورة في هذا السياق "أن برنامج الإصلاح الاقتصادي يمكن الموازنة العامة للدولة من الاستمرار في منظومة الحماية الاجتماعية وتحسين المرتبات والمعاشات" … فهل ذلك التمويل يتم من عائد نمو حقيقي؟؟ و ما هي مصادرة؟

رفع الحد الأدنى للأجور وزيادة المعاشات إجراءات اقتصادية ضرورية خاصة مع تحمل المصريين لأعباء الإصلاح الاقتصادي الثقيلة لسنوات، لكن- و في المقابل- يجب أن يواكب ذلك جهد حثيث لتحقيق زيادة حقيقية في الدخول والأجور من خلال توفير فرص عمل، تشغيل الطاقات المعطلة في البلاد، ودعم انطلاق القطاع الخاص في مجالاته المختلفة.

لا غنى لنا عن تطوير الاقتصاد الحقيقي الذي يقدم قيمة مضافة ويحقق إنتاجًا يدفع بمعدلات النمو. دون ذلك سيبتلع التضخم والاستهلاك أي زيادة في الأجور ولن يبقي لنا إلا عجز الموازنة.
نقلا عن مصراوى