عبد المنعم سعيد
انعقد يومى الأربعاء والخميس الماضيين، منتدى الإعلام العربى فى مدينة دبى بدولة الإمارات العربية المتحدة ليوزع الجوائز الصحفية فيما يشبه مهرجان «بوليتزر» الصحفى فى الولايات المتحدة. ولم يكن الانعقاد فقط لمنح الجوائز وإنما لمناقشة حال الصحافة العربية وإشكالياتها الكبرى، وكان من أولها العلاقة المتوترة بين الصحافة والسياسة والتى لم تنجُ منها دولة من دول العالم.

ولعل ما جعل القضية ملحة ما بات واضحا فى الولايات المتحدة من حملات متبادلة بين البيت الأبيض والشبكات الصحفية المختلفة سواء كانت صحفا أو محطات تليفزيونية.

بشكل ما انتهت القدسية المعروفة لحرية الصحافة وأدوات الإعلام المختلفة والتى كانت مكتومة داخل اليمين الأمريكى لعقود طويلة ربما منذ سقوط ريتشارد نيكسون من رئاسة الولايات المتحدة على يد الصحفيين بوب وودوارد، وكارل برنستين، ومن ساعتها كان السخط قائما على ما يسمى «المؤسسة الشرقية» حيث المؤسسات الصحفية والإعلامية الكبرى، والآن خرج السخط إلى العلن باتهام «المؤسسة» بأنها عدو للشعب ومصدر لنشر الأخبار الكاذبة أو الـFake News.

وبالنسبة لنا فإن العلاقة المعقدة بين السياسة والصحافة ظهرت مع موجات «الربيع العربى» حيث ساد الظن أن الإعلام كان سببا فى نزع الشرعية عن النظم الحاكمة، بينما ظلت المنابر الإعلامية تشك أن السلطة السياسية تسعى إلى الهيمنة على الصحافة بتدجينها أو بالحلول محلها بإنشاء الصحف والقنوات الحكومية أو وضعها تحت أشكال شتى من الضغوط، كتلك التى جرت فى مصر فيما عرف بالقانون ٩٣ لعام ١٩٩٥ والذى ظهر مؤخرا فى شكل لائحة جزاءات المجلس الأعلى للإعلام.

والحقيقة أنه لا توجد دولة فى العالم إلا وعاشت فى ظل هذه الحالة المتوترة من العلاقات بين السياسة حيث السلطة الحاكمة أو الأحزاب السياسية والصحافة الواقعة ما بين بحثها عن المصداقية والبعد عن التبرير لما يتخذه المجتمع من قرارات ويسعى إليه من مشروعات ويحققه من أولويات.

وفى دبى انعقدت جلسة حول الموضوع أدارها الإعلامى القدير عماد أديب، وشارك فيها الأستاذ عبدالرحمن الراشد، رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط سابقا، رئيس شبكة «العربية» التليفزيونية حاليا، والدكتور وليد فارس، المستشار السابق للرئيس دونالد ترامب فى شؤون الشرق الأوسط، والدكتور عبدالمنعم سعيد رئيس مجلس إدارة «المصرى اليوم».

الجلسة جرت تحت تصور حالة من التربص القائم بين طرفى المعادلة حيث توجد القوة فى ناحية السياسة لكبح جماح الحريات الصحفية، والقدرة فى ناحية الصحافة لكشف المستور عن الخلل القائم فى بناء السلطة السياسية اعتمادا على حالة مثالية من المصداقية والموضوعية والمهنية وكانت وجهة النظر التى عبرت عنها تبدأ من أن المجتمع المعاصر لا بد له من مؤسسات مهمتها القيام بعدد من الوظائف التى لا بد منها لممارسة الحداثة، ومن المهم للغاية ألا تتناقض هذه المؤسسات أو تختلط الوظائف فيما بينها.

فالثابت هو أنه فى حالة توافق رجل وامرأة على الزواج فإنهما لا يذهبان إلى البنوك التى وظيفتها إدارة المحفظة المالية للأفراد والجماعات بين الإيداع والاقتراض، وإنما يذهبان إلى المأذون الذى لديه الأوراق الثبوتية التى تقيم العقد بين الشرطين.

وهكذا هو الحال، فالبريد مهمته نقل الرسائل، بينما المطارات مهمتها المواصلات الجوية، ومثل ذلك فإنه لكل من السياسة والصحافة وظائفها التى لا يستقيم المجتمع الحديث إلا بها. وربما كان واحدا من أسباب الخلط بين السياسة والصحافة النظرية السياسية التى تقول بوجود السلطات الثلاثة للدولة (التنفيذية، والتشريعية والقضائية) ووجوب الفصل والتوازن فيما بينها؛ وما حدث أن «الصحافة» وللتأكيد على أهميتها جرى تسميتها «السلطة الرابعة»، وللأسف فقد تم أخذ هذا الخلط والمبالغة فيه بتضمينه فى تعديلات الدستور المصرى عام ١٩٨٠. ولم يكن ذلك سببا فى ازدهار الصحافة بل إنه وضع عليها الكثير من القيود والتنظيمات الحكومية.

على أية حال فإن هذا الخطأ جعل الصحافة عاجزة عن القيام بوظائفها إزاء المجتمع، فالسلطة تتضمن بحكم التعريف قدرا من القوة، والاستعداد للفرض والإجبار وهو ما لم يكن متوافرا للصحافة أو الإعلام فى عمومه الذى لا يملك مثل هذا، ولدى المواطن الحرية الكاملة لشراء الصحيفة أو الإمساك عن ذلك، وكل ما يحتاجه الجالس أمام التليفزيون ضغطة زر على جهاز الريموت لكى يسمع أو يشاهد أو لا يفعل شيئا على الإطلاق.

المعضلة بين السياسة والصحافة تولدت من أربعة أسباب: أولها هيكلى نبع من أزمة الديمقراطية التمثيلية أى تلك التى تقوم على انتخاب ممثلين عن الشعب يقومون بمهمة التشريع ومراقبة الحكومة المنتخبة أيضا، فالتطور فى وسائل الإعلام خلق صلة مباشرة بين الحكم والشعب، وجعل العلاقة بين الشعب وممثليه خافتة طالما أن الشعب يمكنه أن يصل إلى الحكام من خلال وسائل التواصل الاجتماعى، أو الأخطر من خلال التواجد المباشر فى الشارع، أو الاستفتاءات الشعبية. وما حدث فى قرار الخروج البريطانى من الاتحاد الأوروبى «البريكسيت» أظهر هذا الخلل الهيكلى فى أعرق التجارب الديمقراطية. هذا الخلل يتضاعف فى البلدان الأقل تجربة.

وثانيها أن السياسيين، وخاصة القادة منهم انتزعوا الوظيفة الإعلامية، ووضعوها فى أياديهم كما فعل دونالد ترامب الذى جعل من التويتر وسيلته الأولى فى الوصول إلى الناس، ومن الاحتفالات الجماهيرية أداته ليس فقط للدعوة لانتخابة، وإنما لترويج سياساته.

وثالثها أن الإعلاميين أنفسهم صاروا سياسيين ليس فقط بالمعنى الأيديولوجى للكلمة، أو بسبب الانتماء الحزبى، وإنما باعتلاء شأن القائد السياسى، وأصبح شائعا فى البرامج الحوارية المصرية أن يمنح مدير الحوار لنفسه ما بين الساعة والساعة ونصف للحديث والتعبير عن رأية فى القضايا اليومية المطروحة، وبصورة يومية، وهو غير المتاح للسياسى الذى عليه أن يستخدم جل وقته فى إدارة شؤون الدولة والدفاع عن الحكم فى مواجهة الهجمات اليومية.

ورابعها أنه نتيجة المنافسة الحادة، سواء كان ذلك فى ساحة السياسة أو ساحة الصحافة والإعلام، فإن اللغة المستخدمة اعتراها الكثير من الحدة وسلاطة اللسان والتركيز على الأمور الخاصة، بدلا من العامة، والنتيجة هى انحراف العلاقة بين السياسة والصحافة عن مسارها القائم على الفصل فى الوظائف بين المجالين.

ما ساعد على ذلك كله أن التطورات التكنولوجية المختلفة بعد غزو الإلكترونيات للساحة الإعلامية والسياسية خلق اختلاطا فى الأوراق على الأرجح أنه لا بد له أن يأخذ وقته حتى تتوازن الأمور؛ فلم تكن هذه هى المرة الأولى التى تأثرت فيها العلاقة بين السياسة والصحافة؛ بسبب التغير والتطور الذى جرى فى الصحافة الورقية، وبعد ظهور التليفزيون، ثم التليفزيونات الفضائية، والآن فإن الثورة الرقمية لم تصل إلى نهايتها بعد ولا يزال هناك الجديد الذى سوف يأتى؛ وما كان فى منتدى دبى للإعلام إلا محاولة جادة للاقتراب من الموضوع.
نقلا عن المصرى اليوم