حلمي النمنم
إخواننا الأقباط يبدو أن التواضع يغلبهم، فلا يكتبون عن أنفسهم، مع أن ذلك واجب قومى.. هذه العبارة كتبها المؤرخ والأديب الراحل د. حسين مؤنس، وهو يهم بالكتابة عن الأقباط وثورة 1919، وكانت المفاجأة أمامه أن ما كتب عن الأقباط وما قاموا به خلال هذه الثورة جد محدود، ولما رجع إلى بعض أصدقائه من الأقباط يسألهم، ويستفسر منهم، هالته ندرة المعلومات لديهم، والحق أن ذلك يكشف أن الأقباط لم ينظروا إلى أنفسهم إلا كمصريين فقط، ولو أنهم اعتبروا أنفسهم أقباطا فى المقام الأول لاهتموا بالتسجيل والرصد والبحث الذى يوجب عليهم أن يكونوا الباحثين والمفكرين والمؤرخين.

ويخطئ من يتصور أن الأقباط غابوا لحظة عن المشهد العام فى مصر، واقعة القبطى مع نجل عمرو بن العاص تؤكد ذلك، حيث سابق القبطى نجل الوالى، فسبقه مما أغضب النجل الذى بادر إلى إهانة القبطى، فلم يقبل الإهانة، وذهب إلى المدينة المنورة، وشكا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فما كان من عمر إلا أن أحضر نجل عمرو وقدم الدرة للقبطى وقال له: اضرب ابن الأكرمين، أى عاقبه بالمثل.. كلمة بكلمة.. وضربة بضربة.

مشاركتهم بالتطوع فى مقاومة الصليبيين الذين هاجموا شمال مصر عند دمياط مشهد آخر من مشاهد الحضور، كان المصريون جميعا ممنوعين من التجنيد فى الجيش النظامى، ولم يكن الحكام منذ الاحتلال الرومانى وكذلك بعد الفتح العربى وحتى مجىء محمد على ينظرون إلى المصريين عمومًا كمقاتلين، كانوا يرونهم فلاحين فقط، يزرعون ويحصدون، ويمارسون بعض الحرف، لكن لما هوجمت مصر تطوع المصريون للدفاع عن بلدهم، مسلمين وأقباطا لذا أسقطت الجزية عنهم طوال سنوات الحرب.

وفى أثناء الحملة الفرنسية على مصر نجد حضورا قبطيا من خلال أعيان الأقباط، بل إنه بعد ثورة القاهرة الثانية وما تلاها من اغتيال كليبر قرر شيخ الأزهر الشيخ الشرقاوى ومعه كبار العلماء إغلاق الأزهر تماما وسمروا أبوابه، كان الفرنسيون يستريبون فى الأزهر طوال الحملة. وازدادت ريبتهم بعد أن تبين أن سليمان الحلبى كان مقيمًا بالجامع وزار الشيخ الشرقاوى مرة.

يحدثنا الجبرتى أن أعيان الأقباط تألموا لهذه الخطوة التى لم تحدث من قبل.. ويذكر الجبرتى أيضا أن المعلم يعقوب لما شكل الفيلق القبطى خرج عوام الأقباط فى مظاهرة إلى القائد الفرنسى عبدالله مينو يطالبون بمنع يعقوب من أخذ أبنائهم، ونجحوا فى منع أكثر من نصفهم.

ومع تطور الأحداث التى انتهت بالثورة العرابية تعرف أن وثيقة حلوان التى كانت محركا للعرابيين، تم التوقيع عليها بحضور شيخ الإسلام وبابا الأقباط وحاخام اليهود؛ ورغم هذا فإن الحضور القبطى اختلف فى ثورة 1919 عنه من قبل.. فلم يقتصر ذلك الحضور على مستوى النخب العليا، كما اعتدنا دائما، ولكنه امتد هذه المرة إلى الشارع؛ وعبر رجال الدين.

وفى التاريخ الإنسانى فإن رجال الدين عادة هم الذين يحركون الصراعات الدينية والمذهبية التى تنتهى بحروب ضارية؛ ولكن فى مصر نجد الأزمات الطائفية يحركها الفوضويون والمتآمرون والإرهابيون، ويكون على رجال الدين، سواء علماء المسلمين أو القسس مهمة التهدئة والإطفاء؛ لذا يخلو تاريخ مصر من صراعات دينية على غرار ما جرى فى ألمانيا بين الكاثوليك والبروتستانت ولا ما جرى فى الهند بين الهندوس والسيخ والمسلمين أو إنجلترا أو فرنسا وإسبانيا غاية ما عرفناه فى تاريخنا بعض الاحتدام لأسباب اجتماعية أو مناوشات فردية غالبا. وفى ثورة 19 قدم رجال الدين نموذجا جديدا، حيث دخل بعض القسس المساجد وذهب بعض الأئمة إلى الكنائس يحثون المصريين جميعا على الإخاء والخروج ضد المحتل، فى الجامع الأزهر كان الشيخ محمود أبوالعيون والقمص سرجيوس؛ ويحدثنا الشيخ عبدالوهاب النجار - المترجم البارز فيما بعد - فى مذكراته حول ثورة 19 عن المساجد والكنائس التى زارها هو ورفاقه من الأئمة ورجال الدين المسيحى، ذهبوا إلى جامع ابن طولون وجامع المؤيد شيخ وإلى الأزهر والحسين، وإلى كنيسة الأزبكية وغيرها من الكنائس.

أتحدث عن رجال الدين، بمعنى علماء الأزهر وخريجيه ورجال الكنيسة المصرية، وليس عن الأدعياء ولا المتطفلين والمتاجرين والمزايدين بالأديان فى سوق السياسة والبيزنس وعالم المخابرات. رجال الدين المصريون كان موقفهم مشرفا وعظيما فى ثورة 19، كما فى غيرها.

فى الأسبوع الماضى تابع العالم بإعجاب وتابعنا معه مشهد رئيسة وزراء نيوزيلندا وهى تذهب إلى المسجد الذى شهد المذبحة، وتأمر بأن يعم الأذان الإسلامى نيوزيلندا وتستشهد بحديث نبوى، كل هذا بديع وعظيم، لكننا فى مصر سنة 1919 شهدنا شيئا عظيما، مشابها أيضا، وشهدناه أيضا بعد فض بؤرة رابعة العدوية فى 14 اغسطس سنة 2013.

وكان الكبار يرون ذلك ويقدرونه أقصد الزعيم سعد باشا ورفاقه، لذا حين شكل سعد زغلول الحكومة سنة 24 اختار اثنين من الأقباط اعضاء فى حكومته، وقيل له إن التقاليد فى تشكيل الحكومات أن يكون قبطى واحد عضوًا فى الحكومة وليس اثنين وكان رده: عندما كان الإنجليز يطلقون علينا الرصاص لم يراعوا نسبة الأقباط إلى المسلمين، وعندما كانوا ينفوننا إلى سيشل لم يراعوا هذه النسبة، فقد كنا أربعة من المسلمين واثنين من الأقباط، وعندما حكموا على أعضاء الوفد بالإعدام لم يراعوا النسبة أيضا، فقد كانوا ثلاثة أقباط وأربعة مسلمين.

نحتاج أن نتأمل ذلك التاريخ، المصريون حكمتهم إنسانيتهم وانحازوا إليها قبل معتقدهم الدينى.. الدين للديان والوطن للجميع.

وإذا كنا نحتفل هذا العام بمئوية ثورة 19، فالواجب إحياء روحها وقيمها، ذلك أن هناك من امتعضوا لبناء كاتدرائية جديدة فى العاصمة الإدارية، وامتعضوا من زيارات الرئيس إلى الكاتدرائية كل عام، بانتظام ليلة عيد الميلاد المجيد، واعتبروا ذلك مبالغة سياسية منه وممالأة للأقباط.. والحق أن الأقباط لا ينتظرون ممالأة وتهنئتهم ليست مبالغة، إلا لمن فى قلبه مرض أو لا يعرف معنى هذا الوطن.
نقلا عن المصرى اليوم