فاطمة ناعوت
كان يومًا من أجمل أيام حياتى. صالونٌ تنويرىٌّ يضىءُ المساحات المظلمة فى العقل الجمعىّ. زيدان والإسكندرانى... يا حفيظ! وكمان فاطمة ناعوت! ده شىء يجنن شىء يغيظ! وهذا الجمعُ الغفير من مُحبيكِ! سعدتُ بكم وأتمنى عشرات الصالونات. وأهنئكِ على وطنيتكِ ومحبتكِ لقواتنا المسلحة، وكذلك على رأيكِ عن العلمانية، وتفسيركِ لها أنها ليست معاكسة للدين، بل إن الدين ورجاله لم يجدوا كرامة وحماية إلا فى ظلِّها).

وصلتنى الرسالةُ الثمينة السابقة من رجل عظيم يأتى مثلُه مرةً كلَّ ألف عام. رجلٍ ما إن يُذكَر اسمُه حتى تُرفع القبّعات وتنحنى الهاماتُ احترامًا. رجلٍ إن أمسكَ بالمِشرط ليجرح جسدًا، عالجَ سَقَمًا؛ ونهضَ السقيمُ صحيحَ البدن. وإن أمسك قلمًا ليجترحَ فكرةً، عالج جهلاً؛ وانتفض المرءُ فاهمًا واعيًا صحيحَ الروح. رجلٍ اسمه «وسيم السيسي»، الطبيب الجرّاح والمفكّر وعالم المصريات والوطنىّ النبيل.

ورغم ما يحملُ الرجلُ فى عقله من علم، وفى قلمه من إبداع. إلا أن الرسالة شابها بعضُ الخطأ. فقد وضع بالرسالة اسمى، وأغفل اسمَه تواضعًا ونبلًا! لهذا أصلحتُ الخطأ فى عنوان المقال: «الإسكندرانى والسيسى وزيدان، يا حفيظ! ده شىء يجنن شىء يغيظ!»، وعلّكم تستدعون الآن فى أذهانكم مطلع أغنية العظيم «سيد درويش» التى كتبها العظيم «بيرم التونسى» وموسيقها العظيم «زكريا أحمد»: «هاتجن يا ريت يا خونّا مرحتش لندن واللا باريز، دى بلاد تمدين ونضافة وذوق ولطافة وحاجة تغيظ». التى اختصروا فيها بخفّة ظلّ مشاكلَ الشارع المصرى التى تحُولُ بيننا وبين التحضر والتمَديُن والترقّى.

وأما الإسكندرانى، فهو حنجرة مصر الأسطورية وثعلب المخابرات المصرية، والمثقف المتصوّف: «سمير الإسكندرانى»، «الأب الروحى لصالونى الشهرى»، الذى يُشرّفنى بحضوره الثرىّ المُبهج، فيكون صانعَ الفرح الذى يضخُّ فى قلوب الجمهور شيئًا عزيزًا وجميلًا اسمه: «الحبّ». وأما «زيدان»، فهو المفكر والباحث التاريخى والروائى: «د. يوسف زيدان»، ضيف الشرف فى صالون مارس. وكان حديثه حول «التصورات الكبرى» مدعاةً لإعمال العقل وإعادة بناء مفاهيمَ جديدة لأفكار جامدة تحجّرت فى أذهاننا على أغاليطها.

وأما د. وسيم السيسى، فهو صاحب أشهر صالونات مصر: «صالون المعادى الثقافى». وهو مَن علّمنى فى طفولتى وصِباى كيف أفخر بمصريتى وأتعلّم علمًا غنيًّا هو: «علم المصريات» Egyptology، فقد فاجأننا بالحضور فى صالون مارس على غير توقّع، فاشتعلت صيحاتُ الفرح من الجمهور. وحين تكلّم كان قليلُه كثيرًا؛ لأن جرعةً من غزير علمه تحتاجُ صنبورَ الوقت؛ حتى نستقطِرَ شهدَها قطرةً قطرة، إذْ فى كل قطرةٍ مجرّةٌ من النور تُبهِرُ أبصارَ المبصرين، وتمنحُ البصرَ للمكفوفين.

أولئك الرجالُ الثلاثة العظامُ الذين شرّفوا صالونى بحضورهم، أرقامٌ صعبةٌ فى حاضر مصر الفقير وتاريخها الثرىّ. رموزٌ شاهقة فى الفن والعلم والفلسفة والمصريات والتصوف. كلُّ رجل منهم مدرسةٌ وطنيةٌ كاملة تزهو بها مصرُ.

وأما صالونى الذى يزهو بمثل تلك القامات، فسوف أحاولُ الآن أن أنسلخَ من ذاتى وأقيّمه بموضوعية المُراقِب وكأننى لست صاحبته. لطالما ناديتُ أساتذتى من الأدباء والمفكرين بعقد صالونات دورية كما كان يفعل طه حسين والعقّاد ومى زيادة فى منتصف القرن الماضى؛ وقت الإشراق الثقافى التنويرى فى مصر. وبذلتُ الجهد حتى أقنعتَ الشاعر الكبير «أحمد عبدالمعطى حجازى» بعمل صالون، لم يستمر إلا مرةً واحدة. ثم فقد حماسه للأسف! فقررتُ أن أُنشئ صالونًا وأدعو فى كلّ شهر ضيفَ شرف جديدًا من قامات مصر، فكأنما يتحول صالونى إلى صالونات كثيرة لجميع قامات مصر الفكرية والفنية والعلمية. وهو ما كان. الصالونُ يعيدنا إلى أيام المجد الثقافى فى مصر فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى، حين يتكبد الإنسانُ مشقةَ الخروج من بيته، ليس لمشاهدة ماتش كرة قدم، أو للعشاء أو السينما أو المسرح أو حفل غناء، وكل ما سبق جميل وممتع، إنما طلبًا لوجبة دسمة من الفكر والفلسفة والاجتماع والشعر والتاريخ والمصريات والتنوير، إلى جانب جرعة من الموسيقى والطرب الرفيع. هذا الجمهور الظامئ للجمال مازال موجودًا وحاشدًا، حتى ضاقت به مقاعدُ «نادى الشرق الأدنى للأرمن» محلّ صالونى، فظل كثيرون واقفين ساعاتٍ دون ضجر. وكان شهدُ الختام صوتُ سمير الإسكندرانى وهو يمسك يدى لنتجوّل بين الجمهور ونغنّى: «يا رب بلدى وحبايبى والمجتمع والناس».

أشكرُ فريقَ عملى الشبابَ المتطوع الجميل الذين ينظّمون الصالون، وأشكرُ الأرمنَ المتحضرين الذين يستضيفون الصالون مجانًا، وأشكر المطربين والموسيقيين الذين يشرفون الصالون، «فيغسلون جرائمَه الفكرية بنغمهم»، وأشكر «د. ناصر عدلى»، رئيس تحرير «المواطنة نيوز» الذى يُهدينا دروعَ تكريم ضيوف الشرف كل شهر على نفقته الخاصة، وأشكر القنوات الفضائية والصحف التى تُغطّى الصالون إعلاميًّا. وأشكر أستاذى د. وسيم السيسى، سليلَ السلف الصالح العظيم، على تشريفه وكلمته الطيبة عن صالونى، ومن قبل أشكرُ جمهور الصالون المثقف. وبالطبع: «الدينُ لله، والوطنُ لَمن يُحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم