خالد منتصر
تذكرت هذا المثل الصينى وأنا أرى حالنا ونحن نتعامل مع تراثنا وتاريخنا ونصوصنا المقدسة، ظهرت أمامى تلك الجملة العبقرية وأنا أرى أمة كاملة تنظر إلى نصوص بنت زمانها وتشريعات بنت بيئتها وحدود مستجيبة لمناخ اجتماعى محدد، تنظر لها على أنها أحكام سرمدية أخلاقية خارجة عن الزمان والمكان، معلقة فى السماء، لا علاقة لها بالأرض، وعلى تلك الأرض أن تخضع قوانين جاذبيتها وظروف مناخها لمقاس وكتالوج تلك الأحكام الفولاذية، فالله يمنحنا مانشيتات وخطوطاً عريضة وعناوين عامة وإشارات ولافتات لطرق، ليست تفاصيل التفاصيل لأنها ستتغير وتلك مسئوليتك، ولا محطات الطريق لأنه ليس مطلوباً من لافتة الشارع أن تخبرك عن مساحة حجرتك فى الشقة التى فى العمارة المبنية على ناصيته!

القمر هو الغاية العليا والقصد البعيد من التشريع، أما الأصبع فهو الالتزام بحرفية النص وتخيُّل أنه هو الهدف والغاية والمقصد، لم يسأل نفسه وهو يحدق فى الأصبع، لماذا على سبيل المثال تكررت المصطلحات التجارية فى القرآن مثل: «خسر وربح وتجارة وإقراض وقياس الأوزان... إلخ»، لماذا الصيغة التجارية حتى فى مسائل العقيدة والعلاقة مع الرب كما ذكر الكاتب المغربى سعيد ناشيد فى كتابه «الحداثة والقرآن»، واستعمال مصطلحات «المكيال والميزان والمطففين» فى هذا السياق، لماذا جاء نظام العقوبات متسقاً مع المزاج التجارى للمنطقة؟، ولماذا جرائم السرقة وقطع الطريق كانت فيها الحدود على عكس الغش والاحتكار والربا؟

لم يسأل نفسه وهو ينظر إلى الأصبع عن آيات القتال مُغفِلاً أن القتال كان نشاطاً اقتصادياً ونمطاً ثقافياً وقتها، لم يسأل نفسه عن نصوص وفقه الرق الذى كان قوة إنتاج حينذاك تبخرت بعد اختراع الآلة البخارية.

لم يسأل نفسه وهو ينتظر نعيم الجنة عن سقف هذا النعيم وكيف أن جغرافيا ذلك الوقت هى التى رسمت، ومخيلة البدوى هى التى طمحت وتمنت، فكان النخيل والأعناب والعسل هى قمة التصور حينذاك، وكان يجب أن تكون اللغة على نفس مقاس الجغرافيا والمخيلة والذوق والبيئة.

لم يسأل نفسه وهو ينظر إلى أصبع القصاص والرجم والجلد عن أن عقوبات ذلك الزمن كانت تخضع للانفعال الانتقامى الحاكم لتلك البيئة.

أسئلة كثيرة أعمتنا عن رؤية القمر البدر الكامل للعموميات، هذه المشكلة والمعضلة نجدها تطل دائماً برأسها وتظللنا بغيمتها وتشلنا بقيودها فى مسيرة الأديان الإبراهيمية، ألقى الضوء على تلك المعضلة د.عبدالجواد ياسين فى كتابه المهم «الدين والتدين» حين قال، ص169: «التشريعات القانونية حتى وإن تبناها نص دينى هى خيارات اجتماعية مستمدة من البيئة التاريخية المزامنة للنص، وبالتالى فهى ليست جزءاً من المطلق الإيمانى الذى ينحصر فيه معنى الدين فى ذاته».

والتشريع الإسلامى بالذات وفى طور التشكيل لم يكن فى جدل مع الواقع فقط ولكنه فى جدل مع التوراة أيضاً، وهنا لا بد أن نقف وقفة سريعة لفهم التشريع التوراتى أو بالأصح فلسفة التشريع التوراتى أو ما يحكمه من رؤية، يلخصها عبدالجواد ياسين فى الكتاب نفسه، من ص12 إلى ص14، بأن اليهودية سياقها وفهمها كان نفعياً أو شبه تعاقد شعاره «امنحنا الحماية بعد الخروج فى مقابل التمسك بمنهجك»، ومن هنا كرس تاريخ اليهودية مفهوم الدين كنظام جماعى يتعلق بشعب أكثر مما هو إحساس روحى يتعلق بفرد، وأعتقد أن هذه الرؤية مفصلية فى المفهوم الذى طغى علينا فى سحق الفردانية وسيطرة الجماعية الاستنساخية التى أفرادها حزمة من الفوتوكوبى البشرى، ولأن اليهود لم يمروا بالمرحلة المكية وكانت الألواح العشرة التى هى بمثابة المدونة القانونية هى البديل، فقد تأثرنا وتغاضينا نحن عن كثير من المبادئ العامة للمرحلة المكية المليئة بالخطوط الاسترشادية العامة ولم نضع تفاصيل مرحلة المدينة فى إطار تلك المبادئ الاسترشادية، وهذا يولد أسئلة أخرى أعم وأشمل، هل الدين هو الأساس الذى نبنى فوقه أم هو البناء نفسه؟، هل هو الباعث على إطلاق كل طاقاتنا لصنع الأفضل فيما نختار من بدائل، أم هو أحد البدائل؟

الحراك الفكرى لبعض القدماء، والذى تم تأميمه لصالح السلفيين فعشنا الإذعان بدلاً من الإيمان، جعل هذا البعض يفهم تلك الحكمة الصينية وينظر إلى القمر المشار إليه بدلاً من الأصبع المشار به، منهم الفقيه مالك بن أنس الذى رفض فرض «الموطأ» بواسطة الحاكم أبى جعفر المنصور.

وإشارات سريعة لفهم الحدود التى هى دائماً مشاجرة وخناقة ومعركة كل تيارات الإسلام السياسى، يستخدمونها كفزاعة على أن مجتمعاتنا بعيدة عن صحيح الدين وتهدر حق الله، وإذا كان الحد هو حق الله بالفعل كما يروج هؤلاء فلماذا شجع الرسول ماعز والغامدية على الإنكار أو أثناهما عن الإقرار، مما جعلنا نصل كما قال المفكر جمال البنا فى كتابه «هل يمكن تطبيق الشريعة؟» إلى حد «تلقين الإنكار للمتهم».

يظهر عنصر الغاية والمقاصد جلياً فى موانع حد السرقة المثيرة للجدل والتى تضيقه وتضيقه حتى نجد مساحة يقف فيها نشال الجنيهات من الجيوب فى الأوتوبيسات وحيداً يرتعش بينما يمرح ويفر هاكر البنوك بملياراته بعيداً عن تنفيذ الحد!، فالمسروق لا يجب أن يكون صنماً من ذهب أو بيانو وعوداً ومزماراً، أو لوحة فنية ولو كانت الموناليزا، يعنى لو كان سارق لوحة زهرة الخشخاش موجوداً فى زمن الخلافة ما قطعت يده!، المسروق يجب أن يكون فى حرز، يعنى سرقة مطعم أثناء العمل تمر بدون حد، كذلك سرقة أحذية المصلين، وعند ضبط السارق بالبيت، ولو أعطى الحرامى المسروقات من الشباك لزميله، وإذا ثقب الحائط وأدخل عصا، وسرقة الزوجة لزوجها، وإذا كان مالك المال مجهولاً، وإذا كان المسروق أقل من النصاب...الخ، وعندما أثار الشيخ الأزهرى الجليل عبدالمتعال الصعيدى قضية أن القطع فى حد السرقة ليس للوجوب ولكنه للإباحة وأن فيه تخييراً، وثارت عليه الدنيا فى الأزهر الذى أصدر تقريراً يدينه، رد الصعيدى قائلاً «فليشهد التاريخ بعد هذا أن السرقة فيها القطع أو الغرم أو الحبس على التخيير، وليشهد التاريخ أن لولى الأمر أن يتصرف فى العقوبات الثلاث بحسب ظروف كل عصر».

من يصر على حرفية الحد ويقرأ فى تاريخ سرقة الإبل التى كانت عصب النقل التجارى والاقتصادى حينذاك، لم يقرأ مع تلك الحكايات ماذا كان يفعل الأمريكان الكاوبوى قديماً فى سارق الجياد، كان يُشنق ويُعلق على الشجرة!، هنا ناقة وهناك حصان والمشترك وسيلة النقل التى تحافظ على الاقتصاد بل والحياة.

وللأستاذ جمال البنا تفسير قريب إلى المنطق والعقل لمعنى إقامة حدود الله، ذكره فى كتاب «تطبيق الشريعة بين الحقيقة وشعارات الفتنة»، يقول فى ص 30 عن معنى إقامة حدود الله بأنها «تخاطب جميع المؤمنين كلاً على حدة، لتبين له حدود ما ينبغى أن يلزم نفسه به فى سعيه لسلوك طريق قرب من الله فى تكاليف يغلب على صدق أدائها الخصوصية الشخصية والخفاء»، ويضرب مثلاً بالصيام الآية المذكورة فى سورة البقرة «تلك حدود الله فلا تقربوها»، فالآية تتضمن تكاليف لا يجدى لصدق أدائها رقابة حكام لخصوصيتها الشخصية، فمن الذى يستطيع أن يراقب صائماً؟!، أدركوا قديماً تلك المعانى فضيقوا الحالات التى تقام فيها الحدود أحياناً لدرجة الاستحالة، فعقوبة الزنا الشهود الأربعة العدول الذين يشاهدون الفعل كاملاً بالتفصيل صدفة!، لأنهم إذا جاءوا عمداً فإنهم جواسيس، وإذا جاءوا صدفة وتعمدوا الانتظار فهم من الديوثين، وفى الحالتين الجاسوس والديوث غير عدول!!، وكذلك فى عقوبة شارب الخمر هل هى جلد بالسياط أم بالجريد أم ضرب بالنعال؟، وهل هى 20 أو 40 أو 80 جلدة...إلخ، وفى حد الردة أين حكم القتل فى آية {... مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ...}.

وكما ذكرنا من قبل، العقوبات ليست أخذاً لحق الله، وترويج هذا المفهوم يفتح باباً خطيراً يصور توقيع العقوبة من قطع يد ورجم.. إلخ، هدفاً فى حد ذاتها، فليست هناك علاقة بين توقيع العقوبة وعفو الله عن المجرم، كما يقول جمال البنا، فالرب يعفو بالتوبة.

هذه الصورة التى تختزل الدين فى رغبة انتقامية لتوقيع عقوبة بغرض العقوبة واعتبار التوبة مراوغة والإصلاح مستحيلاً والتجريس متعة والفضح غاية، هذه الصورة أعتقد أنها أكبر إساءة للدين ذاته وللأسف من معتنقيه أنفسهم الذين يصدرون إلينا أنهم حراس الدين المحافظين على عرينه وحصنه، وهم بهذا الاختزال أول من يستبيحون العرين ويُسقطون الحصن.
نقلا عن الوطن