الأقباط متحدون - لميس الحديدي تكتب.. اللائحة المدهشة
  • ١٤:٠٦
  • الاثنين , ٢٥ مارس ٢٠١٩
English version

لميس الحديدي تكتب.. اللائحة المدهشة

مقالات مختارة | لميس الحديدي

١٢: ٠١ م +02:00 EET

الاثنين ٢٥ مارس ٢٠١٩

لميس الحديدي
لميس الحديدي

لميس الحديدي
تابعت بمزيد من الدهشة والاندهاش (معًا) لائحة الجزاءات والمحاذير التي أعلنها المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام والتي حددت المخالفات والعقوبات الموقعة على المؤسسات الصحفية والإعلامية والمواقع الإلكترونية على حد سواء.. اللائحة قال عنها رئيس المجلس إنها تستهدف "حماية حق القارئ والمشاهد من جهة وحق الصحفي في تقديم المعلومة من جهة أخرى".. إلا أنها للأسف خرجت أبعد ما تكون عن تلك الأهداف فقدمت مجموعة من المواد "المدهشة" مستحيلة التطبيق، تغيب حق الجمهور في المعرفة وتشل الصحفي عن القيام بواجبه.

بداية يجب أن أعترف أنني أكن للأستاذ مكرم محمد أحمد - رئيس المجلس الأعلى للإعلام - الكثير من المودة والاحترام لتاريخه كصحفي مخضرم خاض الكثير من معارك المهنة.. لذا كانت دهشتي مضاعفة، فقد كنت أتوقعه الأحرص على المهنة وأصحابها! لكنني - وبعد قراءة اللائحة - فكرت أن أتقدم بنصيحة خالصة لزملائي في المهنة بأن نبحث جميعًا عن عمل آخر، فتلك اللائحة ببساطة ستحول البرامج التليفزيونية إلى برامج بلغة الإشارة (مع احترامنا للغة الإشارة فقد تكون مدرجة في العقوبات) كما تحول الصحف إلى منشورات تشبه أسعار العملة وبختك اليوم ومواقيت الصلاة (مع الاحترام أيضا لكل ما سبق) فإذا حاولت غير ذلك فقد تجد نفسك فجأة إما محظورًا أو مفلسًا.

لا يعني ما سبق طبعا أنني أوافق أو أدعو لفوضى المهنة، لكن مواثيق الشرف في العالم كله معروفة والجزاءات معروفة أيضا. أما ما صدر فهي لائحة مشوهة لا علاقة لها بالتنظيم لكنها أقرب للتنكيل حتى أن رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان السيد محمد فايق - وهو من خارج المهنة - أكد أنها "لا تتوافق مع الحق في حرية الرأي وتتطلب مراجعتها".

لن أتطرق هنا للشق القانوني والدستوري في اللائحة والذي ثبت بلا مجال للشك مخالفته للدستور وتغوله عليه (تحظر المادة 71 فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها). ولن أتطرق لاغتصاب المجلس الأعلى للإعلام حق المشرع وحقوق النقابات المهنية، ولن أتطرق للخلط بين الصحافة المكتوبة والإعلام المرئي والمواقع الإلكترونية التي يعرف أي متخصص الفروق بينها. لكنني سأحاول الحديث عن التطبيق أو استحالة التطبيق. فالقوانين -كما قال أستاذي هيكل -"كائن حي" إما تولد لتعيش أو أنها تولد ميتة فلا مجال لإحيائها أو تطبيقها (معلقًا على قانون 93 لعام 95). وهكذا هو حال تلك اللائحة: ولدت ميتة.

المادة 17 مثلا تتحدث عن "الإساءة إلى مؤسسات الدولة والإضرار بمصالحها العامة وإثارة الجماهير وإهانة الرأي الآخر ونقل المعلومات من مواقع التواصل دون التحقق" (جميعها وغيرها كومبو في مادة واحدة!).

فماذا تعني الإساءة لمؤسسات الدولة والإضرار بمصالحها؟ من يحدد معني ذلك وما هي تلك المؤسسات؟ المؤسسات مجموعة أفراد، فهل انتقاد عمل وزير مثلا إساءة؟ وهل انتقاد أداء محافظ إهانة وإضرار بمصالح المحافظة؟ وهل الكشف عن إهمال في مستشفى حكومي مثلاً هو جريمة؟ من يحدد معنى هذه العبارات أم أننا نتركها للآراء الشخصية لأعضاء المجلس؟ ثم ما هو المقصود بالرأي الآخر؟ وأين هو الرأي الأول كي يكون هناك رأي آخر؟ هل المعارضة (إن وجدت) هي رأي آخر؟ أم أنها الموالاة؟ وما معنى الإهانة؟ (أكاد لا أفهم اللغة العربية).

أما عن نقل المعلومات من مواقع التواصل دون التحقق فهو بلا شك أمر ضروري أتفق تمامًا عليه، لكن المجلس لم يوضح لنا كيفية التحقق أو يؤكد على حق الصحفي في الحصول على المعلومة.. وحتى اللحظة لم يصدر قانون إتاحة المعلومات، فكيف يمكننا التحقق من أي خبر سواء في مواقع التواصل أو غيرها.

في الدول المتقدمة المتحدث باسم الوزارة عليه أن يجيب الصحفي حتى لو كانت الإجابة (بلا تعليق). أما نحن فنواجه صعوبة حقيقية في تصريحات المسؤولين فإذا تحقق الصحفي من الخبر يرفض المسؤؤل أن يذكر ذلك على لسانه، كي يتنصل من الخبر إذا ما وقعت الواقعة. فبالله عليك يا أستاذ مكرم ماذا يفعل الصحفي؟ ببساطة أنت تقول له لا تنشر أي خبر وإلا عوقبت بغرامة 250 ألف جنيه! (ممكن تسدد بالدولار!)

والعجيب والمدهش أيضا أن المادة 18 من اللائحة تناقض ما سبق. فهي تطلب من الوسيلة الإعلامية أو الصحفية أن "تسلك مسلك المشتغل بالعمل العام أو الشخص ذي الصفة النيابية بهدف تحقيق الصالح العام"! كلام جميل ولكن كيف يمكن للصحفي تحقيق الصالح العام وهو مقيد الحركة منزوع الأدوات.. وهل كانت التحقيقات الصحفية العظيمة للأساتذة الكبار على مر تاريخ الصحافة ستجد مكاناً لها تحت هذه القيود؟ لن أذكر بوب وودورد مفجر فضيحة ووترجيت الأمريكية الشهيرة، فذاك في بلد آخر وقارة أخرى وحريات أخرى، لكنني سأذكر تحقيقات إحسان عبدالقدوس عن الأسلحة الفاسدة وتحقيقات كشف الفساد في قضايا نواب القروض وغيرها، وهل كنا سنتمكن نحن أنفسنا في الماضي القريب من كشف أكاذيب حكومة الإخوان تحت هذه اللائحة؟ فليذهب كل الصحفيين العظام إذن للجحيم فجميعهم -طبقا لهذه اللائحة - يستوجب عليهم العقاب!

ثم تأتي المادة 20 لتضع قيدًا جديدًا لم يشرح لنا المجلس كيفية تطبيقه: "استضافة شخصيات غير مؤهلة" فما هو المؤهل الذي تستوجبه الاستضافة؟ الدكتوراه مثلا؟ أم الماجستير أم درجة وظيفية معينة؟ وماذا عن شباب أصحاب تجارب حديثة مثلا لكن خبرتهم قليلة هل هؤلاء غير مؤهلين! العبارات تحتاج إلى ملحق تفسيري باللائحة كي نفهم.

ولا تقل المادة 21 غرابة واستحالة في تطبيقها خاصة في البرامج الاجتماعية وبرامج المرأة حيث تحظر إجراء مناقشات "تعمم حالات فردية باعتبارها ظاهرة عامة بما يلحق الضرر بحق المواطن في التمتع بإعلام حر متوافق مع الهوية الثقافية المصرية"! بالله عليكم هل يمكن لأحد أن يعرف لنا ماهية الهوية الثقافية المصرية؟ هل لها خصائص في الكتب لم أصل إليها؟ ثم إن كل البرامج الاجتماعية تعتمد على استضافة الحالات الإنسانية لمناقشة قضايا الزواج والطلاق والنفقة والاستضافة وغيرها... ذاك يمكن أن يعتبره المجلس تعميمًا، فنعود إلى برامج الإشارة أسلم!

ما سبق كان مجرد نماذج صادمة لللائحة "المدهشة" التي أصدرها مجلس نصب نفسه من خلالها خصمًا وحكما ومشرعًا ومحققًا وصاحب سلطة التقدير والعفو معًا! وبعيدًا عن الأخطاء اللغوية وركاكة الصياغة، فإن تلك المحاذير هي في حقيقتها مستحيلة التطبيق حتى في مجلة الأطفال ميكي (فعم دهب بخيل: سب وقذف أو تعميم أو إيذاء لمشاعر الأطفال مثلا طبقًا لما يراه المجلس)....

لقد خاضت الصحافة المصرية معارك لا تنتهي دفاعًا عن حرية الرأي وحق المواطن في المعرفة يعود إلى عهد جريدة اللواء وجريدة مصر الفتاة 1909، مرورًا بالعظيمة روزا اليوسف التي واجهت العائلة المالكة والأحزاب والوزراء بكل بأس وشجاعة، وصولاً إلى القانون "سيئ السمعة" لعام 95 وغيرها كثير. وما هذه اللائحة إلا دورة جديدة في سلسال هذه المعارك. مرة أخري حرية الصحافة هي حق المجتمع قبل أن تكون حق الصحفي...وأي تغول على هذا الحق يفرز مجتمعًا مرتبكًا لا يعرف الحق من الباطل. فيتجه لمصادر معلومات أخرى لها مصالحها المغرضة وينصرف عن الإعلام المحلي ببساطة لأنه أصبح شبيهًا بالنشرة الجوية (ليس سبًا والله مجرد تشبيه). فإذا كان الاتجاه كذلك فأظن أن على الدولة – توفيرًا للخسائر - إغلاق كل المطبوعات التي تمتلكها والمحطات التي اشترتها فهي تحت نير هذه اللائحة ميتة لا محالة.
نقلا عن مصراوى

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع