الأقباط متحدون - تحت السرير.. مع أفروديت وهيرا
  • ٠٠:٥٩
  • الخميس , ٧ فبراير ٢٠١٩
English version

تحت السرير.. مع أفروديت وهيرا

مقالات مختارة | فاطمة ناعوت

١٦: ٠٨ ص +02:00 EET

الخميس ٧ فبراير ٢٠١٩

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

حدثتُكم الاثنين الماضى كيف كنتُ أخبّئ الكتبَ التى أودُّ قراءتَها داخل متون كتب المدرسة، لأخفيها عن عيون أمّى التى كانت تحظرُ علىَّ القراءةَ خارج حدود المناهج الدراسية، نُشدانًا للتفوّق الدراسىّ كى أُحصِّلَ أعلى الدرجات فأدخل كلية الهندسة. وكان لها ما أرادت فدخلتُ الهندسة، وكان لى ما أردتُ فقرأتُ ما شئتُ من كتب كان لها الفضلُ فى بناء عقلى وتكوين شخصيتى. وكنتُ أنظِّم عُمرى مع الكتاب فأقرأ وفق نهج مدروس. أخصِّص كلَّ عام لنوع محدد من المعارف الإنسانية والعلمية. فهذا العامُ منذورٌ للفلسفة الإغريقية، والعامان التاليان للفلسفة الصينية أو الألمانية. وتتزامنُ مع ذلك على نحو ثابت قراءاتٌ فى العلم، كنظرية النسبية أو نظرية الكمّ، وقراءاتٌ فى الأدب مثل المسرح الروسى أو الأدب الألمانى أو الفرنسى. كلما كبرتُ، كبُرَت معى كتبى وتضخّمت وغَزُرت صفحاتُها، وكبُرت مشكلةُ إخفائها عن عيون المراقبة، إذْ استحال احتواءُ أجساد الكتب الضخمة داخل خصور كتب المدرسة النحيلة، فاضطررتُ إلى فصل كعوبها وتقسيمها إلى ملازم صغيرة تختفى داخل كتاب التاريخ، أو كتاب الجغرافيا. مازلتُ أذكرُ دموعى تطفرُ وأنا أقصُّ كعبَ «الفردوس المفقود» وأسحب خيطَ رباطه حتى أقسِّمَه إلى ملازم صغيرة. وكأن عينى «جون ملتون» تشخصان فى عينىَّ بملء الغضب وتتساءلان: «مَن تكون تلك المزعجة الرعناء التى تجاسرت لتمزّق إبداعى؟!».

حين بدأتُ مرحلة الفلسفة الإغريقية عزَّ علىَّ أن أمزِّق الإلياذا والأوديسا وجمهورية أفلاطون، فكان علىَّ ابتكار حيلة جديدة، أكثر سلميةً مع الكتاب، وأكثر تقديسًا لقيمة الكنوز التى تسكن بين دفّتيه. ولكن كيف؟ كيف يمكن أن تمرَّ كلماتُ الكتاب على عينىَّ ثم تتسرَّب داخل رأسى، دون أن يتمزّق الكتاب، ودون، وتلك هى المعضلة، أن تلمحَها أمى الحاسمة ذات الطباع الحادّة. فكان أن صنعتُ لنفسى بيتًا داخل البيت. أو بالأحرى، كوخًا صغيرًا فى غرفتى. على نحو الدقّة ابتكرتُ خيمةً سفليةً مظلمة، فى مأمن من المراقبة. فى كلّ ليلة بعدما أستلقى على سريرى وتُدثِّرنى أمى فى أغطيتى، وتقول لى: «كواك كواك»، وهى كلمة الإيذان بالنوم، وتتمنى لى أحلامًا سعيدة. أغمضُ عينى، زاعمةً النوم، حتى تخرج أمى من الغرفة وتطفئ النور. أنتظر عشر دقائق، تكون كافيةً لتدخل أمى غرفتها وتنام. أتسلَّلُ بهدوء من سريرى مثل لصّة حذرة، وأفتح «شيش» شرفتى سنتيمتراتٍ قليلة، وأختلسُ النظرَ إلى شرفة أمى، لأتأكّد أنها أطفأت نورَ غرفتها ونامت. ثم أعود أتحسّس أثاث غرفتى فى الظلام الدامس، حتى أصل إلى مكتبى، وآخذ قلمًا وأباجورة الاستذكار، ثم أدخلُ بهما تحت سريرى، حيث «خيمتى» السريّة، وأدسُّ فيشة الأباجورة فى مخرج الكهرباء السفلىّ جوار السرير. ثم أنكفئ فوق الكتاب الذى أخفيه فى صندوق اللعب والكراكيب تحت السرير، وأبدأ طقسَ القراءة اليومى، حتى يغالبنى النُعاسُ، فأترك وجبتى الدسمة، وأدسَّ صحنَ القراءة فى صندوقه على وعد بلقاء الغد، ثم أصعد إلى فراشى، وأنام.

عشرات وعشرات الكتب قرأتُها فى الخيمة تحت السرير. تشيوكوف وتولستوى وديستوفيسكى وبوشكين إضافةً للميثولوجيا الإغريقية. مازلتُ أتذكَّرُ كيف كانت ظلالُ أوراق الكتاب تخاتلُ أشعة الضياء المنسربة من لمبة الأباجورة فى ظلمة كهف السرير تُصوِّر لى أشكالاً مخيفة فأتصوّرُ أن «هيرا» الإلهة الشرسة ترقصُ وتتلوّى فى غضب وهى مُعلَّقةٌ من معصميها بسوار ذهبى بين الأرض والسماء، كما حكم عليها زوجها كبير الآلهة «زيوس» عقابًا لها على مشاغباتها وقسوتها. ثم أسمعُ أنين «برومثيوس» الموجوع حين تنهشُ الصقورُ كبده وهو مُعلّقٌ بين جبلين عقابًا له على سرقة قبس النور من السماء ليُهديه إلى أهل الأرض من بنى الإنسان. وبعد برهة أنتفضُ فى رعبٍ حين تفلتُ الصخرة من أعلى الجبل وتسقطُ فوق رأسى ورأس «سيزيف». ولا أهدأ حتى تربت «أفروديت» على ظهرى قائلةً فى حبّ: «لا تخافى يا طفلتى، ستكونين بخير. سوف يملأ الحبُّ قلبَكِ الصغير، حتى يكبُر ويحتوى هذا العالم». وتحققت النبوءة.

فطوباكِ يا أفروديت، وطوباكِ يا أمى «سهير» فى فردوس الرحمن الرحيم، وسامحينى. وطوبى لمن يُحبُّ ولا يكره. وكالعادة يكون طِيبُ الختام بـ: «الدين لله، والوطن لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع