الأقباط متحدون - من أين أتينا؟ ومن نكون؟ وإلى أين المصير؟
  • ٠٦:٢٩
  • الاربعاء , ١٦ يناير ٢٠١٩
English version

من أين أتينا؟ ومن نكون؟ وإلى أين المصير؟

مقالات مختارة | ياسمين الخطيب

١٤: ٠٤ م +02:00 EET

الاربعاء ١٦ يناير ٢٠١٩

ياسمين الخطيب
ياسمين الخطيب
ياسمين الخطيب
ويبدو أن نداهة الفن قد ظهرت في باريس عام 1871، لشاب تقليدي يعمل بأحد محلات الروبابيكيا، حيث التقى زميل له يدعى "إميل شوفنكر"، كان يمارس الرسم كهواية بالإضافة لعمله، اكتشف موهبته وعلمه، فأصيب بجنون الفن ولم يبرأ منه أبدًا.
 
بدأت القصة عندما اكتشف "شوفنكر" أن تلميذه يفوقه موهبة، فشجعه على الرسم، ليعرض أول أعماله عام 1876، ثم يقرر أن يتفرغ تمامًا للفن في العام الذي تلاه، رغم توسلات زوجته، التي توقعت أن تفرغه للفن سوف يؤدي بمستقبل أسرتها وأولادها إلى الضياع، ولكن توسلاتها لم تجدِ نفعًا، فقد سحرت نداهة الفن زوجها، فترك أسرته ترحل إلى الدانمارك، وبدأ رحلة الخروج، من باريس إلى بنما، ومنها إلى المارتينك، ثم تاهيتي، وبابيت، وأخيرًا وجدت روحه الهائمة مستقرها في إحدى جزر المحيط الهادي النائية "ماتاييا"، حيث كفر بالمدنية الزائفة، وعاش في كوخ صغير، حياة متصوفة زاهدة، يناضل مع الوطنيين من سكان الجزيرة ضد عنصرية البيض، ويتأمل ويرسم، وحيدًا، فقيرًا، متسائلا في كل يوم:
 
"من أين أتينا؟ ومن نكون؟ وإلى أين المصير؟
إنه "بول جوجان"، أحد أساطير الفن التشكيلي، الذي اختار أن يعيش في سلام، حياة بدائية، نقلها في لوحاته، كما نقل بها تصوراته الفلسفية، بأسلوبه الخاص، الذي ابتكره من خلال تطوير مذهب "التكوين الموحد" أو "السينتيتزم"، ليضيف إلى التراث الفني العالمي واحدًا من أهم مذاهب الفن التشكيلي الحديث، فكيف اكتشف "جوجان" السينتيتزم" خلال رحلته الروحية؟
عام 1774 زار "جوجان" معرضا للفن التأثيري، شارك فيه العمالقة، "سيزان"
 
و"بيسارو" و"رينوار" و"سيسلي" وغيرهم، ففتن بالمذهب التأثيري، وشغف بدراسته بتعمق ودقة، وتوطدت علاقته بفنانيه، خاصة "بيسارو"، الذي تأثر به "جوجان" خلال هذه الفترة بشكل واضح، وبعد سنوات معدودات أصبح "جوجان" واحدًا من فناني التأثيرية، وشارك في معرضهم. ولكن روح "جوجان" المتمردة، لم تلبث أن ثارت على المذهب التأثيري، وعلى فنانيه، خاصة "مونيه" و"بيسارو".
 
في هذه المرحلة تنزل الوحي على "جوجان" بمذهب التكوين الموحد (السينتيتزم)، فأخذ يدعو إليه في الأوساط الفنية، بيد أنه لم يكن أول الموحى إليهم بهذا المذهب، فقد انتسب إلى "إميل برنار" من قبله، وهو الأمر الذي لم ينكره "جوجان" أبدًا، بل على العكس عمد إلى تأكيده، رغم إصرار الجميع على نسب الفضل لجوجان في نشر "السينتيتزم"، لأنه دعمه بإنتاجه الغزير بعد تطويره، كما أن ثقافته المتميزة ساعدته على تدوين نظريته ونشرها.
 
وعلى ذكر "إميل برنار" وجب أن نلقي الضوء على أهمية الثالوث المقدس، الذي أسهم كل منه في ثقل موهبة الآخر فنيا وروحيا، إذ إن شريكه في السكن ورفيق كفاحه هو العبقري المكتئب "فينسينت فان جوخ"، الذي عرفه على "إميل برنار"، الفنان العشريني المهوَّس بفن الزجاج الملون المعشق بالرصاص والمزين للكاتدرائيات الكبرى، والفن الريفي، والفن الياباني المحفور على الخشب، وهي العناصر الثلاثة التي ارتكز عليها مذهب التكوين الموحد، الذي يعتمد على بساطة الأداء وتحديه في نفس الوقت من خلال الاعتماد على الخطوط الخارجية الواضحة المحددة للأشكال، مع استخدام مسطحات قليلة الظلال، وهو الأسلوب الذي تأثر به "جوجان" ثم طوره ليحمل طابعه الخاص، الذي تأثر فيه أيضا بالاتجاهات الفنية اليابانية والمصرية القديمة، كما أضفى عليه طابعا صوفيا روحيا، يعكس معاناته التي بدأت بنداء النداهة ولم تنتهِ إلا بموته.
 
وفي لوحته "من أين أتينا؟" و"من نكون؟" و"إلى أين المصير؟" يتجلى أسلوبه الفني، وفلسفته الصوفية، التي اختصرها في مقولته الخالدة:
 
"لقد تركت ورائي كل ما هو صناعي واصطلاحي وعادي.. حيث دخلت إلى عالم الحقيقة.. إلى الطبيعة".
 
لم يكن "جوجان" مجرد مبتكر لمذهب فني جديد، ولكنه كان واحدًا من أهم المشاركين في مرحلة الثورة الفنية التي أطلق عليها مثقفو باريس وقتذاك إصطلاح:
 
"Fin de siècle" أو "نهاية القرن" وكان اكتشافه لمذهب "السينتيتزم" بمثابة الخطوة المُمَهِّدة لميلاد واحدة من أهم مدارس الفن التشكيلي الحديث، هي "المدرسة الوحشية"، كما سنشرح في المقال القادم.
نقلا عن التحرير

 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع