الأقباط متحدون - خواطر حول التربية
  • ٢١:٥٠
  • السبت , ١٠ نوفمبر ٢٠١٨
English version

خواطر حول التربية

مقالات مختارة | د. الأنبا يوحنا قلته

٠٩: ٠١ م +02:00 EET

السبت ١٠ نوفمبر ٢٠١٨

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

د. الأنبا يوحنا قلته
شغلت قضية التربية الفلاسفة والمفكرين شرقاً وغرباً على مر العصور، منذ جمهورية أفلاطون وحتى اليوم مازال البحث يسعى عن معنى «كيف يكون الإنسان إنساناً» والأديان كافة إنما جاءت لتربية وتقويم هذا الإنسان، بعضهم رأى ذلك فى غرس الفضائل أو الشجاعة أو الحرية أو التسامح وعدم التطرف والعنف، ولم يستقروا على نموذج لمعنى إنسانية الإنسان حتى أضحت هذه الكلمة تشبه العقيدة الدينية التى يختلف حول تفسيرها حتى أصحابها.

التربية هى صناعة الإنسان أو صياغة وجدان وأخلاق الشعوب، فالشخص الفرد الصالح هو عضو لخير وصلاح المجتمع، وإن كان التعليم هو صياغة عقلية الإنسان وبناء العقل الجماعى ولكنه وحده دون التربية يعجز عن إعداد «إنسانية الإنسان والتربية وحدها لا تقيم إنساناً سوياً، إذ لابد من التربية والتعليم معاً لنصنع الإنسان» الذى يحتاج إليه الوطن والمستقبل، وفى رواية للأديب الألمانى فردريك هولدرلين يقول على لسان أحد السائحين الذى تجول فى المدن، ورداً على سؤال ماذا رأيت فيها، قال: «رأيت صناعاً مهرة ومهندسين، وأطباء ورجال دين ولكنى لم أجد الإنسان» والفكر الدينى بوجه عام يقول إن التربية هى إعداد الإنسان للحياة، وللقاء خالقه.

فالعقل وحده لا يسعد الإنسان والجهل يجعله فى سعادة البؤس، أما عمانوئيل كانط الفيلسوف فقد حاول أن يجد إنسانيته فيقول: أزحت العلم قليلاً لأفسح مجالاً للإيمان والأخلاق .وقد يسأل البعض، أين الإيمان فى ذلك كله وأين رسالته فى التربية؟ نقول فى محاولة للإجابة إن الفيلسوف سارتر قال إن الجحيم هو الإنسان الآخر، بينما يقول أحد المؤمنين إن الإنسان الآخر هو الطريق إلى الله. والإيمان بالخالق تبارك وتعالى ليس ترفاً دينياً أو رفاهية روحية، بل هو خروج من سجن الذات إلى رحاب الله فى صلاة أو دعاء أو عمل خير، الإيمان يعطى المعنى الأصيل للتربية، يشقى الوالد والوالدة، لأن الله أعطاهما وديعة هى تربية الأبناء والبنات، يخلص المدرس، يتقن الطبيب، يصدق المهندس، كل عمل إنما هو صلاة لله إذا أخلص فيه الإنسان، فما بالك بالتربية الرسالة العظمى فى الحياة ، تنشئة أجيال الوطن، فالإيمان هنا كالملح للطعام ، كالنور فى الظلمة ، إن حضارتنا المعاصرة فى مسيرة جديدة من تاريخ الحضارات ، لقد قلبت صفحة العصور الوسطى فى القرن 15 وقلبت صفحة العصور الحديثة فى هذا القرن الـ 21 . ترى ما هى التربية كما نراها وقد نخطئ وقد نصيب؟

-التربية إعداد الإنسان منذ طفولته لمقابلة الحياة والتعايش مع الإنسان الآخر مهما يكن مختلفاً، فالتنوع والتعددية قانون كونى، فالتربية تعد الشخص مع مراحل عمره وبما يتناسب مع قدراته وظروفه لكى يتعايش مع مفاجآت ومتناقضات الأيام.

-المحبة للإنسان، وللحياة، والرجاء فى مستقبل أفضل من أسس التربية السليمة، فأنت لا تستطيع أن تربى ابناً أو تلميذاً إلا إذا أحببته أولاً ،بل قل الأمر ذاته عن الطير والحيوان والأشياء إن لم تكن تحب ذلك كله فلن يكون لك تأثير على تكوين أخلاقه وسلوكه، إن روح الإنسان تتوهج وتشع فى علاقته بالآخر، وبالأشياء.

-يولد الكائن البشرى وفى كيانه نزعة مطلقة غرسها الخالق القدير، نزعة إلى الجمال والفن والإبداع ، ولا يولد إنسان يعشق القبح والشر والفساد، وقد سواه خالقه لينسجم مع الطبيعة، ورسالة التربية أن تفجر ما فى أعماقه من مواهب. وفى رأى بعض العلماء أن عمر الإنسان فى الرابعة يكون قد تحدد إطار شخصيته، والحذر كل الحذر التعامل مع أى إنسان، طفلاً أو شاباً أو رجلاً أو امرأة كأنه شيء، فقيمة الإنسان فى ذاته وفى إنسانيته وفى قدرته على التطور والتثقف واكتساب الخبرات، وليست قيمته فى جماله أو لونه أو ماله، ودعوة الإنسان فى الحياة أن يكون إنساناً قبل أن يمتلك الثروة أو المنصب، والخوف أن يسجن الإنسان مدى حياته فى «كيف يمتلك» وينسى أن له حق الحياة والاستمتاع بها.

-إنسانية الإنسان التى تعنى انتماءه لأسرة بشرية ،ألغيت حواجز الزمان والمكان بعد ان امتلكت وسائل الإعلام والاتصال والترحال، ذلك يعنى أيضاً أنه ينتمى إلى وطن وتاريخ وإيمان وقيم كما ينتمى إلى أسرة أعطته الحياة والسمات والملامح ولا يمكن أن يتخلى عن جذوره أو يتخلص منها.

-عبرت الإنسانية عمر المراهقة أى عصور الدين والحرب واستعلاء جنس، على جنس وبدا عصر نضج العقل البشرى الجماعى وتقارب الشعوب وكراهية الحروب، وحتى الآن برغم كل الصراعات فى العالم لم يتفوه مسئول بكلمة «حرب عالمية» فهذا جنون الانتحار، فهل فعلاً نضجت الإنسانية وبدأت مسيرة جديدة فى النضج السياسى والاقتصادى والدينى، أقولها شئنا أم أبينا نحن سكان الكرة الأرضية، أسرة واحدة، تمضى إلى التقارب وتهدف إلى السلام ، وتتسع دائرة الحريات، ويتوهج الإيمان ولكن هذه تطورات فى حاجة إلى زمن، والله الخالق وحده يمسك بخيوط الزمن لأنه الحى القيوم.
نقلا عن الأهرام

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع