الأقباط متحدون - ركود الأفكار والعقل العربى المحبط فى عالم متغير
  • ٠٠:١٩
  • الخميس , ١٨ اكتوبر ٢٠١٨
English version

ركود الأفكار والعقل العربى المحبط فى عالم متغير

مقالات مختارة | نبيل عبد الفتاح

٥٠: ١٠ ص +02:00 EET

الخميس ١٨ اكتوبر ٢٠١٨

نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح

حالة من الركود تسود الإنتاج المعرفى، الحياة العقلية لدى عديد من كبار المفكرين والمثقفين العرب فى مرحلة الاضطراب الإقليمى، وانهيار بعض الدول العربية وفشل بعضها الآخر، والسيولة والعنف الاجتماعى، وموجات الهجرة القسرية والطوعية، والأخطر شيوع الإحباط الجمعى، واليأس وغياب ملامح للخلاص والأمل الفردى والجماعى، على نحو لم يكن يخطر على عقل النخب المثقفة العليا، أو النخب السياسية الحاكمة والمعارضة منذ تأسيس الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال.

إن مقارنة اللحظة التاريخية الراهنة، بغيرها من المراحل والعقود قبل وبعد الاستقلال تشير إلى أن الفكر العربى منذ مطالع النهضة فى نهاية القرن التاسع عشر، اتسم ببعض من الجسارة والمغامرة الفكرية والنقدية فى مواجهة بعض معالم الواقع الموضوعى ومشكلاته وأزماته السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية.

كانت الحيوية، ونقد الذات والتراث، والنزعة إلى طرح أسئلة الحاضر والعصر، والبحث عن إجابات متعددة للخروج من التخلف التاريخى فى أنماط الحياة الاجتماعية ونظمها ومنظوماتها التعليمية التى تعيد إنتاج التخلف، وفى الحياة الثقافية.

سادت آنذاك نزعة عارمة لبحث أسباب التخلف وكيف يمكن تجاوزه. تعددت الإجابات من عدد من كبار المفكرين حول السؤال العام والبسيط لماذا تقدموا؟ ولماذا تخلفنا؟ بحسب صياغة شكيب أرسلان، وكانت الإجابات تتسم بالعمومية، والنزعة التوفيقية التى وصفها بعضهم بالتلفيقية.

أيا كانت الأعطاب النظرية والمناهجية فى التمرينات العقلية للإجابة عن السؤال المركزى الذى طرح آنذاك، إلا أن غالبها اتسم بالعنفوان، والنزعة السجالية والجدالية والحوارية بين بعض هؤلاء المفكرين، وآرائهم إزاء الضرورة التاريخية فى السعى نحو التخلص من وضعية الاستعمار، وبناء دولة حديثة، ونظام يكرس الحريات العامة، وعلى رأسها حرية العقل والرأى والتعبير والبحث.

حيوية ثقافية استمرت طيلة مراحل التحرر الوطنى، والبحث عن سياسة تنموية تكرس العدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطنى، وفى ظل التسلطات السياسية والدينية استمرت بعض الدعوات للمطالبة بالحريات العامة.

فى كل مراحل التغير السياسى والاجتماعى بالمنطقة، ثمة استجابات واجتهادات فكرية وسياسية وفى مجال النقد الاجتماعى، سعت لتشريح الاختلالات الاجتماعية ونقد أنساق القيم المتخلفة، سعيا وراء أخرى تدعم وتحث على الحرية الفردية والعقلانية والعلم.

بعض الحرية الفكرية والإبداعية لم تكن مقصورة على الإنتاج المعرفى فى مجال الأفكار، أو الدراسات فى العلوم الاجتماعية، أو بعض الممارسات الفلسفية، وإنما امتدت لتشمل الفنون والأدب التى شهدت عديدا من التجارب والمغامرات الإبداعية فى توطين السينما، وإنتاج مكتبة سينمائية مصرية بالأساس ومعها بنية أساسية للإنتاج والعروض والتسويق، والأهم ميلاد وتكوين وتطور الجماعة السينمائية من ممثلين ومخرجين وكتاب سيناريو وحوار، ومصورين وفنيين، وأستوديوهات.

جماعة سينمائية استطاعت إنتاج وإبداع تراث سينمائى عريق، يتضمن بعض الأعمال المتميزة واللامعة فى تاريخها، والأهم أنها تشكل أحد محركات الثقافة المصرية، وتحمل بعضا من تاريخ التطور الاجتماعى ومشكلاته ومنظومات القيم وتغيراتها وارتباكاتها.

فى الآداب، ساهم جيل الآباء المؤسسين فى الرواية، فى استعارة وتوطين هذا الجنس الأدبى واستطاع نجيب محفوظ أن يضفى مشروعية تاريخية وسردية للرواية لتغدو جزءا من أنسجة الأدب المصرى والعربى كله، وتتالت أجيال عديدة، وحملت معها تجارب روائية وقصصية متميزة لاسيما بعض كبار المبدعين من عقود التسعينيات، والسبعينيات إلى جيل أوائل الألفية.

ميراث سردى متميز فى إطار إطلاع بعض هؤلاء المبدعين على التجارب السردية العالمية. ثمة دينامية أخرى ساهمت فيها الحركة التشكيلية المصرية وروادها فى التصوير والنحت، وطورتها أجيال متعددة، ساهمت فى تشكيل الذائقة والذاكرة البصرية والجمالية.

بعض التجارب والمحاولات الإبداعية فى مجال الفنون، يبدو أنها الأكثر قدرة على تجاوز نسبى لبعض القيود على حريات الرأى والتعبير التى حفل بها تاريخ التسلطية والشمولية فى المنطقة العربية، ومن هنا ظلت بعض التجارب الإبداعية قادرة على المناورة مع الرقابات الرسمية والعرفية السياسية والدينية والاجتماعية على قسوتها الحادة، والمصادرات التى طالت بعضها.

الملاحظ أن الفكر العربى الحديث والمعاصر كان الأكثر تصادما وتوترا وصراعا مع هيكل المحرمات السياسية والدينية والاجتماعية، والأكثر تعرضا للمصادرات والتكفير الدينى والأخلاقى والاجتماعى، وهو ما أثر سلبا ضمن أسباب أخرى فى تعثر محاولات بعض المفكرين والمثقفين فى المقاربة النقدية والتاريخية لبعض مكونات الموروث النقلى الدينى الوضعى، من هنا شكل الاستخدام السلطوى للتراث الدينى الوضعى أداة كبح للعقل النقدى، ساهمت أيضا بعض الجماعات الدينية السياسية والراديكالية طيلة عديد العقود فى مطاردة الأفكار الحداثية، والمقاربات النقدية من خلال استخدام سلاح التكفير الدينى، أو من خلال خطاب الهوية الأحادى الذى هدف إلى تديين الدولة والسياسة.

من هنا تراجعت الاجتهادات الفكرية والنقدية ومعها المشروعات الفكرية ــ والاستثناءات محدودة- منذ نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضى، بينما الواقع الموضوعى يتغير ويزداد تعقيدا ومعه تنامت القيود الثقيلة على العقل العربى، وتتراجع على نحو مستمر ادوار وإنتاج مراكز البحث السياسى والاجتماعى. من ناحية أخرى تتزايد الفجوات بين المدارس الفكرية العربية وبين الانقطاعات والتغيرات المعرفية التى تجرى فى الفكر ومدارسه المختلفة فى عالمنا، ناهيك عن تحولات العلم الطبيعى والتقنية الرقمية فى إطار الثورة الصناعية الرابعة.

الأخطر خفوت وتراجع دور المفكر والمثقف، وتحول الصمت إلى سلطة، والارتباك والمراوغة والتشوش إلى حالة فكرية تنتعش داخلها اللغة والأفكار القديمة والمستهلكة فى عالم يتغير بسرعة وكثافة بعيدا عنا.
نقلا عن الأهرام

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع