الأقباط متحدون - من كشكول المشير الجمسى
  • ٢٣:٢٩
  • الاثنين , ٨ اكتوبر ٢٠١٨
English version

من كشكول المشير الجمسى

مقالات مختارة | سحر الجعارة

١٨: ٠٦ ص +02:00 EET

الاثنين ٨ اكتوبر ٢٠١٨

سحر الجعارة
سحر الجعارة

كنت شابة مغامرة، أحاول أن أقتحم عالم المشير «عبدالغنى الجمسى» برفق. توقف بنا زمن الحوار عند موقف درامى خرج فيه «الفيلد مارشال» من الميدان لتتحول «وزارة الحربية» بعده إلى «وزارة الدفاع» بما يتناسب وخطاب مرحلة السلام التى بدأها السادات بـ«كامب ديفيد»!

من تلك اللحظة الفارقة انكشف الألم الذى كان يداريه بكبرياء شديدة. وحملتنا الذكريات إلى حوارنا.. كانت مهمة اختراق «الجبهة الإنسانية» للمشير شبه مستحيلة، وكنت أسجل حواراً ينفرد بتقديم الخلفية الإنسانية للشخصيات والمواقف السياسية فى تجربة يوثق فيها الصحفى بالكلمة والصوت والصورة شهادات حية على التاريخ المعاصر، ويجيب عن السؤال الذى يتردد على ألسنة الناس حول المشاهير الذين غادروا بؤرة «الضوء»: «أين هم الآن»، وكان هذا هو اسم البرنامج الذى عُرض على قناة ART.

حاولت رسم «بورتريه» إنسانى يقدم ملامحه النفسية وعالمه وواقعه، ومن غرفة المكتب التى كان يعتبرها «ثكنة» يعكف بداخلها على الأبحاث العسكرية والاستراتيجية. كان غارقاً فى كمٍّ هائل من الكتب، وعلى مكتبه مشروع «مركز للدراسات الاستراتيجية- العسكرية». المشروع أُجهض لعدم وجود إمكانيات!.. أما المكتبة فتلخص تاريخه وتحفظه: 24 نيشاناً وميدالية، ونجمة الشرف التى حصل عليها بعد حرب أكتوبر، وأعلى المكتبة بقيت حقائب قطيفة فارغة كانت تحمل -ذات يوم- أسلحة نادرة أهداها له الرؤساء والملوك العرب وأهداها فيما بعد للقوات المسلحة!! وهنا توقف ليقول: «بعدما رحلت زوجتى وانصرف الأولاد إلى أسرهم الصغيرة أصبح الكتاب هو كل سلواى فى وحدتى، وسيبقى معى حتى أموت».

وإلى جوار الكتب احتفظ المشير بـ«النجمة العسكرية وكشكوله الشهير ووثيقة حصوله على رتبة مشير واستقالة أصر على كتابتها للتاريخ». كانت شخصية المشير العسكرية صارمة بشدة، ترفض البوح، فاستعرت عبارة الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل وسألته عن «دموع الجنرال»: هل صحيح أنك بكيت أثناء المفاوضات مع «كسينجر»؟ أجابنى وبريق دمع عزيز يغلف نظرته: «كنا نتفاوض حول الأمن المتبادل بين مصر وإسرائيل، وأصر كسينجر على منحهم تأميناً أكثر، رفضت، فجاءنى السادات وقال قضى الأمر، انسحبت من أمامه أدارى دموعى فى دورة المياه». وتداعت لحظات الألم، فأخذ يروى لى عن يوم أصر فيه «السادات» على حرمانه من حضور احتفالات أكتوبر بوصفه وزيراً للحربية وكيف جرى تغييره قبل الحفل بثلاثة أيام، واحتد علىَّ وهو ينفى شبهة أن تكون رتبة مشير «رتبة شرفية»، استشهد بـ«مونتجمرى» وقال -فى اعتزاز- إن نصر أكتوبر مدون ضمن مسوغات حصوله على وثيقة «الفيلد مارشال».

ولأن الذكريات موجعة تستدعى بريق المنصب وسطوته، كما تستدعى لحظة الفقد بكل مرارتها، قهرنى ليوقف الحوار. استسلمت فى خبث وشغف ورغبة فى الاقتراب أكثر وقمنا نتمشى فى ملعب «الكروكيه» فى «نادى هليوبوليس»، وعاد يحدثنى عن دور الرياضة فى حياة العسكرية بصوت لا يخلو من مرارة، فقد كان يمارس الرياضة بأمر الأطباء بعد «أزمة قلبية»، وكانت الكاميرا تسجل خطوات المحارب الذى ترك السلاح وتمسّك بعزة النفس حين كتب استقالته للتاريخ ولأولاده، على حد تعبيره.

وطوال شهر ظللت أحرضه على مواصلة الحديث من جديد. بدأت من «الصدفة» التى جمعت بين والدى والمشير، فكلاهما دون فى مكان الميلاد اسم قرية صغيرة فى المنوفية: «البتانون»، وبحكم ترددى عليها كنت أرى القرية تكتسى ثوب الفخر باسمه، فهذه مدارس الجمسى، وهذا شارع الجمسى، وفى هذا الشارع يقع بيت والدى. أثار حديثى شهيته، فقال بود بالغ: «هناك أجد الود والأصالة، هناك أجد الناس الطيبين، ما زلت أعرفهم بالاسم وأذهب إليهم فى الأفراح والمآتم. فكرت أن أستقر هناك بالمنزل الذى بناه والدى وأحترف الزراعة، لكنهم نصحونى أن أتركها لأهلها». وهذا حلم آخر يضم لملف الأحلام المهدرة.

وأخذ «المشير» يروى لى كيف أعاد «عبدالناصر» بناء القوات المسلحة، وينسب نصر أكتوبر إلى تلك المرحلة، ويفك لى طلاسم «الثغرة»، ويعلق الأمل على أجيال جديدة تحرر فلسطين. وامتد الحوار لمعظم القضايا العسكرية والاستراتيجية، وكان يتمتع -خلاله- بذاكرة حديدية ويتحلى بنبل وصدق شديدين. وأثناء الحوار كان يسيطر علىّ سؤال ملح: ماذا لو تآمرت على هذا الرجل الوحدة مع النسيان والمرض، هل يستسلم ساعتها لقانون السن؟.. هل تتعطل ذاكرته فتختلط لحظات الانتصار بلحظات الانكسار؟.. ثم جاءتنى الإجابة: الوحدة تكسر حتى صلابة المحارب.. رحم الله المشير «الجمسى»!.
نقلا عن الوطن

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع