الأقباط متحدون - هرمُ الإسكندرية.. والشيخُ سيد
  • ٠٨:٢٣
  • الاثنين , ٢٠ اغسطس ٢٠١٨
English version

هرمُ الإسكندرية.. والشيخُ سيد

مقالات مختارة | فاطمة ناعوت

٠٠: ١٢ ص +02:00 EET

الاثنين ٢٠ اغسطس ٢٠١٨

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

لا شكَّ عندى فى أنّ مصرَ العظيمةَ كانت فى بال المؤرخين الألمان، حين أطلقوا لقب (The Three “B” Pyramids of Germany) على ثلاثة من عظماء ألمانيا تبدأ أسماؤهم بحرف: «الباء» B. فالأهرامات المصرية الثلاثة شىءٌ حضارى فريدٌ وحصرى، لا يخصُّ إلا مصرَ الجميلة وحدها، ربّةِ أعظم حضارات الأرض. لهذا استعارَ الألمانُ العبارةَ الرمزية: «أهرامات ألمانيا الثلاثة»، ليعبّروا بها عن قاماتٍ موسيقية أسطورية هم: (بيتهوڤن- باخ- برامز).

ولكنْ، هل بالفعل لا تمتلك مصرُ إلا أهراماتٍ ثلاثةً، وفقط؟ بالقطع لا. فعطفًا على الأهرامات الثلاثة الشهيرة، وأكثر من مائة هرمٍ حجرى قديم آخر شيّدها أجدادُنا المصريون القدامى، لحماية مومياوات الملوك وحراستهم فى رحلة «الخروج إلى النهار» حيث الموت والبعث والأبدية، ثمّة أهراماتٌ حجرية حديثة، شيّدها المصريون المعاصرون، تنافسُ الأهرامات القديمة عظمةً وأسطورية.

فى القاهرة يتمُّ الآن تشييد هرم مصرى عالمى هائل، هو «المتحف الكبير» على هضبة الأهرام، وفى الإسكندرية ثمّة هرمٌ أسطورى عالمى هو «مكتبة الإسكندرية الجديدة»، شُيّدت على مقربة من أطلال مكتبة الإسكندرية القديمة (ببليتيكا دى لو أكسندرينا)، التى شُيّدت قبل أربعة وعشرين قرنًا، فى عهد الإسكندر الأكبر وخلفائه من البطالمة، كأول وأعظم وأضخم مكتبة عامة فى التاريخ، ضمّت بين جناحيها وقتئذ ٧٠٠ ألف مخطوطة تاريخية نادرة، وجميع مؤلفات أرسطو وهوميروس، وتعلّم على مقاعدها عظماءُ الفلاسفة والعلوم مثل أرخميدس وإقليدس وأفلاطون وهيروفيلوس وهيباثيا وجالينوس وأبولونيوس وغيرهم، ولم يكن يُعترفُ بأى فيلسوف أو عالمٍ، فى العصور القديمة، حتى يُحصِّل علومَه ويبنى عقلَه من فرائد تلك المكتبة وأمّهات مجلداتها.

وكلّما دخلتُ هرم الإسكندرية الحديث، أطمئنُ إلى أن مجدَ أجدادى، السَّلف الصالح، موصولٌ غيرُ مقطوع، وأن أمّى العظيمةَ مصرَ، تعودُ إلى مجدها العريق يومًا بعد يوم. من الدور الخامس بالمكتبة، وبعد تناول وجبة العشاء الشرفى مع مدير المكتبة د. مصطفى الفقى، السياسى والمثقف الموسوعى، وقادة حزب الوفد، وقفتُ لأنظر من عَلٍ، بعين طائر، إلى معجزة معمارية تُطلُّ بوجهها على العالم عبر صفحة المتوسّط الزرقاء. ٩٣ ألف متر مربع من خشب السنديان الثمين، تكسو أرضيات أكبر قاعة قراءة عامة فى العالم. أرفعُ بصرى لأعلى لأتأمل السقفَ المرفوع على ٩٣ عمود تيجانُه زهرة اللوتس الخالدة، تخترقه نوافذُ سماويةٌ تُكَّحِلُها عواكسُ مثل جفون العيون لتكسرَ أشعة الشمس المباشرة لئلا تؤذى عيونَ القُراء على مقاعد المطالعة.

أجولُ ببصرى فى أرجاء المكتبة وأتأملُ الفتحات المستطيلة المحفورة فى جدرانها، تُشبه الأرففَ التى كانت تحفظُّ رولات المخطوطات النادرة فى المكتبة القديمة ببليتيكا، لكنها اليوم تُشتّتُ الصوتَ وتكسِّر الصخبَ لكى تتدثّرَ المكتبةُ بثوبٍ رافلٍ من الهدوء والسكينة. وهكذا يتناغمُ الشكلُ مع الوظيفة فى علاقة روحية متناغمة لتتحقق العمارةُ المثالية كما تعلّمناها فى كلية الهندسة: Function and Function should join in spiritual union. ترتاحُ العينُ والأُذنُ وتهنأ القراءةُ.

بدأتُ المقالَ للحديث عن الشيخ سيد، فاستلبتنى المكتبةُ التى لا ينتهى الحديثُ عنها. وأمّا الشيخُ سيد، فهو أحدُ أهرامات مصر البشرية: سيد درويش عبقرى الموسيقى. وأما مديرُ هرم الإسكندرية، د. مصطفى الفقى، فقد قرر أن يحتفل بمئوية ثورة ١٩، بطريقة مبتكرة. فأقام فى مسرح الهرم/ المكتبة، حفلا غنائيًّا ثريًّا، دعا إليه رموزَ حزب الوفد، مُفجّر الثورة الليبرالية المجيدة، وأحياه حفيدُ سيد درويش، المطرب المهندس الموهوب إيمان البحر درويش، الذى ذكّرنا بأمجاد الجَدّ الخالد، وغنّينا معه الأغنيةَ الساحرة الماكرة التى ناجى فيها الشعبُ المصرى زعيمَه «سعد زغلول» فى منفاه، بعدما أصدر المحتلُّ الإنجليزى وقتها فرمانًا بمنع الهتاف باسمه أو المطالبة بعودته. ومَن يقدرُ على قمع شعب مصر الذكى المبدع؟! على نغمات عظيم الموسيقى «سيد درويش»، غنّى الشعبُ كلمات العظيم «بديع خيرى»: «يا بلح زغلول/ يا حليوة يا بلح/ يا زرع بلدى/ عليك يا وعدى/ يا بخت سعدى/ زغلول يا بلح/ عليك أنادى/ فى كل وادى/ قصدى ومُرادى/ الله أكبر/ عليك يا سُكّر/ يا روح بلادك/ ليه طال بُعادك/ تعا صون بلادك/ زغلول يا بلح/ سعدى وقال لى/ ربى نصرنى/ وراجع لوطنى/ يا حليوة يا بلح».

تحيةَ احترام لهرم الإسكندرية الشاهق، ومديره المثقف، ولأهرامات مصر الحجرية والبشرية القديمة والراهنة، وتحيةً من قبل ومن بعد لمصر صانعة الأهرامات الحضارية والإنسانية، تلك التى وقفت على أولى درجات سُلَّم التاريخ، وعلى درجات اللحظة الراهنة، وإلى درجات نهاية الزمان، بإذن الله.
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع