الأقباط متحدون - هل يتكرر مصير ابن رشد؟
  • ١٢:١٩
  • الثلاثاء , ٢١ اغسطس ٢٠١٨
English version

هل يتكرر مصير ابن رشد؟

مقالات مختارة | بقلم: رياض عصمت

٥١: ٠٩ ص +02:00 EET

الثلاثاء ٢١ اغسطس ٢٠١٨

تمثال لابن رشد في قرطبة في اسبانيا
تمثال لابن رشد في قرطبة في اسبانيا

مرت ذكرى وفاة المخرج العربي المعروف يوسف شاهين في 27 يوليو/تموز 2008 مرور الكرام، لكن من المهم أن نتذكر أحداث وشخصيات فيلمه "المصير" (1997)، الذي نال بسببه ربما تكريم "مهرجان كان" السينمائي بالسعفة الذهبية عن إنجازات عمره، إذ إن الفيلم سيخلق في أذهاننا اليوم قدرا كبيرا من الاستغراب، لأنه تمتع بقدرة غريبة على التنبؤ بما بدأ بالحدوث منذ العام 2011 في البلدان التي عصفت بها رياح الربيع العربي.

ربما عاب بعض الباحثين الأكاديميين على فيلم "المصير" افتقاره لبعض الدقة التاريخية، لكن مخرجه يوسف شاهين قصد التركيز على جانب الإسقاط السياسي أكثر من الالتزام بعرض التاريخ بصورة متحفية.

يرسم "المصير" بأسلوب سينمائي بصري وحوار كتب بالعامية المصرية عصر العالم الفيلسوف ابن رشد في الأندلس، الذي حاول أن يكون المرشد الأمين للخليفة المنصور في الأندلس، محذرا إياه من مغبة غض النظر عن استفحال التطرف في مملكته، ومن الإصغاء إلى نصح المنافقين وأكاذيبهم الملفقة. لكن الخليفة المنصور سرعان ما ينبذ ابن رشد ويهمش دوره كقاض، بل ويقصيه عن بلاطه، لأنه لا يستسيغ الإنصات إلى صوت الحق، ولا يحب أن يبصر الحقيقة.

    اضطر الاضطهاد الظالم ابن رشد للرحيل إلى المغرب ليتوفى ويدفن هناك، وعاشت أفكاره من بعده

خلال حبكة الفيلم، نرى بأم أعيننا تحذير ابن رشد يصدق، فالتطرف يلد إرهابا ما يلبث أن يشكل خطرا جسيما وداهما ليس على ابن الخليفة الذي كان يهوى الرقص فقط، بحيث يغسل دماغه ويجعله ينضم إلى أولئك المتطرفين من الحشاشين، بل يهدد باغتيال كل من يعارض خططهم في هرم السلطة، إضافة إلى اغتيال الأفكار وتخدير الناس بوعود الجنة المرتقبة مقابل تحويلهم إلى أدوات قتل في خدمة زعيمهم الذي يشبه قادة "داعش" و"النصرة"، وذلك قبل سماعنا بتلك التنظيمات بخمسة عشر عاما.

يصور الفيلم كيف يتلاعب بعض رجال الدين المتملقين بالخليفة المنصور، وكيف يتآمرون على حكمة ابن رشد بتمجيدهم المنافق للحاكم، حتى يغضب على صديقه الفيلسوف الصادق لمناوأته قراراته الخاطئة المبنية على الغرور والتعنت. هكذا، بينما تتجمع في الأفق غيوم حرب طاحنة تهدد أمن واستقرار البلاد، يعامل ابن رشد معاملة مهينة وتحرق كتبه علانية من قبل رقابة متشددة لا تسمح بحرية التفكير أو التعبير.

درك الخليفة المنصور متأخرا تفاقم الخطر الذي حذره منه ابن رشد، وأهمله عن غرور وصلف، ويضطر أن يواجه متأخرا بالقوة المسلحة قوى الظلام التي تطبق على مملكته في زمن بدأت الأندلس فيه تتفتت تحت وطأة صراعات ملوك الطوائف. هكذا، يكتشف الخليفة بعد فوات الأوان أن إسفينا ضرب عميقا في صلب دولته وشق بنيانها الذي كان يخاله متينا وراسخا. أما الفيلسوف الزاهد ابن رشد، فلا يأبه بنفيه، وبالأحرى لاضطراره إلى الهجرة لمصر هربا من أولئك الجهلة الرعناء الذين أقدموا على حرق كتبه، بل لا يحزن حتى لحرقها لأن تلامذته ومريديه نسخوها بخط اليد ووزعوها في مختلف أرجاء الأرض. إننا نرى ابن رشد موقنا في نهاية فيلم يوسف شاهين أن الأفكار لا تموت.

يعتبر "المصير" نقطة بارزة في المسيرة السينمائية لصانع أفلام "باب الحديد"، "الناصر صلاح الدين"، "الأرض"، "العصفور"، "حدوتة مصرية" و"بونابرت"، وهو الفيلم الذي جعل مهرجان "كان" السينمائي الفرنسي الشهير يكرم يوسف شاهين على مجمل إنجازاته السينمائية.

تنبأ فيلم "المصير" ببصيرة ثاقبة بعدة أمور لم تكن مألوفة أو متوقعة في زمانه، وهي خطر استفحال التطرف، حجره على العقول وتوظيفه المريدين الجهلة كي ينفذوا كالعميان جرائم قتل بشعة. تنبأ "المصير" أيضا بموقف الحاكم الذي تعمي بصيرته ديباجات المديح الزائف، فيغضب لدى سماعه أي انتقاد أو نصح أمين، فيعزل ابن رشد الذي أراد أن يهديه إلى ما هو خير له ولمملكته. من ناحية ثالثة، تنبأ يوسف شاهين بخطر الرقابة المتشددة، التي تقدم على إحراق الكتب لتمنع انتشار الأفكار الجريئة بين عامة الناس، كما فعلت النازية من قبل وسواها من الأنظمة الشمولية المستبدة. أخيرا، تنبأ المخرج الراحل يوسف شاهين بتقلب ولدي الخليفة وانقسامهما بحيث يدب بينهما الخلاف ويستفحل، ثم صورهما وقد برأ كلاهما من عناده، فرمما الصدع بينهما واتحدا في موقف وطني شريف مع أبيهما لمواجهة الأخطار المحدقة بالوطن.

يعتبر الفيلسوف والعالم والطبيب والفقيه والقاضي والفلكي والفيزيائي الأندلسي الشهير ابن رشد واحدا من أبرز وأعظم المفكرين المسلمين، إذ صحح أفكار عديد ممن سبقه من علماء وفلاسفة، مثل ابن سينا والفارابي، وكذلك جادل بعض نظريات أفلاطون وأرسطو. تم اختياره لتولي منصب قاضي القضاة في إشبيلية. لكن آراءه غير التقليدية، والتي اتسمت بالجرأة في زمانها، ألبت عليه المتطرفين والمحافظين التقليديين الاتباعيين، وجعلت الحاكم ينظر إليه بارتياب وتشكك. كانت مقولته هي: "لا يمكن أن يعطينا الله عقولا، ثم يعطينا شرائع مخالفة لها".

ثم تجرأ أكثر فقال: "التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل. فإن أردت التحكم بجاهل، عليك أن تغلف كل باطل بغلاف ديني".

    ابن رشد: التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل

بالتالي، تعرض ابن رشد لحملة مغرضة من خصومه من رجال الدين، وكذلك من الساسة الحاكمين، وصلت إلى اتهامه بالإلحاد والإشراك، فصدرت الفتوى بإحراق كتبه خوفا من انتشار أفكارها المليئة بالهرطقة والزندقة، لكن بعض تلامذته المخلصين عمدوا إلى نسخها بأيديهم وتهريبها إلى مصر وأوروبا، بينما أحرقت النسخ الموجودة في الأندلس فقط، التي فرقت أهلها "حروب الطوائف" بين ملوك سذج أو مستبدين، أتاحوا بخصوماتهم للإسبان هزيمتهم فرادى، وإنهاء حضارة الأندلس العربية/الإسلامية إلى الأبد، وإن بقيت الأوابد في إشبيلية وغرناطة وقرطبة وسواها حتى الآن شواهد عليها.

اضطر الاضطهاد الظالم ابن رشد للرحيل إلى المغرب ليتوفى ويدفن هناك، وعاشت أفكاره من بعده. اشتهرت كلمته لأحد تلاميذه وهو يذرف الدموع على حرق الكتب، إذ قال: "يا بني، لو كنت تبكي على الكتب المحترقة، فاعلم أن للأفكار أجنحة، وهي تطير بها إلى أصحابها. لكن، إن كنت تبكي على حال العرب والمسلمين، فاعلم أنك لو حولت بحار العالم لدموع، فلن تكفيك". يقال: "سقطت الأندلس يوم أحرقت كتب ابن رشد، وبدأت نهضة أوروبا يوم وصلتها أفكاره". تم تكريم ابن رشد عالميا في معظم جامعات أوروبا، ومنها جامعة نورنبرغ، جامعة بادو وجامعة باريس.

ليس فيلم "المصير" وحيدا في تركيزه على الإسقاط السياسي. هناك عديد من كتاب المسرح والقصة والرواية والشعر من المبدعين العرب ممن عالجوا موضوعات تاريخية قصدوا منها عقد مقارنة مع الواقع المعاصر، تصريحا أم تلميحا. نذكر مثلا من بين الروائيين جمال الغيطاني من مصر، وأمين معلوف من لبنان، وخيري الذهبي من سورية، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.

من جهة أخرى، وفي ميدان المسرح، نجد المؤلف المسرحي الإماراتي المرموق سلطان بن محمد القاسمي يضمن مسرحياته إسقاطات تاريخية متعددة على الحاضر في "عودة هولاكو"، وبالأخص في مسرحيته "الواقع صورة طبق الأصل" (عن صلاح الدين الأيوبي، التي أخرجها المخرج العراقي الراحل قاسم محمد)، وسواهما من نصوص تاريخية أراد منها القاسمي نقد الحاضر الراهن وتوجيه رسائل إلى ضرورة وحدة الصف والتضامن لمواجهة الأطماع الخارجية، وضمن فيها عن سقوط الأندلس العبارة الشهيرة التي نطقت بها أم عبد الله الصغير، آخر حكام ملوك الطوائف، حين قالت لابنها: "ابك مثل النساء ملكا مضاعا.. لم تحافظ عليه مثل الرجال ". فيلم يوسف شاهين "المصير"، بلا شك، واحد من الأفلام التي يجدر إعادة عرضها والتأمل في مضمونها، لما يحتويه من حكمة ظلت حية بعد رحيل صاحبها.
نقلا عن الحرة

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع