الأقباط متحدون - فى مثل هذا اليوم.. ميلاد الاسكندر الاكبر
  • ٠٤:٠٤
  • الجمعة , ٢٠ يوليو ٢٠١٨
English version

فى مثل هذا اليوم.. ميلاد الاسكندر الاكبر

سامح جميل

في مثل هذا اليوم

٠٦: ١٢ م +02:00 EET

الجمعة ٢٠ يوليو ٢٠١٨

 الاسكندر الاكبر
الاسكندر الاكبر

فى مثل هذا اليوم 20 يوليو 356 ق.م.
الإسكندر الثالث الإسكندر الأكبر أو الإسكندر المقدوني، حاكم مقدونيا، قاهر امبراطورية الفرس وواحد من أذكى وأعظم القادة الحربيين على مر العصور.

ولد الأسكندر في پلا، العاصمة القديمة لمقدونيا. ابن فيليبّوس الثاني ملك مقدونيا وابن الأميرة اولمپياس أميرة إپيروس. تتلمذ على يد [[أناكسيمينس من لامپاسكوس|أناكسيمينس]] معلم البلاغة، كما كان أرسطو المعلم الخاص للإسكندر. حيث درّبه تدريبا شامل في الأدب وحفزه للاهتمام بالعلوم والطب والفلسفة.

كان الإسكندر مولعاً بعصر البطولات والأبطال الأسطوريين وأبطال حرب طروادة حيث زار في طريقة للفتوحات، أماكن الحرب وقبر أخيل بطل الحرب الطروادية. ومن هذا الإقتداء أراد الإسكندر أن يصنع إمبراطورية وسيادة العالم.

في صيف (336) قبل الميلاد اُغتيل فيليپ الثاني فاعتلى العرش ابنه الإسكندر فوجد نفسه محاطاً بالأعداء من حوله ومهدد بالتمرد والعصيان من الخارج. فتخلص مباشرة من المتآمرين وأعدائه من الداخل بالحكم عليهم بالاعدام. ثم انتقل إلى ثساليا حيث حصل حلفائه هناك على استقلالهم وسيطرتهم. وباستعادة الحكم في مقدونيا. قبل نهاية صيف 336 ق.م.، أعاد تأسيس موقعه في اليونان وتم اختياره من قبل الكونگرس في كورينث قائداً.

حيث كان شديد التعلق بأمه [أليمبياس]]، التى كان لها تأثير روحى كبير في حياتة. كما ورث عن أبيه صفات مناقضة. وفى أكبر الظن أنه لم يكن له يد في مصرع فليب ولم يعرف على وجه اليقين من الذى قتله.

لقد توصل الإسكندر إلى حقيقة جعلته يسود العلم ويمتلك إمبراطورية عالمية وجعل من فتوحاتة للشرق بداية عصر جديد وهو العصر الهلنستى الذى تور فيه كل شىء في العالم الشرقي وهى "أن البشر جميعهم سواسية وأبناء إله ويجب إحترام عقائد البشر في أي مكان في العالم".

لقد كانت حياة أرسطو العقلية بعد أن غادر تلميذه الملكي مماثلة لحياة الإسكندر العسكرية؛ ذلك أن كلتا الحياتين تعبر عن نزعة الفتح، والبناء، والتركيب. وربما كان الفيلسوف هو الذي غرس في عقل الشاب تحمسه الشديد للوحدة وهو التحمس الذي رفع بعض الشيء من قدرات الإسكندر؛ لكن أرجح من هذا أن هذا التحمس قد انحدر إليه من مطامع أبيه، ثم أحاله دم أمه إلى ولع وهيام. وإذا شئنا أن نفهم الإسكندر على حقيقته، وجب علينا أن نتذكر على الدوام أن عروقه كان يجري فيها نشاط فليب العارم وحدة ألمبياس الهمجية؛ يضاف إلى هذا أن ألمبياس كانت تدعي الانتساب إلى أخيل، ومن أجل هذا كان الإسكندر يهوى الإلياذة ويفتتن بها؛ وكان يفسر عبوره الهلسبنت بأنه تتبع لخطوات أخيل نفسه واستيلاءه على آسيا الغربيا بأنه إتمام للعمل الذي بدأه جده الأعلى في طروادة. وكان في خلال حملاته العسكرية كلها يحتفظ معه بنسخة من الإلياذة عليها شروح بقلم أرسطو؛ وكثيراً ما كان يضعها تحت وسادته أثناء الليل بجوار خنجره، كأنه يرمز بهذا إلى أداته وهدفه. وعني ليونداس Leonidas وهو مولوسي Molosian صارم بتربية الغلام الجسمية، وعلمه ليسمخوس الأدب، وحاول أرسطو أن يكون عقله. وكان فليب الثاني يرغب في أن يدرس ولده الفلسفة "حتى لا يفعل أشياء كثيرة من نوع الأشياء التي فعلتها أنا والتي آسف على فعلها"، كما قال فليب نفسه. وقد أفلح أرسطو إلى حد ما في أن يجعل منه رجلاً هلينياً؛ ذلك أن الإسكندر كان طوال حياته يعجب بالأدب اليوناني ويحسد اليونان على حضارتهم؛ وقد قال مرة لرجلين يونانيين كانا يجلسان معه أثناء المأدبة الوحشية التي قتل فيها كليتوس: "ألا تشعران حين تجلسان في صحبة هؤلاء المقدونيين بأنكما أشبه بإلهين بين خلائق من الهمج".

كان الإسكندر من الناحية الجسمية شاباً مثالياً. وذلك أنه كان يجيد كل ضروب الألعاب الرياضية: كان عداءً سريعاً، وفارساً جريئاً، ومبارزاً ماهراً؛ وكان يجيد الرماية بالقوس، ولا يرهب أي شيء في الصيد. ولما رغب إليه أصدقاؤه أن يشترك في سباق العدو في أولمبيا أجاب بأنه لم يكن يمانع في ذلك لو أن المتبارين معه كانوا ملوكاً. ولما عجز غيره عن تذليل بوسفلس Bucephalus الجواد الجامح الجبار، نجح الإسكندر في هذا العمل؛ فلما رأى ذلك فليب، كما يقول بلوتارخ، حياه بتلك الألفاظ التي كانت أشبه بنبوءة بما يخبؤه له القدر: "أي بني، إن مقدونية لا تتسع لك، فابحث لنفسك عن إمبراطورية أوسع منها، وأجدر بك"). وكان حتى في أثناء زحفه يصرف بعض نشاطه في أن يرمي بالسهام بعض ما يمر به من الأهداف، أو ينزل من مركبته ثم يعود فيركبها وهي تجري بأقصى سرعتها. وكان إذا تراخت الحرب خرج إلى الصيد وواجه بمفرده وهو واقف على قدميه وحشاً ضارياً؛ وسمع ذات مرة بعد أن فرغ من قتال أسد بعضهم يقول إنه كان يحارب الأسد كأنه يبارزه لتقرر نتيجة البراز أيهما يكون هو الملك، فسر من هذا القول أيما سرور. وكان مولعاً بالعمل الشاق والمغامرات الخطرة، ولم يكن يطيق الراحة. وكان يسخر من بعض أصدقائه الكثيري الخدم ويقول إنهم لا يجدون ما يفعلون. ومن أقواله لهم: "عجيب أمركم، كيف لم تدلكم تجاربكم على أن من يعملون ينامون نوماً أعمق من نوم من يعمل لهم غيرهم، وهل لا تزالون بحاجة إلى من يدلكم على أن أعظم ما نحتاجه بعد انتصارنا هو أن نتجنب الرذائل وأسباب الضعف التي كان يتصف بها من غلبناهم على أمرهم". وكان يؤلمه ما يضيع من الوقت في النوم ويقول: "إن النوم وعملية التناسل هما أهم ما كان يشعره بأنه آدمي فان". وكان معتدلاً في الطعام، وظل إلى آخر سني حياته معتدلاً كذلك في الشراب، وإن كان يحب أن يطيل المكث مع أصدقائه على كأس من الخمر. وكان يحتقر الأطعمة الدسمة، وقد رد مشهوري الطهاة الماهرين الذين عرضوا عليه، وقال أن مشي ليلة كفيل بأن يقوي شهوته للفطور، وإن فطوراً خفيفاً يقوي شهوته للغداء. ولعل هذه العادات هي التي جعلت وجهه وضاء إلى حد كبير، وجعلت رائحة جسمه ونفسه "زكية تفوح من ملابسه التي على جسمه". وإذا ما أخذنا بأقوال معاصريه وضربنا صفحاً عن ملق الذين رسموا صوره أو نحتوا تماثيله أو نقشوا رسمه، حكمنا بأنه كان وسيماً بدرجة لم يسبقه إليها أحد من الملوك الذين قبله: كان ذا معارف قوية التعبير، وعينين زرقاوين رقيقتين وشعر غزير أصحر. وهو الذي ساعد على إدخال عادة حلق اللحية في أوربا، وحجته في ذلك أن اللحية تمكن العدو من القبض على صاحبها. ولعل أكثر آثاره في التاريخ هو هذا الأثر التافه.

أما من الناحية العقلية فقد كان شديد التحمس للدرس، لكن التبعات التي ألقيت عليه قبل الأوان لم تترك له فسحة من الوقت ينضج فيها عقله. وكان يحزنه ما يحزن الكثيرين من رجال الجد والعمل وهو أنه لا يستطيع أن يكون أيضاً مفكراً. ويقول بلوتارخ إنه "كان شديد الشغف بالعلم، شغفاً يزداد على مر الأيام...وكان مولعاً بجميع أنواع المعارف محباً لقراءة جميع أنواع الكتب". وكان من أسباب سروره بعد أن يقضي يوماً في السير أو في القتال أن يسهر إلى منتصف الليل يتحدث إلى الطلاب والعلماء. وقد كتب إلى أرسطو يقول: "خير لي أن أتفوق على غيري في العلوم من أن أتفوق عليهم في اتساع المُلك وقوة السلطان". ولقد أرسل بعثة لارتياد منابع النيل -وقد يكون هذا بإيعاز أرسطو - وأعان بالمال كثيراً من البحوث العلمية. وليس في وسعنا أن نحكم أكان إذا امتد به أجله يبلغ ما بلغه قيصر من صفاء الذهن أو ما بلغه نابليون من دقة الفهم. لكن مشاغل المُلك أدركته وهو في العشرين من عمره، واستغرقت شئون الحرب والإدارة كل وقته وجهده، ومن أجل هذا بقي ناقص التعليم إلى آخر أيام حياته. نعم إنه كان متحدثاً لبقاً، ولكنه كان يتورط في مئات الأغلاط إذا تطرق الحديث إلى شئون السياسة والحرب. ويلوح أنه رغم حروبه الكثيرة لم يعرف من الجغرافية ما كان في مقدور ذلك العلم في أيامه أن يمده به. وكان عقله في بعض الأحيان يسمو عن الآراء الضيقة التحكمية، ولكنه بقي إلى آخر أيام حياته عبداً للخرافات والأوهام، شديد الثقة بالعرافين والمنجمين الذين تزدحم بهم حاشيته. ولقد قضى الليلة السابقة لواقعة أربيلا يقوم بمراسم سحرية مع الساحر أرستندر Aristander ويقرب القربان إلى إله الخوف. وكان هذا الرجل الذي واجه الناس والوحوش بشجاعة ونشوة "يرتاع لأقل النذر الموهومة" ارتياعاً يحمله على تغيير خططه(10). وكان في مقدوره أن يقود آلاف الرجال، ويهزم الملايين منهم، ويحكمهم، ولكنه لم يكن يستطيع السيطرة على طبعه. ولم يتعلم قط الاعتراف بما يرتكب من خطأ أو بما فيه من نقص، وكان يغتر بالثناء اغتراراً يطغى على حكمته ويفسدها. وقد عاش طول حياته في جو من الانفعال والمجد يكاد يذهب بعقله، وكان يحب الحرب حباً استحوذ على عقله فلم يترك له ساعة ينعم فيها بسلام.

وكانت أخلاقه تحوم حول أمثال هذه التناقضات. فقد كان في قرارة نفسه عاطفياً سريع الانفعال، تستبقه عبراته، شديد التأثر بالشعر والموسيقى، وكان في أيام شبابه الأولى يعزف على القيثارة ويتأثر بأنغامها أشد التأثر. ولما عنفه فليب على هذا هجر تلك الآلة، ورفض من ذلك الوقت أن يستمع لغير النغمات العسكرية؛ ولعله أراد بهذا أن يتعود السيطرة على حواسه. كذلك كان يستمسك بالفضيلة من الناحية الجنسية، ولم يكن ذلك من مبدأ يدين به، بل لأن مشاغله كانت تحول بينه وبين الانحراف إلى هذه الناحية. ذلك أن نشاطه الدائم، وسيره الطويل، وحروبه الكثيرة، وخططه المعقدة، وأعبائه الإدارية، كانت تستنفذ كل قواه، ولا تترك إلا القليل من شهوة الحب. وكانت له زوجات كثيرات، ولكن زواجه بهن كان تضحية منه قضت بها شئون السياسة والحكم؛ وكان شهماً ذا مروءة في معاملته للنساء، ولكنه كان يفضل عليهن صحبة قواده. وجاءه رجاله ذات مرة إلى خيمته بامرأة جميلة بعد أن مضى من الليل أكثره، فسألها "لم تأخرت إلى هذا الوقت؟" فردت عليه بقولها: "كان علي أن أنتظر حتى أنيم زوجي". فصرفها الإسكندر وعنف خدمه وقال لهم إنه كاد بأعمالهم أن يصبح زانياً. وكان فيه كثير من صفات اللوطيين، وكان يحب هفستيون Hephaestion إلى حد الجنون؛ لكنه حين جاءه ثيودورس التاراسي Theodorus of Taras يعرض عليه أن يبيعه غلامين بارعي الجمال، طرد ثيودورس من مجلسه وطلب إلى أصدقائه أن يفحصوا له عما أظهره من سفالة وخسة نفس تحملان إنساناً ما على أن يتقدم إليه بهذا العرض الدنيء.

وكان يستمسك بصداقة الأصدقاء ويهبهم ما يهبه معظم الناس إلى المحب من اشتياق ورقة وعاطفة؛ وليس بين من نعرف من السادة، دع عنك القواد، من فاقه في صدق القول الخالي من التكلف أو في الصداقة الوفية القوية، أو في إخلاصه في حبه وغرضه، أو في كرمه لمعارفه وأعدائه دع عنك أصدقائه. وفي ذلك يقول بلوتارخ "وهو ينتهز أقل الظروف ليكتب الخطابات لخدمة الأصدقاء". وقد كسب حب جنوده بعطفه عليهم؛ وكان يخاطر بحياتهم ولكنه لم يكن يفعل ذلك جزافاً من غير ميالاة، كأنه كان يحس بجميع جراحهم؛ وكما عفى قيصر عن بروتس وشيشرون، وكما عفى نابليون عن فوشيه Foche` وتليران Talleyrand، كذلك عفى الإسكندر عن هربالس Harpalus صاحب بيت المال الذي اختفى بما في عهدته منه ثم عاد إليه يرجو عفوه؛ وقد أدهش الشاب الفاتح الناس جميعاً بأن أعاده إلى منصبه، ويبدو أنه أصلحه بذلك العمل. ومرض الإسكندر في طرسوس عام 333 فعرض عليه طبيبه فليب شراباً مسهلاً. وفي تلك اللحظة وصلت إلى يد الملك رسالة من برمنيو يقول فيها إن دارا قد رشا فليب ليدس له السم، فما كان من الإسكندر إلا أن عرض الرسالة على فليب، بينما كان الطبيب يقرؤها شرب الإسكندر الدواء - ولم يصب بسوء. وقد كان اشتهاره بالنبل والكرم عوناً له في حروبه؛ فقد كان كثيرون من أعدائه يلقون بأنفسهم أسرى بين يديه، وكانت المدن تفتح أبوابها إذا اقترب منها لأنها تخشى على أنفسها من النهب. لكنه كان فيه شيء من الشراسة المولوسية، وقد شاء القدر القاسي أن يقضي عليه ما كان ينتابه أحياناً من نوبات القسوة. مثال ذلك أنه لما استولى على غزة بعد أن حاصرها واقتحم أسوارها واستفزته بطول مقاومتها أمر بأن تخرق قدما باتيس Batis قائدها الباسل، وأن توضع فيهما حلقات من نحاس. ثم أسكرته ذكرى أخيل، فشد القائد الفارس بعد موته إلى العربة الملكية بالحبال، وجرت به بأقصى سرعتها بالمدينة. وكان إدمانه الخمر إدماناً متزايداً ليهدئ به أعصابه مما دفعه في سنيه الأخيرة إلى كثير من أعمال القسوة العمياء التي أخذت تزداد على مر الأيام، وكانت تتلوها نوبات من الندم الصامت وتوبيخ الضمير العنيف.

وكان من صفاته صفة لها الغلبة على ما عداها ونعني بها الطموح. فقد كان وهو شاب يتبرم من انتصارات فليب، حتى لقد شكا مرة إلى أصدقائه من أن "أباه سيفرغ من كل شيء قبل أن نستعد نحن، ولن يترك لي أو لكم فرصة نعمل فيها شيئاً عظيماً خطيراً". وقد دفعته هذه الرغبة الشديدة في العمل العظيم إلى محاولة القيام بكل واجب واقتحام كل خطر. ففي يوم قيرونيا مثلاً كان هو أول من هجم على "العصبة الطيبة المقدسة"؛ وفي يوم غرانيقوس أطلق العنان لما كان يسميه رغبة في ملاقاة الأخطار". وقد أصبحت هذه الرغبة هي الأخرى شهوة جامحة، فكان صوت الحرب ومنظرها يسكرانه، فينسى في ذلك واجبات القائد ويندفع إلى معمعان القتال، وكثيراً ما كان جنوده يلحون عليه أن يرتد إلى المؤخرة لخوفهم أن يفقدوه. على أنه لم يكن قائداً عظيماً، بل كان جندياً باسلاً أوصله جَلَده وعناده وعدم مبالاته بالعقبات التي كانت تبدو مستحيلة التذليل إلى انتصارات مؤزرة لم يسبقه أحد إلى مثلها. وكان هو الملهم لجنوده، أما قواده الذين كانوا من أقدر الرجال فالراجح أنهم هم الذين كانت تقع عليهم أعباء التنظيم والتدريب والكر والفر والفنون الحربية. وكان يقود جنوده بخياله الوضاء، وفصاحته الطبيعية غير المتكلفة، واستعداده لمقاسمتهم صعابهم وأحزانهم استعداد المخلص الوفي. ولا جدال في أنه كان إدارياً حازماً؛ وقد حكم الأملاك الواسعة التي افتتحها بقوة السلاح حكماً رفيقاً حازماً؛ وكان يفي بالعهود التي يقطعها على نفسه لقواد الجند المهزومين وللمدن المغلوبة، ولم يسمح قط لموظفيه أن يظلموا رعاياه أو يستبدوا بهم، ولم يكن وهو يخوض غمار القتال والهيجاء مشتجرة والأرض متزلزلة يغفل قط عن هدفه الأسمى الذي لم يحل موته إنجازه: وهو ضم البحر المتوسط الشرقي في وحدة ثقافية جامعة، تسيطر عليها وتسمو بها حضارة بلاد اليونان الآخذة في الانتشار.

بداية حكمه
الإسكندر يصارع أسد آسيوي مع صديقه كراتروس (تفصيلة). القرن 3 ق.م. فسيفساء، متحف پلا.
في عام (335) و كحاكم على جيش اليونان وقائد الحملة ضد الفرس و كما كان مخطط من قبل أبيه. قام بحملة ناجحة إلى نهلا دانوبا وفي عودته سحق في أسبوع واحد الذين كانوا يهددون أمنه من الإليريين (Illyrians ) مرورا بطيبة اللتين تمردتا عليه حيث قام بتحطيم كل شيء فيها ما عدا المعابد وبيت الشاعر اليوناني پندار واستعبد السكان الناجون وكانوا حوالي 8,000. سرعة الإسكندر في القضاء على طيبة كانت بمثابة عبرة للولايات اليونانية الأخرى التي سارعت إلى اعلان رضوخها على الفور.

فترة الفتوحات

خريطة امبراطورية الإسكندر.

لما ارتقى الإسكندر العرش ألفى نفسه على رأس دولة متصدعة؛ فقد ثارت القبائل الشمالية الضاربة في تراقية وإليريا؛ وخرجت من طاعته إتوليا، وأكرنانيا، وفوسيس، وإليس، وأرجولس، وطرد الأمبراقيوتيون Ambarciotes الحامية المقدونية من بلادهم؛ وكان أرتخشتر الثالث يفخر بأنه هو المحرض على قتل فليب، وأن بلاد الفرس لا تخشى شيئاً من هذا الحدث المراهق الذي ورث المُلك وهو في العشرين من العمر. ولما أن وصلت البشائر إلى أثينة بأن فليب قد مات زُينَ دمستين بأفخر الثياب وتوج رأسه بإكليل من الزهر، واقترح على الجمعية أن تضع تاجاً على رأس قاتله بوسنياس تكريماً له. وفي مقدونية نفسها كانت عشرة أحزاب أو أكثر تأتمر بحياة الملك الشاب. وواجه الإسكندر هذه الصعاب كلها بهمة قعساء وعزيمة ماضية قضى بهما على المقاومة الداخلية وخطا الخطوة الأولى نحو مستقبله العظيم. ولما أن ألقى القبض على زعماء المتآمرين في داخل البلاد وقتلهم اتجه بجيوشه جنوباً نحو بلاد اليونان (336) وبلغ طيبة بعد بضعة أيام. وأسرعت بلاد اليونان فقدمت له ولاءها وبعثت إليه أثينة معتذرة عما فرط منها، وعرضت عليه تاجين، ومنحته ما تمنحه الآلهة من مراسم التكريم. فلما هدأت ثورة الإسكندر أعلن إلغاء جميع الحكومات الدكتاتورية في بلاد اليونان، وأمر أن تعيش كل مدينة حرة حسب قوانينها. وثبت له المجلس الأمفكتيوني جميع الحقوق التي منحها فليب، واجتمع في كورنثة مؤتمر من جميع دول اليونان ما عدا إسبارطة وأعلنه قائداً عاماً لجميع اليونان، ووعد أن يعينه بالمال والرجال في حروبه الآسيوية المرتقبة. ثم رجع الإسكندر إلى بلا، ونظم شئون العاصمة، واتجه بعدئذ نحو الشمال ليقلم أظفار الفتنة التي أوقدت نارها القبائل المتبربرة (335). وزحف على رأس جنوده بسرعة نابليونية حتى وصل إلى موضع مدينة بخارست الحالية، ورفع علمه على ضفة الدانوب الشمالية. ثم ترامى إليه أن أهل إلريا يزحفون على مقدونية فاجتاز مائتي ميل في قلب بلاد الصرب وفاجأ مؤخرة الغزاة، وهزمهم، ورد فلولهم إلى جبالهم.

خريطة القتال لمعركة خيرونيا
لكن إشاعة راجت وقتئذ في أثينة بأن الإسكندر قد قتل وهو يحارب عند نهر الدانوب. فأخذ دمستين يدعو إلى حرب لنيل الاستقلال، ولم ير حرجاً في أن يقبل مبالغ طائلة من الفرس يستعين بها على تنفيذ خططه. واستجابت طيبة إلى تحريضه فخرجت من طاعة الإسكندر، وقتلت الموظفين المقدونيين الذين تركهم فيها الملك الشاب، وحاصرت الحامية المقدونية المعسكرة في حصن الكدميا. وأرسلت أثينة المدد إلى طيبة، ودعت بلاد اليونان والفرس إلى التحالف على مقدونية. وثارت ثائرة الإسكندر لهذا العمل الذي لم يكن الدافع إليه في نظره رغبة اليونان في الاستقلال، بل كان غدراً منها وكفراً بفضله عليها؛ فزحف بجنوده المتعبين نحو الجنوب وهاجم بلاد اليونان مرة أخرى. ووصل إلى طيبة بعد ثلاثة عشر يوماً، وشتت شمل جيش سيرته ليصد زحفه؛ ثم ترك مصير هذه المدينة المجردة من وسائل الدفاع إلى أعدائها الأقدمين - بلاتيه، وأركمنوس وثسبيا، وفوسيس؛ فقررت هذه المدن أن تُحرق طيبة عن آخرها وأن يباع أهلها أرقاء. وأراد الإسكندر أن يلقي درساً على غيرها من المدن فأمضى هذا القرار، ولكنه اشترط ألا يمس الجنود الظافرون بيت بندار بسوء، وأن يبقوا على قيد الحياة الكهنة والكاهنات وجميع الطيبين الذين يثبتون أنهم قاوموا الثورة. وقد ندم فيما بعد على هذا الانتقام العنيف وعده سبة له "ولم يكن يتردد في أن يعطي أي طيبي ما يطلبه إليه". وقد كفّر عن بعض ذنبه بمعاملته اللينة لأثينة، فقد عفا عن نكثها ما قطعته على نفسها من عهود في السنة السابقة، ولم يتشدد في طلبه تسليم دمستين وغيره من الزعماء الذين قاوموا المقدونيين، وظل إلى آخر حياته يظهر لهم دلائل الاحترام والحب، فوهب الأكربوليس كثيراً من الغنائم التي ظفر بها في انتصاراته الآسيوية، ورد إلى أثينة تمثالي قاتلي الطغاة اللذين نهبهما خشيارشاي، وقال عقب حملة حربية مجهدة: "أيها الأثينيون، هل تعلمون أي أخطار أعرض نفسي لها لأكون خليقاً بحمدكم".

الإمبراطورية المقدونية في 336 ق.م.
وبعد أن أعربت جميع الدول اليونانية ما عدا إسبارطة عن ولائها للإسكندر عاد إلى مقدونية وأخذ يستعد لغزو آسية. وقد وجد أن خزائن الدولة تكاد أن تكون خاوية، بل وجد أنها مثقلة من عهد فليب بعجز يبلغ مقداره خمسمائة وزنة (نحو 000ر000ر3 ريال أمريكي)، فاقترض ثمانمائة وشرع يتغلب على ديونه قبل أن يتغلب على العالم. وكان قد عقد النية على محاربة بلاد الفرس بوصفه بطل هلاس وناصرها، ولكنه عرف أن نصف بلاد اليونان كان يرجو أن يلاقي حتفه. ونقل إليه عيونه أن في مقدور الفرس أن يحشدوا لقتاله ألف ألف رجل؛ أما هو فلم تزد قوته التي سيرها لقتالهم على ثلاثين ألف من المشاة، وخمسة آلاف من الفرسان. بيد أن هذا الأخيل الجديد لم يعبأ بهذا الفرق الهائل، وترك اثني عشر ألف جندي بقيادة أنتباتر Antipater لحراسة مقدونية ومراقبة بلاد اليونان، وبدأ عام 334 أجرأ وأعجب مغامرة روائية في تاريخ الملوك. وعاش بعد ذلك إحدى عشرة سنة ولكنه لم ير من ذلك اليوم بلاده أو أوربا. وبينما كان جيشه يعبر الهلسبنت من لسبوس إلى أبيدوس اختار هو أن ينزل إلى البر عند رأس سجيوم Sigeum ويسير في الطريق الذي كان يعتقد أن أجممنون سار فيه إلى طروادة. وكان في كل خطوة يذكر لرفاقه فقرات من الإلياذة، فقد كان يحفظها كلها تقريباً عن ظهر قلب. ولما جاء إلى قبر أخيل المزعوم صب عليه الزيت تكريماً له ووضع عليه تاجاً من الزهر، وسعى عارياً حوله كما كان يفعل الأقدمون، وصاح قائلاً: "ما أسعد أخيل إذ كان له في حياته هذا الصديق الوفي، وبعد مماته ذلك الشاعر العظيم ليمجده ويخلّد ذكره". وأقسم في تلك الساعة أن يواصل ذلك الكفاح الطويل بين أوربا وآسية الذي بدأ عند طروادة حتى نهايته المظفرة.

وليس من غرضنا في هذا الكتاب أن نعيد ذكر انتصاراته. وحسبنا أن نقول التقى بأول جيش فارسي عند نهر غرانيقوس وهزمه. وفي هذه الواقعة أنقذ كليتس Cleitus حياة الإسكندر بأن قطع يد جندي فارسي أوشك أن يضرب الإسكندر من خلفه. وليس من دأبنا أن نفعل ما يفعله بعض المؤرخين الخياليين فنفترض الفروض ونبني التاريخ على أمثال هذه الحوادث العارضة أو نتخذها أساساً لهذه الفروض. وبعد أن أراح رجاله بعض الوقت واصل السير إلى أيونيا، وأنشأ في المدن اليونانية حكومات ديمقراطية تحت حمايته. وقد فتحت له معظم المدن أبوابها من غير مقاومة. والتقى عند إسوس بجيش الفرس الرئيسي، وكان يبلغ 000ر600 مقاتل يقودهم دارا الثالث. وكسب المعركة مرة أخرى باستخدام فرسانه للهجوم ومشاته للدفاع. وفر دارا من الميدان وترك وراءه أمواله وأسرته، وشكر له الإسكندر هديته الأولى وعامل الهدية الثانية معاملة الرجل الشهم الكريم. وبعد أن استولى على دمشق وصيدا من غير قتال حاصر صور، وكان بها أسطول فينيقي قوي أستأجره الفرس لخدمتهم في القتال.

وقاومته المدينة القديمة مقاومة طويلة غضب لها الإسكندر أشد الغضب؛ ولما أن استولى عليها آخر الأمر ركب رأسه فترك رجاله يذبحون ثمانية آلاف من أهلها، ويبيعون منهم ثمانين ألفاً بيع الرقيق. واستسلمت له أورشليم بلا مقاومة فأحسن معاملتها، وحاربته غزة حتى قُتل كل رجل في المدينة وسُبيت كل امرأة. وواصل المقدونيون زحفهم المظفر مخترقين صحراء سيناء إلى مصر، وفيها كان الإسكندر حكيماً، فعظم آلهتها ورحب به أهلها، ورأوا فيه منقذاً أرسلته الآلهة ليحررهم من نير الفرس. وعرف الإسكندر أن الدين أقوى من السياسة فاخترق صحراء أخرى إلى واحة سيوة، وقدم الطاعة إلى الإله آمون - وهو أبوه نفسه إذا جاز لنا أن نصدق ألمبياس. وتوجَّه القساوسة المرنون فرعوناً، وأقاموا له الطقوس القديمة، ومهدوا بعملهم هذا الطريق لأسرة البطالمة. فلما تم له ذلك عاد إلى وادي النيل وبدا له أن يقيم عاصمة جديدة، أو لعله وافق على إقامتها، عند أحد مصاب نهر النيل الكثيرة؛ وربما كان اليونان المقيمون في نقراطس (نقراش) القريبة من هذا المكان قد أشاروا عليه بإنشائها لأنها بموقعها هذا تكون مستودعاً أحسن من نقراطس للتجارة اليونانية الكبيرة التي كان يرجى أن تتبادل بين مصر وبلاد اليونان. وخطط الإسكندر محيط أسوار الإسكندرية وحدود شوارعها الرئيسية، ومواضع الهياكل التي اعتزم أن يقيمها لآلهة المصريين واليونان، ثم ترك ما عدا هذا من التفاصيل لمهندسه دنقراطيس.

ثم عاد بجيشه إلى آسية والتقى عند جوكميلا قرب أربيلا بجيش دارا المؤلف من خليط من الأمم، وارتاع لكثرة عدده، وكان يعرف أن هزيمة واحدة كفيلة بأن تذهب بجميع ما سبقها من انتصارات. لكن جنوده هدّأوا روعه وقالوا له: "طب نفساً أيها السيد المعظم، ولا ترهبك كثرة عدد الأعداء، أو أيديهم أو آذانهم أو فقأوا عيونهم. وأبصرهم الإسكندر فبكى من فرط التأثر وأقطعهم أرضاً زراعية وخصهم بأتباع يزرعونها لهم.

ولم يكتف الإسكندر بما نال من مجد فحاول أن يفعل ما عجز عن فعله قورش - وهو إخضاع القبائل التي كانت تحوم حول تخوم بلاد الفرس من الشرق، ولعله كان يأمل لقلة معلوماته الجغرافية أن يجدوا وراء الشرق الغامض المجهول ذلك الأقيانوس الذي يصلح لأن يكون حداً طبيعياً للدولة العظيمة التي أقامها بسيفه. ولما دخل سجديانا مر بقرية يسكنها أبناء البرنشيدي Branchidae الذين أسلموا لخشيارشاي قرب ميليطس كنوز هيكلهم. وتملكته فكرة الانتقام للإله الذي انتهب ماله، فأمر بأن يُقتل جميع أهلها بما فيهم النساء والأطفال - فاقتص بهذا العمل من الآباء بعقاب الجيل الخامس من الأبناء. وكانت حروبه في سجديانا، وأريانا، وبكتريانا، وحشية لم يجن منها نفعاً، فقد نال فيها النصر، وعثر في أعقابها على بعض الذهب، وترك من ورائه أعداء في كل مكان. وقبض رجاله قرب بخارى على بسوس Bessus قاتل دارا. وأقام الإسكندر نفسه فجاءه مطالباً بدم الملك العظيم، فضُرب بسوس بأمره بالسياط حتى كاد يقضي عليه، وجدع أنفه وصلمت أذناه، ثم أرسل إلى إكباتانا حيث قٌتل بأن ربط ذراعاه في إحدى الأشجار وساقاه في شجرة أخرى، وكانت الشجرتان قد ضمتا بالحبال، فلما قطعت حبالهما مزقت الشجرتان جسمه(27). وهكذا الإسكندر كلما بعد عن بلاد اليونان قلت فيه صفات اليونان وزادت نزعته الهمجية. ونراه في عام 327 يخترق جبال الهملايا لينقض على الهند. وكأن غروره وتشوفه كانا يأتمران به ليقوداه إلى هذا الصقع النائي.

في سنة 327 ق.م، عبر اسكندر الأكبر جبال هندوكوش آتياً في طريقه من فارس، وهبط على بلاد الهند؛ ولبث عاماً يجول بحملته بين دول الشمال الغربي من الهند، التي كانت جزءاً من أغنى أجزاء الإمبراطورية الفارسية وأخذ يجمع منها المؤن لجنوده والذهب لخزائنه؛ وعبر نهر السند في الجزء الأول من سنة 326 ق.م. وشق طريقه بالقتال بطيئاً، متخللا "تاكْسِلا" و "روالبندي" متجهاً نحو الجنوب والشرق، والتقى بجيش الملك بورس حيث هزم من جيش المشاة ثلاثين ألفاً، ومن الفرسان أربعة آلاف، ومن العربات الحربية ثلاثمائة، ومن الفيلة مائتين، وقتل اثني عشر ألف رجل، فلما أن أسلم "بورس" بعد أن قاتل حتى استنفذ جهده، أمره الإسكندر أن يقول على أي نحو يريده أن يعامله، ذلك لأنه أعجب بشجاعته وقوامه وجمال قسماته؛ فأجابه "بورس": "عاملني يا اسكندر معاملة تليق بالملوك" فقال الإسكندر: "سأعاملك معاملة الملوك بالنسبة إلى نفسي، وأما بالنسبة إليك أنت، فمر بما تريد" ، لكن "بورس" أجاب بأن كل شئ يريده متضمن فيما طلب أولاً؛ وأعجب الإسكندر بهذا الجواب إعجاباً شديداً، ونصب "بورس" ملكاً على الهند المفتوحة كلها، باعتباره تابعاً خاضعاً لمقدونيا، ولقد وجده بعدئذ حليفاً نشيطاً أميناً(1)؛ وأراد الإسكندر أن يتقدم بجيوشه حتى يبلغ البحر من ناحية الشرق، لكن جنوده احتجوا على ما أراد؛ وكثر في ذلك بينهم القول وازداد التجهم، فخضع الإسكندر لمشيئتهم وقادهم- خلال قبائل معادية له إشفاقا على أوطانهم من اعتدائه، مما اضطر جنود الإسكندر أن يحاربوا في سيرهم عند كل قدم من الطريق، أو كادوا- قادهم حذاء "هِداسب" وإلى جوار الساحل؛ حتى اخترق بهم "جدروسيا" إلى بلوخستان؛ فلما وصل "سوزا" بعد عشرين شهراً من عودته بعد فتوحه لم يعد جيشه أكثر من فلول منهوكة من الجيش الذي كان قد دخل به الهند قبل ذلك بثلاثة أعوام.

وكان هو أول من تسلق أسوار ماليا Mallia؛ وبعد أن قفز هو واثنان من جنده إلى داخل المدينة، تحطم السلم الذي صعدوا عليه، ووجد هو وزميلاه أنفسهم يحيط بهم الأعداء من كل جانب. وحارب الإسكندر حتى سقط على الأرض مثخناً بالجراح، وكان جنوده في هذه الأثناء قد اقتحموا أسوار المدينة، وأخذوا واحداً بعد واحد يضحون بحياتهم دفاعاً عن مليكهم الملقى على الأرض. فلما انتهت المعركة، حُمل الإسكندر إلى خيمته، والجند يقبلون ثيابه وهو مار بهم. وبعد أن قضى ثلاثة أشهر في دور النقاهة بدأ الزحف من جديد بمحاذاة نهر السند حتى وصل آخر الأمر إلى المحيط الهندي. ومن هنا أرسل قسماً من جيوشه بطريق البحر إلى بلاده بقيادة نيارخوس Nearchus، واستطاع هذا القائد الماهر أن يقوم بهذه الرحلة بعد أن اخترق بحاراً لا عهد له بها. وقاد الإسكندر بنفسه بقية الجيش متجهاً به نحو الشمال الغربي بمحاذاة ساحل الهند، ومخترقاً صحراء جدروسيا Gedrosia (بلوخستان)؛ وقاسى جنوده فيها ما قاسته جنود نابليون في أثناء ارتدادهم من موسكو، فقد آلاف منهم من شدة الحر، وهلك من العطش أكثر من هؤلاء؛ ثم وجدوا قليلاً من الماء، وجيء به إلى الإسكندر، فصبه متعمداً على الأرض. ووصلت فلول جيشه إلى السوس بعد أن قتل منهم عشرة آلاف، واختلت موازين عقل الإسكندر نفسه من كثرة ما لاقاه من الأهوال.

وفاته
وكان قد قضى حتى ذلك الوقت تسع سنين في آسية، أحدث فيها من التأثير بانتصاره أقل مما أحدثته هي بأساليبها الشرقية. ذلك أن أرسطو قد علمه أن يعامل اليونان معاملة الأحرار وأن يعامل "البرابرة" معاملة العبيد. ولكنه دهش إذ وجد بين أشراف الفرس مستوى من الرقة وحسن الخلق لم يره كثيراً في الديمقراطيات اليونانية المضطربة؛ وأعجب بالطريقة التي نظم بها الملوك العظام إمبراطوريتهم، وارتاب في مقدرة المقدونيين الغلاظ على أن يحلوا محل حكام هذه الإمبراطورية، وأدرك أن السبيل الوحيدة إلى تثبيت فتوحه واستقرارها بعض الاستقرار هي أن يسترضي أشراف الفرس حتى يقبلوا زعامته، فإذا فعلوا استخدمهم في المناصب الإدارية. وزاد سروره برعاياه الجدد يوماً بعد يوم، فتخلى عن فكرته القديمة وهي أن يحكمهم بوصفه ملكاً مقدونياً، وخال نفسه إمبراطوراً يونانياً - فارسياً يحكم دولة يكون فيها الفرس واليونان أكفاء، وتمتزج ثقافتهم ودماؤهم امتزاجاً سلمياً، فينتهي النزاع الطويل بين أوربا وآسية بذلك الاقتران السعيد بين حضارتيهما.

وكان آلاف من جنوده قد تزوجوا من نساء البلاد المفتوحة، وأخذوا يعاشرونهن؛ فلم لا يفعل هو أيضاً فعلهم؟ فيتزوج بابنة دارا ويسوي النزاع بين الأمتين بأن يلد لهما ملكاً يجري في عروقه دم الأسرتين. لقد تزوج قبل ذلك الوقت ركسانا الأميرة البكترية، ولكنه لم يكن يرى أن هذه عقبة تقف في طريقه، وعرض الفكرة على ضباطه وأشار عليهم أن يتخذوا لهم أزواجاً فارسيات. وتبسموا ضاحكين من فكرة توحيد الأمتين، ولكنهم كانوا قد قضوا زمناً طويلاً بعيدين عن ديارهم، وكانت نساء الفرس ذوات جمال بارع. ومن ثم أقيم عرس عظيم في السوس تزوج فيه الإسكندر استاتيرا Statira ابنة دارا الثالث، وبريساتس Parysatis ابنة أرتخشتر الثالث، وبهذا ربط نفسه بفرعي الأسرة المالكة الفارسية، واتخذ ثمانون من ضباطه لهم زوجات فارسيات. وحذا حذوهم بعد زمن يسير آلاف من الجنود فتزوجوا من فارسيات. ووهب الإسكندر كل ضابط من ضباطه بائنة قيمة وأدى ما على الجنود الذين تزوجوا من ديون - وقد بلغت هذه الهبات (إذا جاز لنا أن نأخذ بأقوال أريان Arrian) عشرين ألف وزنة (000ر000ر120ريال أمريكي وأراد أن يزيد هذا الاتحاد بين الشعبين قوة، ففتح أراضي الجزيرة وفارس للمستعمرين اليونان؛ وخفف بهذا العمل ضغط السكان في بعض الدول اليونانية وقلل من حدة الطبقات. ومن ذلك الوقت بدأت تقوم تلك المدن المتأغرقة الآسيوية التي صارت فيما بعد جزءاً هاماً من الإمبراطورية السلوقية Seleucid Empire وجمع في الوقت نفسه ثلاثين ألفاً من شباب الفرس وعلمهم على الطريقة اليونانية ودربهم على فنون الحرب اليونانية.

ولعل زوجاته كن من أسباب ميله إلى الأساليب الشرقية، أو لعل هذا الميل كان خطأ وقع فيه لشدة تواضعه، أو لعله كان جزءاً من خطة موضوعة. وفي ذلك يقول بلوتارخ: "فلما كان في فارس بدأ يلبس الثياب "البربرية" (أي الأجنبية) ولعله أراد بذلك أن ييسر تحضير الفرس لأن أكبر ما يؤثر في الناس هو اتباع عاداتهم...بيد أنه لم يتبع عادات الميديين...بل اختط خطة وسطاً بين الأساليب الفارسية والمقدونية، وكيف عاداته بحيث خلت من التفاخر الذي هو من مميزات الأولين، ولكنها كانت أكثر أبهة وفخامة من الآخرين".

وكان جنوده يرون هذا التغيير استسلاماً من الإسكندر للشرق، ويحسون أنهم بذلك قد خسروه، وفقدوا ما كانوا يرونه من أدلة العناية والعطف التي كان يضفيها عليهم في كل حين. وأظهر له الفرس فروض الطاعة والولاء، وأرضوه بضروب الملق والدهان؛ وشرع المقدونيون، بعد أن رقق الترف الشرقي طباعهم يظهرون استياءهم من الواجبات الثقيلة التي كان يفرضها عليهم، ونسوا إحسانه لهم، وأخذوا يتهامسون بالفرار من الجيش، بل إنهم شرعوا يأتمرون به ليقتلوه. وبدأ هو يفضل صحبة عظماء الفرس على صحبة اليونان. وكان أكبر شاهد على ارتداده عن دينه أو على حسن سياسته هو جهره بألوهيته؛ وذلك أنه بعث في عام 324 إلى جميع الدول اليونانية ما عدا مقدونية (لأن ما في الرسالة التي بعث بها من إهانة لفليب قد يثير غضب أهلها) يبلغها أنه يرغب في أن يعترف به من ذلك الوقت ابناً لزيوس - أمون. وصُدعت معظم الدول بما أمرت، ولم ترَ في الأمر أكثر من لقب صوري، بل إن الإسبارطيين المعاندين أنفسهم لم يخرجوا على الأمر وقالوا في أنفسهم: "فليكن الإسكندر إلهاً إذا شاء".

ولم يكن تأليه إنسان ما، بمعنى لفظ الألوهية عند اليونان، ليرفع من شأنه كثيراً؛ ذلك أن الهوة التي تفصل بين الإنسانية والألوهية لم تكن وقتئذ واسعة كما أضحت في الأديان الحديثة. ولقد جمع كثيرون من اليونان بين الصفتين، ومن هؤلاء هبوداميا، وأوديب، وأخيل، وإجينيا، وهلن. كذلك كان المصريون يحسبون فراعنتهم آلهة؛ ولو أن الإسكندر غفل عن أن يضع نفسه في هذا الموضع لكان من المحتمل أن يغضب المصريون لخروجه هذا الخروج العنيف عن السوابق المقررة عندهم. ولقد أكد كهنة سيوة، وديديما Didyma، وبابل، وهم الذين يعتقد الناس فيهم أن لديهم مصادر خاصة يستقون منها أمثال هذه الأنباء، أنه من نسل الآلهة. أما أن الإسكندر قد اعتقد بحق (كما يظن جروت أنه إله بأكثر من المعنى المجازي لهذا اللفظ فأمر بعيد الاحتمال. نعم إنه بعد أن أله نفسه أصبح سريع الغضب متغطرساً، وإن سرعة غضبه وغطرسته أخذتا تزدادان على مر الأيام. ولسنا ننكر أيضاً أنه جلس على عرش من الذهب، وارتدى ثياب كهنوتية، وزين رأسه في بعض الأحيان بقرني أمون. ولكنه حين لم يكن يظهر ألوهيته لأغراضه الدنيوية كان يسخر من هذه العظمة التي يدعيها لنفسه؛ ولما أن جرحه سهم قال لبعض أصدقائه: "هاأنتم هؤلاء ترون أن هذا دم لا غذيذة كالتي تسيل من جراح الآلهة المخلدين" وما من شك في أنه لم يكن يحمل قصة والدته عن الصاعقة محمل الجد، ذلك واضح من غضبه الشديد على أتلس حين قال ما قال عن مولده، ومن قوله هو عن حاجته إلى النوم الذي يميز البشر عن الآلهة. وحتى أولمبياس نفسها قد ضحكت ساخرة حين سمعت أن الإسكندر قد سجل قصتها الخرافية في السجلات الرسمية، وسألت قائلة: "ألم يأن للإسكندر أن يمتنع عن التشنيع عليّ عند هيرا"؟ ولقد ظل الإسكندر نفسه بالرغم من ربوبيته يقرب القرابين إلى الآلهة، وهو عمل لم نسمع قط بأن إلهاً قد أتى به. ولم يكن بلوتارخ وأريان وهما الرجلان اللذان يستطيعان أن يحكما في هذه المسألة لأنهما يونانيان، يشكان في أن الإسكندر قد أله نفسه ليتخذ ذلك التأليه وسيلة تيسر له حكم سكان إمبراطوريته المختلفي الأجناس والذين يؤمنون بالخرافات.

ولا ريب في أنه كان يحس أن مهمة توحيد العالمين المتعاديين تُيَسَّر له إذا قبلت الطبقات العليا من أهلهما دعوى ربوبيته وعظمته الطبقات الدنيا وقدسته. ولعله قد فكر في أن يتغلب على ما تثيره الأديان المختلفة في الإمبراطورية من نزعة انفصالية بأن ينشر فيها حول شخصيته أسطورة مقدسة وديناً عاماً تؤمن به جميع شعوب هذه الإمبراطورية. ولم يكن في مقدور المقدونيين أن يسبروا غور خطط الإسكندر السياسية. ذلك أنهم وإن تأثروا بالروح اليونانية إلى الحد الذي تحررت به عقولهم من الاسترقاق الفكري، لم يرقوا إلى درجة التسامح الفلسفي؛ ورأوا أن ما طلبه إليهم من السجود له حين يقتربون منه لا يرضونها لأنفسهم. ومن أجل ذلك دبر فيلوتاس Philotas ، وهو ضابط من أشجع ضباطه ابن قائد من أكفأ قواده وأحبهم إليه، بالاشتراك مع القائد برمنيو Parmenio مؤامرة لقتل الإله الجديد. ووصلت أنباء المؤامرة إلى مسامع الإسكندر، فأمر بالقبض على فيلوتاس وانتزع منه بضروب التعذيب اعترافاً باشتراك أبيه مع المتآمرين. وأرغم على أن يكرر هذا الاعتراف أمام الجند، فرجموه من فورهم بالحجارة حتى مات، وكانت هذه عادتهم في مثل هذه الحالة. أما برمنيو فقد أعدم بأمر الملك لأنه مجرم في أغلب الظن، وأنه على كل حال عدو لا يؤمن جانبه. وتوترت العلاقات بين الإسكندر وجيشه من ذلك الحين - فأخذ الجنود يزدادون غضباً واستياء، وأخذ الملك يزداد في كل يوم ريبة وقسوة وعزلة.

وحمله تساميه، وعزلته، وكثرة مشاغله المطردة الزيادة، على أن يحاول إغراق همومه في الشراب. وقد حدث في مأدبة أقيمت في سمرقند أن شرب كليتس الذي أنقذ حياة الإسكندر في يوم غرانيقوس حتى فقد وعيه، فقال للإسكندر: إن ما نال من النصر يرجع الفضل فيه إلى جنوده لا إليه، وإن أعمال فليب أعظم من أعماله. وكان الإسكندر هو الآخر ثملاً فقام ليضربه، ولكن بطليموس لاجوس ptolemy Lagus (الذي أصبح بعد قليل والياًعلى مصر) أخرج كليتس من مكان المأدبة. بيد أن كليتس كان يريد أن يقول أكثر مما قال، فعاد ليواصل طعنه. فرماه الإسكند بحربة أردته قتيلاً. وندم الإسكندر بعدئذ على عمله هذا ندماً حمله على أن يعتزل الناس ثلاثة أيام كاملة، امتنع فيها عن الطعام، وانتابته نوبات هستيرية، حاول فيها أن ينتحر. ولم يمض بعد ذلك ألا قليل من الوقت حتى قام هرمولوس Hermolaus ، وهو خادم من خدم الإسكندر عاقبه في يوم من الأيام عقاباً ظالماً، بتدبير مؤامرة أخرى لقتله. وقبض على الغلام وعُذب حتى أتى باعتراف اتهم فيه كلستانس Callisthenes ابن أخي أرسطو. وكان كلستانس هذا يرافق الحملة بوصفه مؤرخاً رسمياً لها، وكان قد أغضب الملك لأنه أبى أن يسجد له، وأخذ ينتقد أساليبه الشرقية، ويتباهى بأن الخلف لن يعرف الإسكندر إلا عن طريق كلستانس المؤرخ. وأمر به الإسكندر فسجن حتى مات بعد سبعة أشهر من ذلك الوقت . وقضت هذه الحادثة على ما كان بين الإسكندر وأرسطو من صداقة، وكان الفيلسوف قد ظل عدة سنين يعرض حياته لأشد الأخطار بدفاعه عن قضية الإسكندر في أثينة.

وظل سخط الجيش يزداد حتى أوشك أن يكون في آخر الأمر تمرداً علنياً. ولما أعلن الملك في يوم من الأيام أنه يريد أن يرجع إلى مقدونية أكبر الجنود سناً بعد أن يمنح كلاً منهم جائزة سنية نظير خدمته ، هاله أن يسمع الجند يتهامسون بأنهم يحبون أن يفصلهم جميعاً من سلك الجندية، لأنه وهو إله لا حاجة له بالناس ليحققوا أغراضه. فلم يكن منه إلا أن أمر بقتل زعماء الفتنة، ثم ألقى على الجنود خطبة مؤثرة (ولكنها في أغلب الظن مشكوك في صحتها) ذكر فيها كل ما فعلوه من أجله، وكل ما فعله هو من أجلهم، وسألهم هل فيهم مَن يستطيع أن يظهر في جسده من الجروح أكثر مما فيه هو؟ وهل فيهم رجل مثله في جسمه أثر من كل سلاح من أسلحة القتال؟ ثم أذن لهم جميعاً في آخرها أن يعودوا إلى ديارهم وقال لهم: " عودوا إلى أوطانكم وقولوا للناس إنكم تخليتم عن مليككم، وتركتموه في حماية الأجانب المغلوبين". ثم آوى إلى حجرته وأبى أن يقابل أحداً من الناس. فندم جنوده أشد الندم، وأقبلوا على قصره، وألقوا بأنفسهم على الأرض أمامه، وأعلنوا أنهم لن يغادروا أماكنهم حتى يعفو عنهم ويعيدهم إلى جيشه. ولما أن ظهر أمامهم في آخر الأمر، أجهشوا بالبكاء وأصروا على أن يقبلوه، فلما رضي عنهم عادوا إلى معسكرهم ينشدون أناشيد الحمد والثناء.

واغتر الإسكندر بمظاهر الحب هذه، فأخذ يحلم بمواصلة الحروب والانتصارات، ووضع الخطط لفتح بلاد العرب الغامضة، وأرسل بعثة لارتياد أقاليم بحر قزوين، وفكر في الاستيلاء على أوربا حتى أعمدة هرقل. غير أن تعرضه للأجواء المختلفة وإدمانه الشرب كانا قد أضعفا بنيته القوية، كما أن مؤامرات ضباطه وتمرد جنوده كانا قد أوهنا قوته النفسية. وبينما كان الجيش في إكبتانا مرض هفستيون Hephaestion أعز أصدقائه وقضى نحبه. وكان الإسكندر يحبه حباً بلغ من شدته أنه حين دخلت زوجة دارا خيمة الملك الفاتح وانحنت أولاً لهفستيون احترماً له لظنها أنه هو الإسكندر، قال لها الملك الشاب في رقة ولطف: "إن هفستيون هو أيضاً إسكندر"(وكأنما أراد بقوله هذا أنه هو وهفستيون رجل واحد. وكثيراً ما كان الرجلان يشتركان في خيمة واحدة، وكانا في الحرب يقاتلان جنباً إلى جنب. وأحس الملك بعد موته أن نصفه قد انتزع منه، فأحزنه ذلك وفت في عضده، وقضى عدة ساعات ملقى على جثة صديقه يبكي وينتحب؛ واقتلع شعره من فرط الحزن، وأبى أن يتناول شيئاً من الطعام عدة أيام متوالية، وحكم بالإعدام على الطبيب الذي ترك الشاب المريض ليشهد الألعاب العامة، وأمر أن تكرم ذكرى هفستيون بإقامة محرقة جنائزية ضخمة بلغت نفقاتها كما يقولون عشرة آلاف وزنة (000ر000ر60 ريال أمريكي) وبعث يسأل مهبط الوحي من أمون هل يجوز أن يُتخذ هفستيون إلهاً يُعبد؟ وأمر في الوقائع الحربية التي دارت بعدئذ أن تقتل قبيلة على بكرة أبيها قرباناً لروح هفستيون. وكانت الفكرة التي تراوده وهي أن أخيل لم يعش طويلاً بعد موت بتركلس تقض مضجعه كأنها حكم عليه بالإعدام.

ولما عاد إلى بابل زاد انغماسه في الشراب شيئاً فشيئاً. وبينما كان يشرب مع ضباطه ذات ليلة إذ عرض عليهم أن يتباروا في شرب الخمر. فتجرع برامكس نحو ثلاثة جالونات وفاز بالجائزة وهي وزنة من الذهب، ومات بعد ثلاثة أيام. وأقيمت مأدبة أخرى بعد أيام قلائل شرب فيها الإسكندر خابية تحتوي نحو جالون ونصف من الخمر، وعاد في الليلة التالية إلى الشراب، ثم اشتد البرد فجأة فأصيب بالحمى وآوى إلى فراشه. ولم تفارقه الحمى عشرة أيام كاملة ظل في أثنائها يصدر الأوامر إلى جيشه وأسطوله. ثم مات في اليوم الحادي عشر في السنة الثالثة والثلاثين من عمره (323). ولما سأله قواده لمن يترك ملكه أجابهم بقوله: "إلى أعظمكم قوة"

وقد عجز الإسكندر كما عجز أكثر العظماء عن أن يجد رجلاً جديراً بأن يخلفه على عرشه، وكان قد قضى نحبه قبل أن يتم عمله. على أن هذا العمل رغم هذا لم يكن جليلاً فحسب بل كان فوق ذلك أبقى على الدهر مما يظنه الناس عادة. فكأن الضرورات التاريخية قد اختارت الإسكندر لتغيير الأوضاع السياسية القائمة في ذلك الوقت، فقد قضى على عهد دول المدن، وأنشأ بعد التضحية بقسط غير قليل من حرية هذه المدائن نظاماً أوسع رقعة وأعظم استقراراً من أي نظام عرفته أوربا قبل عهده. وقد ظلت الفكرة التي قامت بذهنه عن الحكم، الحكم الاستبدادي الذي يستعين بالدين لفرض السلم على أمم مختلفة الأجناس والألوان، نقول ظلت هذه الفكرة هي المسيطرة على أوربا حتى العصر الحديث عصر القومية والديمقراطية. وقد حطم الحواجز القائمة بين اليونان و "البرابرة" ومهد السبيل لعالمية العصر الهلنستي؛ وفتح آسية الدنيا للاستعمار اليوناني، وأنشأ في بلاد الشرق مستعمرات يونانية وصلت في هذا الاتجاه إلى بكتريا، وجمع عالم البحر الأبيض المتوسط الشرقي في نظام تجاري موحد واسع النطاق شجع التجارة وأطلقها من قيودها؛ ونقل الآداب والفلسفة والفنون اليونانية إلى آسية، ومات قبل أن يدرك أنه مهد السبيل لذلك الانتصار الديني العظيم الذي ظفر فيه الشرق بالغرب. ولقد كان ارتداؤه الملابس الشرقية وتحوله إلى الأساليب الشرقية بداية انتقام آسية من أوربا.

ولقد كان من الخير للإسكندر أن يموت وهو في عنفوان مجده؛ ولو أنه طال به العمر لتكشف له أنه كان مخدوعاً في كثير من الأمور، ولعله لو عاش لأقضت مضجعه الهزائم والآلام ولأحب السياسة - وكان قد بدأ يحبها - أكثر مما يحب الحرب. لكنه أجهد نفسه فوق طاقته، وأكبر الظن أن ما كان يتطلبه حفظ دولته العظيمة قوية موحدة، ومراقبة أجزائها المختلفة بأجمعها، قد بدأ يحدث الاضطراب في عقله المشرق النير. ذلك أن الجد ليس إلا نصف العبقرية، أما نصفها الآخر فهو السيطرة على أعنة هذا الجد وتملك ناصيته؛ ولكن الإسكندر كان كله جداً ونشاطاً. وكان يعوزه - وإن لم يكن من حقنا أن نتطلب منه - نضج قيصر الهادئ أو حكمة أغسطس ودهاؤه. ونحن نعجب بنابليون لأنه لاقى بمفرده نصف العالم، ولأنه يشجعنا على أن نؤمن بما في نفوس الأفراد من قوة كامنة لا يكاد الإنسان يؤمن بوجودها فيها. ونحن نشعر بعطف طبيعي عليه رغم إيمانه بالخرافات والأوهام وتصديقه ما لا يصح لمثله أن يصدقه، وذلك لأننا نعرف أن أقل ما يمكن أن يقال فيه أنه كان شاباً كريم النفس قوي العاطفة، كما كان رجلاً قديراً باسلاً لا يكاد يدانيه أحد في قدرته وبسالته، وأنه كان يكافح ليتخلص مما في دمه من تراث من الهمجية يذهب بالعقل الحصيف، وأنه فيما خاض من المعارك العنيفة وفيما أهرق من الدماء الغزيرة لم يغب عنه قط حلمه العظيم وهو نشر نور أثينة في عالم أوسع منها رقعة.

لما علمت بلاد اليونان بموت الإسكندر اندلع لهيب الثورة على سلطان مقدونية في جميع أنحائها. ونظم أهل طيبة المنفيون في أثينة قوة من الوطنيين وحاصروا الحامية المقدونية المرابطة في كدميا. وفي أثينة نفسها، حيث كان الكثيرون يتضرعون إلى الآلهة أن تقضي على الإسكندر، توج أعضاء الحزب المعادي للمقدونيين رءوسهم بأكاليل الغار حين أحسوا بأن دعاءهم قد استجيب، وأخذوا يقصفون ويمرحون لموت مَن كانوا قبل موته يتخذونه إلهاً يُعبد، وينشدون، كما يقول بلوتارخ "أناشيد النصر كأنهم قد فازوا عليه بشجاعتهم"..

وكان دمستين في هذه اللحظة القصيرة في ذروة مجده؛ ذلك أن أموره في خلال حروب الإسكندر لم تكن كما يحب: فقد اتهم بأنه قبل رشوة كبيرة من هرپالوس Harpalus وزج في السجن، ثم سُمح له بالفرار وعاش تسعة أشهر يقاسي آلام النفي في تريزن Troezen. فلما مات الإسكندر استدعى من منفاه وأرسل في مهمة سياسية إلى البلوبونيز ليعقد حلفاً لأثينة يعاونها في حرب الاستقلال والحرية. وزحفت قوة متحدة نحو الشمال والتقت بجيش أنتباتر عند كرانون Crannon ودارت عليها الدائرة. وفرض الجندي الطاعن في السن، الذي لم يكن كالإسكندر يشعر بشيء من العطف على الثقافة الأثينية، أفدح الشروط على المدينة المهزومة، فطلب إليها أن تتحمل جميع نفقات الحرب، وأن تقبل فيها حامية مقدونية، وتلغي دستورها الديمقراطي ومحاكمها، وتُحرم من حق الانتخاب، وتنقل إلى المستعمرات الخارجية كل المواطنين (000ر12 من 000ر21) الذين تقل قيمة ممتلكاتهم عن ألفي درخمة، وأن تسلم دمستين، وهبريدز، واثنين غيرهما من الخطباء المعادين للمقدونيين. فلما سمع دمستين بهذه الشروط فر إلى كالوريا Calauria ولجأ إلى حمى أحد الهياكل. ولما أحاط به مطاردوه المقدونيون تجرع ملء قارورة من السم، ومات قبل أن يستطيع جر نفسه من البهو المقدس.

وشهدت هذه السنة المشئومة نفسها خاتمة حياة أرسطو. لقد كان منذ زمن طويل غير محبب للأثينيين: فقد كان المجمع العلمي ومدرسة إسقراط يحقدان عليه لأنه كان ينقدهما وينافسهما، بينما كان الوطنيون يعدونه زعيماً للحزب المناصر للمقدونيين. وانتهز أعداؤه فرصة موت الإسكندر فاتهموا أرسطو بالمروق من الدين، وجيء بفقرات من كتبه دالة على كفره بالآلهة تأييداً لهذه التهمة؛ واتُهم أيضاً بأنه كرم الطاغية هرمياس Hermeias بما يكرم به الآلهة، وكان هرمياس هذا عبداً رقيقاً ومن ثم لم يكن في مقدوره أن يصبح إلهاً. وغادر أرسطو المدينة في هدوء وهو يقول إن نفسه لا تطاوعه أن يتيح لأثينة فرصة أخرى ترتكب فيها الإثم في حق الفلسفة(43). ولجأ إلى بيت أسرة والدته في خلقيديا وأوصى ثيوفراسطوس Theophrastus أن يعنى بشئون اللوقيون. وحكم عليه الأثينيون بالإعدام، ولكن الفرصة لم تسنح لهم لتنفيذ الحكم، كما أنهم لم يكونوا في حاجة لتنفيذه. ذلك أن أرسطو قضى نحبهُ بعد بضعة أشهر من مغادرته أثينة؛ وقد يكون سبب موته مرضاً أصيب به في معدته واشتد عليه بسبب فراره، وقد يكون سببهُ كما يقول بعضهم أنه تجرع السم. وكان وقت وفاته في الثالثة والستين من عمره، وكانت وصيته مثلاً أعلى في الحنان والتقدير لزوجته الثانية، وأسرته، وعبيده.

وبعد فقد كان موت الديمقراطية اليونانية موتاً عنيفاً وطبيعياً في وقت واحد. وكان أهم أسباب هذا الموت ما أصاب هذا النظام من اضطراب تغلغل في كيانه، ولم يكن سيف مقدونية إلا الضربة الأخيرة التي أجهزت عليه وهو يلفظ آخر أنفاسه. لقد تبين أن دولة المدينة لا تستطيع حل مشاكل الحكم: فقد عجزت عن حفظ النظام في الداخل، وصد الأعداء في الخارج؛ ولم تهتد إلى وسيلة توفق بها بين الاستقلال وبين الاستقرار القومي وقوة السلطان رغم نداء گورگياس، وسقراط وأفلاطون لهذه المدن بأن تستعين بشيء من التنظيم الُّدوري القوي لتكبح به جماح الحرية الأثينية. هذا إلى أن حب دولة المدينة للحرية لم يقف قط في سبيل نزعتها الإمبراطورية. يضاف إلى هذا أن حرب الطبقات قد اشتدت حتى أفلت زمامها من أيدي الزعماء، وجعلت الديمقراطية سباقاً إلى الانتهاب عن طريق التشريع. وانحطت الجمعية التي كانت هيئة شريفة في أحسن أيامها فأصبحت هيئة من الرعاع الصخابين تكره كل سلطة فوق سلطتها، وترفض كل قيد يحد من هذه السلطة، تقسو على الضعيف وتخضع ذليله للقوي، توافق على كل ما تنال من ورائه النفع لنفسها، وتفرض على الأملاك من الضرائب الفادحة ما من شأنه أن يقضي على الابتكار والنشاط والادخار. إن فليب والإسكندر وأنتباتر لم يكونوا هم الذين قضوا على الحرية اليونانية، بل إن هذه الحرية هي التي قضت على نفسها بنفسها؛ ولقد أبقى النظام الذي أقاموه حضارة لولاه لقضى عليها ما فيها من عناصر الفوضى الاستبدادية، ونشر هذه الحضارة في مصر والشرق.

ومع هذا كله فهل استطاعت الألجركية أو الملكية المطلقة أن تفعل خيراً مما فعلتهُ تلك الديمقراطية؟ إن حكومة "الثلاثين" قد ارتكبت في الشهور القلائل التي استولت فيها على أزمة الحكم من الفظائع ضد الأنفس والأموال أكثر مما ارتكبته الديمقراطية في مائة السنين السابقة لهذا الحكم. وبينما كانت الديمقراطية تخلق الفوضى في أثينة كانت الملكية تخلق الفوضى في مقدونية؛ وهل ثمة فوضى أكثر من حروب تربى على عشر جر إليها النزاع على العرش، ومائة من الاغتيالات، وألف من القيود على الحرية، وذلك كله من غير أن يصحب هذه الفوضى شيء من المجد الأدبي أو العلمي أو الفني يخفف من فظاعتها؟ ولقد كان ضعف الدولة وصغرها في بلاد اليونان نعمة كبرى على الفرد، نعمت بها روحه بلا ريب إن لم ينعم بها جسمه؛ ذلك أن هذه الحرية، وإن كلفته كثيراً، قد أمكنت العقل اليوناني من أن يقوم بجلائل الأعمال. إن الفردية تقضي في آخر الأمر على الجماعة، ولكنها قبل أن تقضي عليها تقوي الشخصية، والكشف العقلي، والإبداع الفني. ولسنا ننكر أن الديمقراطية اليونانية أضحت فاسدة عاجزة يجب أن تموت؛ ولكن الناس أدركوا بعد موتها ما كانت عليه من الجمال في أيام مجدها، وكانت الأجيال القديمة التالية على بكرة أبيها ترنو ببصرها إلى عهود پركليس وأفلاطون وتعدها أعظم العهود التي شهدتها بلاد اليونان بل أحسن العهود في التاريخ كله.!!