الأقباط متحدون - أمى.. تموت مرتين!
  • ٠٩:٢١
  • الاثنين , ١١ يونيو ٢٠١٨
English version

أمى.. تموت مرتين!

مقالات مختارة | فاطمة ناعوت

٥٠: ١٠ ص +02:00 EET

الاثنين ١١ يونيو ٢٠١٨

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

أرحمُ ما فى موت الأمّهات، أنهنّ لن يمُتن مرّةً أخرى. تموتُ الأمهاتُ مرةً واحدة، فقط، وينتهى الأمر. هو مُرٌّ تتجرّعه كأسًا واحدةً، ثم يزولُ الرعبُ السابقُ له، ويستمرُّ المرُّ اللاحقُ له. مَن يرتبط بأمّه كثيرًا، يعيشُ حالاً دائمة من القلق من فكرة فَقدِها. ولا يتوقفُ ذاك القلقُ إلا حين تذهبُ الأمُّ، فيتخلّصُ المرءُ من الخوف من فقدِها، لأنه بالفعل قد فَقَدَها. تلك هى الرحمةُ الوحيدة فى موت الأمهات.

قبل عشر سنوات، فى سبتمبر ٢٠٠٨، غدرتنى أمّى «سهير» وغادرتنى، فكتبتُ مقالا عنوانه: «صوتُ أمى لا يطيرُ مرّتين». واسيتُ فيه نفسى بأننى تخلَّصتُ للأبد من الهلع المُقلق من فكرة «فقد أمى». فقدتُها وانتهى الأمرُ ولن أفقدها مجدّدًا. منذ طفولتى وأنا أعيش ذلك القلق: «ماذا لو اختفت أمى؟». لأنها كانت السندَ الوحيد لى فى هذا العالم. وسرعان ما اكتشفتُ الخدعةَ التى واسيتُ بها نفسى؛ حين أيقنتُ أن أمى تموتُ كلما احتجتُ إليها فلا أجدها حولى. كلما داهمتنى مشكلةٌ، أبحثُ عن أمى لتسندنى فأكتشفُ أنها لم تعد هناك، فأتجرعُ كأس فقدها من جديد. فكتبتُ مقالا حزينًا عنوانه: «أمى تموتُ كلَّ يوم»، نقضتُ فيه مقالى القديم وتساءلتُ: «هل اختفى صوت أمى للأبد؟» وسألتُ الَله يائسةً على استحياء، أن يصنعَ معجزةً ويُعيد لى أمى! كان ضربًا من جنون الخيال أتوسّلُ به القوةَ على مواصلة الحياة. فى ذلك اليوم، بعد كتابة المقال، حدث أمرٌ عجيب. وقعت عدّة مصادفات عبثية، لا تحدثُ إلا فى الأفلام الهندية؛ ووجدتُ فى حياتى فجأةً أمًّا رائعة منحتنى حنانًا لم أجرؤ على مجرد الحلم به.

إنها هدايا الله المستحيلة التى يعجزُ العقلُ البشرىُّ المحدود عن تصوّرها أو استيعابها. نطلبُ من الله شيئًا عصىَّ المنال ونحن ندرك فى لاوعينا أنه مستحيل، فيمنحُنا اللهُ ما يفوق أحلامَنا، دون مبرر معقول. سنواتٍ طوالاً، منحتنى تلك الأمُّ الروحية ما يصعُب حصرُه فى مقال أو كتب. كانت السندَ والرحمةَ والفرحَ والحُبَّ والرعاية، ورقصتْ على لسانى من جديد أجملُ الكلمات وأشهاها: «ماما». تلك السيدةُ هى الُمعلّمة الفاضلة «آنجيل غطاس هارون»، أمى الروحية الجميلة التى ضربها قبل شهور أشرسُ أنواع السرطان، وخطفها منى الثلاثاء الماضى ٥ يونيو الحزين، يوم نكسة مصر التاريخية، ونكسة قلبى الموجعة، لأتجرع كأسَ اليُتْم من جديد. أقسى وأقصى ألوان الحرمان، يأتى بعد المنح.

فى يوليو ٢٠١٦، أثناء العام الصعب الذى قضيتُه خارج مصر، كانت معنوياتى منخفضة للغاية بسبب بُعدى عن أسرتى وبيتى ووطنى. فقرر الأصدقاءُ المصريون المقيمون بدولة الإمارات، وعلى رأسهم الصديقُ والأخ رأفت إسكندر، سفير السلام بالأمم المتحدة، أن يخففوا عنى مرارةَ الاغتراب، بأن يجلبوا لى «قطعةً من مصر». طلبوا من ماما آنجيل، أن تأتى لزيارتى فى الإمارات، لكنها كانت مريضة ولم تستطع السفر. وقررت سالى عزمى، ابنتُها وصديقتى، أن تسافر إلىّ وحدها. ذهبتُ إلى مطار أبوظبى لاستقبال سالى، وكانت المفاجأة التى رتبها السفير رأفت دون علمى. فوجئت بأن أمى الروحية قد تحاملت على نفسها ومرضها وسافرت من أجلى. هول المفاجأة جعلنى أسقط على الأرض من فرط الفرح، وانخرطتُ فى البكاء. تلك هى الأم العظيمة التى فقدتُها بالأمس. ويالهول الفقد.

فى كتابى وشيك الصدور (الكتابة بالطباشير الملون)، كتبتُ لها إهداءً يقول: (ماما جولا، لا تتركينى)! لكنها تركتنى وسافرت إلى السماء قبل أن ترى الكتاب. فهل أُغيّر الإهداءَ وأعاتبها على تركى وحيدة؟ أمْ أتركه شاهدًا عليها، وعلى لحظة مُرَّة من حياتى؟ أمى ماتت مرتين! سهير، آنجيل، سلامٌ على روحيكما الطيبتين.
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع