الأقباط متحدون - الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد
  • ١٣:٣٨
  • الأحد , ١٨ مارس ٢٠١٨
English version

الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد

كمال زاخر موسى

مساحة رأي

٢٧: ٠٧ م +02:00 EET

الأحد ١٨ مارس ٢٠١٨

الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد
الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد

كمال زاخر
6 ـ سنوات القلق (جزء 2)

::::::::::::::::::::::::::::::::::
قبل السطور :

ليس هدفنا ان نقدم تاريخاً للكنيسة أو الأقباط، ولا نؤرخ لأشخاص بعينهم ونتعقب منهجهم، وعندما يأتى التاريخ فى سياق الطرح أو تَعبُر بنا شخوص بعينهم بحكم ارتباطهم بالطرح فلا يعنى هذا موقفاً منهم بشكل مطلق، فللتأريخ والتحليل مسارات وأدوات لا نملكها ولا نسعى إليها.

هذه السلسلة من المقالات تسعى للبحث عن جذور المواجهات الحادثة بين فرقاء العقيدة داخل الكنيسة ـ القبطية الأرثوذكسية ـ وهى مواجهات ضلت طريقها الى الفضاء الإلكترونى، لأسباب عديدة، ليست كلها شر، وصار معها ما كان يقال فى المخادع ينشر على "السطوح"، وعلى قارعة الطريق.

وهى مواجهات كاشفة لواقعنا، ليس الكنسى فقط بل الفكرى والثقافى والمجتمعى أيضاً، وفى يقينى أنها لم تأت من فراغ بل هى حلقة فى سلسلة ممتدة تتجاوز الماضى القريب أو الوسيط، لتصل بنا ربما الى النصف الأخير من القرن الخامس الميلادى، والذى شهدت فيه الكنيسة الجامعة أول مواجهات تُفضى إلى التفكك والإنقسام، وكان نصيبنا "عُزلة فرضت علينا"، وتدعمت بفعل التحولات السياسية التى حملتها العقود التالية من ذلك القرن، ليأتى القرن السابع ليترجم فوران الصراعات العقائدية إلى واقع سياسى يغير مجرى التاريخ، وتنبنى عليه التغيرات الحادة والعنيفة فى منظومات الحكم والحكام عبر القرون التالية.

واستأذنكم فى أن انقل لكم بعض من سطور كتبها الأب متى المسكين فى مذكراته، اقترب فيها من جذور الأزمة، قبل أن يصبح واحداً من أطراف معادلتها، وقد نُشرت فى كتاب "أبونا القمص متى المسكين"، الذى اصدرته مجلة مرقس بعد رحيله، ويقول فيها متعلقاً بما نطرحه :

(وهى سطور كتبت فى منتصف الأربعينيات من القرن العشرين تعليقاً على لقاء جمعه مع بعض الشباب من جيله صاروا فيما بعد من القيادات الكنسية)
::::::::::::::::::::::::

• "لقد عانى العالم كله من صراع العقائد الدينية تماماً كما عانى من صراع الأحزاب السياسية، بل لا أخرج عن الواقع كثيراً حينما أقول أن منشأ الصراع العقائدى الدينى هو منشأ سياسى دولى، لكن مصر بنوع ممتاز عانت من كلا الصراعين ولا تزال تعانى."
• "إنها عتمة العقول وضيقها وانحصارها فى أفق شخصى ورؤيا ضيقة.

عتمة فُرِضَت علينا نحن الأرثوذكس المصريين منذ مجمع خلقيدونية (سنة 451 م.) بحصار ثقافى ولغوى وحضارى. فقد فقدنا كل صلة بالعالم الخارجى، فقدنا اللغة اليونانية وهى لغة اللاهوت والفلسفة والعلم، وفقدنا معها كل امتداد فى الماضى والمستقبل، وفقدنا معها تراثنا الآبائى كله، ثم فرضنا على أنفسنا هذه العزلة بأيدينا وأحكمناها كلما شاء الله ليُخرجنا من هذا المأزق بتعصبنا، نتيجة الخوف والوحدة والعزلة الطائفية. "

• "ثم جاء غزو العرب ودخل الإسلام بعد مجمع خلقيدونية بمأتى عام ليُحكِم هذه العزلة ويُفقدنا اللغة الثانية، لغة الأم، اللغة القبطية. إذ خرج أمر من الخليفة بأن كل من يتكلم القبطية يُقطع لسانه، فانقطع لساننا بدون قطع، وانتهت اللغة القبطية، لغة الوطن والحضارة الأولى.

واستيقظ الأقباط وإذا بهم قد نسوا لغتهم الأصلية، فباتت كل مخطوطاتهم التى ملأت خزانات الكتب فى البيوت والكنائس والأديرة ـ مئات الألوف المكتوبة باليونانية والقبطية ـ بلا قيمة ولا معنى ولا أثر، كحجر رشيد الملقى على شاطئ البحر ينتظر من يترجمه لأولادها، لذلك كانوا يُفرِّطون فى بيعها لسارقى المخطوطات من الأجانب. "

• "بلغ الأقباط أقصى غاية الضعف منذ القرن السابع فما بعده وحتى اليوم. فلا تعجب أيها القارئ حينما تسمع بأننا متعصبون، إنها العزلة والخوف والجهل معاً فرضت علينا هذا التعصب الفكرى والإيمانى الذميم، وطغى علينا التعصب ـ الذى هو فى حقيقته عتمة رؤيا واننحصار فكرى ـ ليشمل ويحكم كل علاقاتنا."

• "أدركتُ ـ بعد لقاء مع بعض الإخوة وكانوا خيرة شباب جيلهم ـ أن لا فرق بين العلم والسياسة والدين، فالكل يحتاج إلى قائد أمين جداً ومتفتح جداً وحر جداً، كما يحتاج إلى تلميذ لا يبيع عقله لكل منادٍ أو يجرى وراء القطيع ليدخل أية حظيرة. وكان ألعن ما واجهت فى اختباراتى ومشاهداتى فى أيام شبابى هو رؤيتى كيف يعرض الزعيم رأيه (مدرساً كان أو زعيماً أو أمين مدارس الأحد)على مَن يتبعه فيستعبده، وكيف يبيع الشباب عقولهم ونفوسهم بسذاجة عن حماس وإخلاص وثقة لمن هم ليسوا أبداً أهلاً لهذه الثقة، وبمضى الأيام تكتشف الأجيال أنه قد غُرِّر بهم وأنها سارت وراء شخصيات تافهة أضلَّتهم الطريق وأفقدتهم الرؤيا الصحيحة ..."
::::::::::::::::::::::::

غير بعيد عن هذه النخبة كانت هناك مجموعة أخرى من الشباب سبقتهم زمنياً، يؤرقهم حال الكنيسة والأقباط، هم أيضاً يطرقون أبواب التعليم العالى، برز بينهم شاب، تخرج لتوه من الإكليريكية، ويعين مدرساً للدين المسيحى بمدرسة الأقباط بطنطا وواعظاً بكنائس وجمعيات تلك المدينة، ويصدر العديد من الإصدارات التعليمية المسيحية، فيقرر المجلس الملى نقله للعمل مدرساً بمدرسة الأقباط الكبرى بالقاهرة، ليصير ثالث أشهر وعاظ العاصمة مع القمص
فليثاؤس عوض والأستاذ حبيب جرجس زميل دراسته بالإكليريكية، والذى تولى نظارتها بعد رحيل ناظرها يوسف بك منقريوس.‏

يدرس ‏أعضاءالمجلس‏ ‏الملي‏ ‏العام‏ ‏ ‏إنشاء‏ ‏جمعية‏ ‏قبطية‏ ‏ويختارون ‏ ‏باسيلي‏ ‏لهذه‏ ‏المهمة،‏ ‏وتم‏ ‏إيفاده‏ ‏في‏ ‏بعثة‏ ‏إلي‏ ‏كلية‏ ‏"ليدز"‏ ‏اللاهوتية‏ ‏بإنجلترا‏ ‏ليدرس‏ ‏نظم‏ ‏
الجمعيات‏ ‏علي‏ ‏نفقة‏ ‏المجلس‏ ‏الملي‏ ‏لمدة‏ أربع‏ ‏سنوات، ‏وعاد‏ 1907‏ بعد‏ ‏أن‏ ‏حصل‏ ‏علي‏ ‏الدبلوم‏ ‏بتفوق‏.‏

بعد‏ ‏عودته‏ ‏فكر‏ ‏في‏ ‏تأسيس‏ ‏جمعية‏ ‏تحمل‏ ‏اسم‏ ‏الكتاب‏ ‏المقدس‏ ‏وعرض‏ ‏الفكرة‏ ‏علي‏ ‏صديقه‏ ‏حبيب جرجس، فيوافقه الرأى، ويطرحان الفكرة على عضو المجلس الملى مرقس سميكة باشا الذى يتحمس لها، لتبدأ خطوات تأسيس الجمعية ويتولى رئاستها مرقس سميكة باشا، وينضم لعضويتها حبيب جرجس وابراهيم بك تكلاً، ويُختار باسيلى سكرتيراً عاماً لها، لتبدأ نشاطها عام 1908.

لم تكن جمعية دينية حصراً بالمعنى المتداول اليوم، بل كانت جمعية مدنية (أهلية) تهتم بتكوين الشباب بشكل متكامل، فشرعت فى توفير منازل للطلبة المغتربين 1910، وابتكار ما نعرفه اليوم بالمؤتمرات الصيفية، عرفت بإسم "خيام الأصدقاء" 1912 للشباب والعائلات، تخصص لدراسة الكتاب المقدس والتأملات الروحية، تقام بضواحى القاهرة ـ وقتها ـ وعلى شاطئ النيل فى أماكن متفرقة تمتد من شبرا إلى المعادى.

ومنها تتولد "مؤتمرات الأصدقاء" 1915 وهى إجتماع سنوى يجمع كل فروع الجمعية يعقد فى القاهرة أو فى إحدى عواصم المحافظات بالتتالى.
وأسست الجمعية العديد من النوادى للشباب، يمارسون فيها هواياتهم الرياضية والفنية والأدبية والروحية، وكانت ترى أن رسالة النادى لا تقل عن رسالة الكنيسة بل وتتممها، ويتكامل معها المصيف الخاص بالأصدقاء.

وتصدر الجمعية "مجلة الأصدقاء" لتكتمل المنظومة الثقافية لها.

وما هى إلا سنوات قليلة حتى يصبح شباب هذه الجمعية نجوماً على منابر الوعظ بالكنيسة، يملكون ناصية الشرح والتفسير، بلغة عربية رصينة، ووعى مسيحى متعمق، تبدأ معه الكنيسة فى استرداد وعيها، وتظهر معهم "خدمة القرى" والكشافة وخدمة الكورال، مبكراً.

كان الأستاذ حافظ داود (القمص مرقس داود فيما بعد) ابرز أعضاء الرعيل الأول لهذه الجمعية والذى تولى إدارتها بعد الرحيل المبكر لمؤسسها، ومن يتتبع حياة الأب مرقس داود يرصد أنه كان محباً للكتاب المقدس وقد ترجم الكثير من أقوال الآباء وساهم فى اعادة التذكير بالتقليد الآبائى، وأسس كنيسة مار مرقس بشبرا.

وتمتد قيادته للجمعية من 1922 حتى 1986، وتقدم الجمعية للكنيسة جيلاً متميزاً من الخدام، منهم ابراهيم لوقا (القمص ابراهيم لوقا) المؤسس لكنائس وخدمة مصر الجديدة، ويعتبرونه البطريرك غير المتوج، والأراخنة الذين تركوا بصماتهم وأسسوا العديد من الجمعيات المدنية الأساتذة : عياد عياد، بانوب عبده، يسى عبد المسيح، شاكر خليل المعصرانى، حليم بشارة، يونان نخلة، بشارة بسطوروس، بطرس رزق الله، جيّد جندى الفيزى.

وقدمت الجمعية للكنيسة العديد من المطارنة والأساقفة والقمامصة والقسوس والرهبان والعلمانيون.

كانت جمعية الأصدقاء واحدة من طابور ممتد للجمعيات القبطية التى تعكس الدور العلمانى المبكر ـ بعيداً عن الصراعات ـ لإقالة الكنيسة من عثرتها، فى مناخ عام يشهد مداً مدنياً مؤثراً، قبل أن تأتى الرياح لتوقف هذا المد، داخل الكنيسة وخارجها، إذ يتوازى تقليص دور العلمانيين الفعلى داخلها مع محاصرة العمل المدنى خارجها، وتأميم العمل الأهلى، وتراجع الجمعيات الأهلية لتنحصر فى النشاطات الإستثمارية بنكهة دينية.

وترصد منارات الخدمة من العلمانيين المؤرخة المصرية إيريس حبيب المصرى، والتى كانت هى أيضاً واحدة من ابرز هذه المنارات وقد قدمت للمكتبة القبطية أحد أهم الكتب التى تؤرخ للكنيسة القبطية، بشكل متوازن وتحليلى مبدع، موسوعة "قصة الكنيسة القبطية".

ومع تراجع الدور العلمانى ـ الذى سنعرض لأسبابه لاحقاً ـ تعانى الكنيسة من غياب أحد جناحيها، فتتعثر قدرتها على التحليق فى أجواء التأصيل الآبائى والتواصل مع الأجيال الجديدة، فتتعمق أزمتها، وتبدأ الصراعات بين الأجنحة المتعارضة، فى غياب ذهنية التعددية والتنوع المؤسسة على القواعد المستقرة والتى اشرنا إليها سابقاً، ومن أهمها أن العلاقة بين الإكليروس والعلمانيين بحسب خبرة كنيسة الآباء هى علاقة تكاملية لا تعرف التنافسية، ولا المفاضلة. ولهذا كان الإسهاب فى رصد دور الجمعيات الأهلية ونموذجها "جمعية الأصدقاء".

لكن سنوات القلق مازالت محلاً للطرح سنواصله فى مقالات قادمة.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
حمل تطبيق الأقباط متحدون علي أندرويد