الأقباط متحدون - علي نوفل مدرس الرياضيات
  • ٠٩:٤٢
  • الاثنين , ٢٨ اغسطس ٢٠١٧
English version

علي نوفل مدرس الرياضيات

فاروق عطية

مساحة رأي

٢٦: ٠٤ م +02:00 EET

الاثنين ٢٨ اغسطس ٢٠١٧

ارشيفية
ارشيفية
فاروق عطية
   نحن الآن في بداية شهر سبتمبر وقاربنا علي بداية العام الدراسي وما يتبعه من استعداد أولياء الأمور، رغم غلاء أسعار جميع السلع الضرورية للحياة في مصرنا الحبيبة، ورغم تدني الأجور وانخفاض القيمة الشرائية للجنيه المصري، والمحاولات المستميتة للتوفيق بين الدخل الكائر ومتطلبات الحياة القاسية، لكن الأن في هذه الأيام انشغل الجميع بتوفير متطلبات الأبناء للعام الدراسي الجديد. تبيع الأم بعض القطع من مصاغها أو يطلب الأب سلفة بضمان مرتبه، أو يدخل الأب أو الأم في جمعية علي أن يحصل عليها أولا، المهم هو توفير حاجة العام الدراسي للأبناء حتي لو أدي الأمر لمبيت الوالدين بدون عشاء لشهور طويلة.
 
  والطامة الكبرى ليس في توفير متطلبات الدراسة من ملابس ومصاريب الدراسة وشراء الكتب والكراسات والأقلام وباقي المستلزمات التعليمية فقط، لكن الأهم عند ما يكون للأسرة إبن أو إبنة في شهادة عامة كالإعدادية أو الثانوية العامة، عندها لا بد من التفكير في توفير المبالغ الباهظة التي يطلبها المدرسون الخصوصون للمواد التي يحتاجها الطالب قد تكون مادة أو مادتين وأحيانا في جميع المواد، خاصة وقد فقد المعلمون في أيامنا الغبرة هذه حسهم وإحساسهم بسمو رسالتهم كمربين، وماتت ضمائرهم عن أداء الواجب المقدس، وأصبح تفكيرهم منصب في كيف يشغلون وقت الحصة الدراسية في ما لا يفيد حتي يخرج الطالب من الحصة دون الاستفادة، ويتجه تفكيره إلي الدرس الخصوصي، إضافة للسباق الرهيب بين الطلاب للحصول علي مكان في كليات القمة، ناسين أن الجميع بعد التخرج سيتساوون في البطالة ولن يجدوا أبوابا مفتوحة لهم غير أبواب المقاهي والمتنزهات لقتل وقتهم الضائع.
 
   علي أيامنا لم نكن نسمع مجرد سمع عن الدروس الخصوصية، ولم يفكر أحد فيها. كان المدرسون يقدسون رسالتهم التعليمية ويبذلون أقصي طاقاتهم لتوصيل المعلومة بطريقة سهلة وشيقة للطلاب خلال الحصة. وبعد انتهاء حصصهم اليومية لا يغادرون المدرسة، بل يظلون في غرفة المدرسين ربما يحتاجهم طالب لتوضيح أو شرح معلومة غمضت عليه. وإذا احتاج طالب وذلك نادر الحدوث لدرس خصوصي يذهب للمدرس متخفيا حتي لا يلحظه زميل من الأتراب فيفشي سره ويلقب بالبليد.
 
   في العام الدراسي 1951/1952م كنت في الصف الثاني الثانوي (ثانية أول). أتذكر من مدرسينا الأفاضل الأستاذ الشيخ عبد الله (أزهري) مدرس اللغة العربية، والأستاذ شوقي ناشد مدرس اللغة الإنجليزية، وميسيوه بوسار مدرس اللغة الفرنسية، والأستاذ كمال صبحي مدري العلوم (كيمياء وفيزياء)، والأستاذ إبراهيم وصفي مدرس الأحياء، والأستاذ علي نوفل مدرس الرياضيات، والأستاذ قوسا مينا مدرس التاريخ والجغرافيا، أطال الله عمر الأحياء منهم وتغمّد الله برحمته من توفاه منهم. كان معظمهم من نفس المدينة (طهطا) ما عدا الأستاذين إبراهيم وصفي وعلي نوفل، أولهما من دمنهور وثانيهما من طنطا.
 
   كان الأستاذ علي نوفل متميزا في شرحه، مرحا في توجيهاته، يشعرك أنك صديقه وليس طالبا يتلقي العلم منه. كان يقول لنا عند نهاية الحصة: أرجوكم من منكم يريد الاستفسار أو السؤال أو استعصي عليه حل مسألة، إنا موجود بغرفة المدرسين حتي نهاية اليوم الدراسي، وحتي وأنتم تذاكرون في بيوتكم من منكم لم يستطع حلّ أي مسألة يكتبها في ورقة ويأتي بها في اليوم التالي ويعطينيها في حجرة المدرسين، ومن يرغب منكم أن يأتي لأحلها له في منزلي أهلا وسهلا به في أي وقت علي الرحب والسعة.
 
   كان حبي للمواد الدراسية ينبثق من حبي لمدرس المادة، بمعني أن المدرس المتعاطف والودود يجعلك تحب مادته أما المدرس المتعالي أو المتعجرف يجعلك تكره مادته. والحمد لله كان معظم مدرسينا ودودون ومتعاطفون معنا وكان هذا سببا كافيا لخلق تنافس شريف بيننا كزملاء للتفوق والحصول علي أعلي الدرجات. كانت مسائل الهندسة والجبر وحساب المثلتات من أحب المواد الدراسية لدي وكنت أفضل مذاكرتها وحل مسائلها علي سبورة كبيرة باستخدام الطباشير الملون، وكنا نتجمع إثنين من الزملاء وأنا في منزلنا أو منزل أي منهما للمذاكرة وتبادل المعلومات.
 
   ذات يوم أتي أحد صديقي بمسألة في حساب المثلثات وجدها في كتاب (خارج كتب الوزارة) به نماذج للإمتحانات. تبارينا ثلاثتنا في محاولة حلها وللأسف فشلنا. وكان من طبعي ألا أستطيع النوم إذا استعصي علي أمر من الأمور وأظل أفكر فيه. قلت لزميليّ لا حل أمامي غير الذهاب لمنزل الأستاذ علي نوفل لمساعدتي في حل المسألة. حاول الزميلين معارضتي ومنعي عن ذلك بحجة أن الوقت متأخر (كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل)، وحبّذا أن نكتب المسأله ونعطيها له في غرفة المدرسين وعند حضوره للحصة يحلها لنا. لكني أصررت علي موقفي وتوجهت إلي منزل أستاذي ودققت الباب. بعد لحظات فتح الأستاذ لي وهو بملابس النوم، فاستشغرت الحرج، وبادرته بالاعتذار عن قدومي في هذا الوقت المتأخر، فابتسم لي مرحبا وأصر علي دخولي. عرضت عليه المسألة فأحضر ورقة وقلما وقام بحل المسألة مع الشرح الوافي لطريقة الحل وهو في قمة السعادة والمرح.
   في اليوم التالي وفي حصته، بدأ الحصة بشكره لي وتقديره أنني حضرت له لكي يساعدني في حلّ مسألة صعبة قائلا أن هذا السلوك يدلّ علي احترامي للمادة وحبي لها، وأنه يقدر ذلك ويثمنه، وطالب الجميع بأن يقتدوا بي ولا يتوانوا في أي وقت من الأوقات عن طرق بابه للمساعدة، وأن ذلك يفرحه ويزيد من متعته كمدرس ويشعره بمدي تفضيل طلابه لمادته، ثم قام بكتابة المسألة علي السبورة وطلب من الزملاء محاولة حلها، وعندما عجز الجميع قام بتبسيطها وشرح طريقة حلها.
 
   في يوم أخر كنا نذاكر مادة الفيزياء، وقفنا عند نظرية الكم (كوانتم ثيوري) ووجدنا صعوبة في فهمها، فاقترحت أن نذهب لبيت الأستاذ كمال صبحي ليشرحها لنا خاصة وكانت الساعة الثامنة مساءا وهو وقت مناسب. كان بيت أستاذنا هذا يقع في منطقة الخور بساحل طهطا. ويقع ساحل طهطا شرق البلد ويفصل بيتهما مزلقان خط السكك الحديدية. ولحظّنا السيئ كان قطار بضائع يقف علي الخط وطوله لا يقل عن عشرات العربات وبالتالي كان المزلقان مغلق، ولا يوجد كوبري علوي أو نفق للعبور. وقفنا في انتظار تحرك القطار قرابة نصف ساعة ولكنه لم يتحرك، واقترح أحد الزملاء أن نعبر مرورا من أسفل القطار، حذرناه من مغبّة ذلك لكنه أصر وكان أولنا. وبمجرد ولوجه تحت القطار بدأ القطار في الحركة وكان نصف صديقنا بين القضبان ونصفه الآخر خارجها، أغمضت عينيّ خوفا وهلعا علي صديقي وصرخت محذرا إياه، وأفقت من نومي وأنا أنهج بشدة أتصبب عرقا.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
حمل تطبيق الأقباط متحدون علي أندرويد