الأقباط متحدون - سامحنا يا «صلاح»
  • ١٢:٠٤
  • الثلاثاء , ١٥ اغسطس ٢٠١٧
English version

سامحنا يا «صلاح»

مقالات مختارة | خالد منتصر

٢٨: ١٠ ص +02:00 EET

الثلاثاء ١٥ اغسطس ٢٠١٧

خالد منتصر
خالد منتصر

«ينبئنى شتاء هذا العام أننى أموت وحدى/ ذات شتاء مثله ذات شتاء/ينبئنى هذا المساء أننى أموت وحدى/ ذات مساء مثله ذات مساء/ وأن أعوامى التى مضت كانت هباء/ وأننى أقيم فى العراء/ ينبئنى شتاء هذا العام أن هيكلى مريض/ وأن أنفاسى شوك/ وأن كل خطوة فى وسطها مغامرة/ وقد أموت قبل أن تلحق رجل رجلاً/ فى زحمة المدينة المنهمرة».. إنها المرة الوحيدة التى لم يَصدُق فيها حَدْس الشاعر صلاح عبدالصبور، فهو لم يمت فى الشتاء بل مات فى أقسى شهور الصيف، بالضبط فى 14 أغسطس 1981 وهو ما زال يطرق أبواب الخمسين (مولود فى 3 مايو 1931)، مات بالفعل فى المساء، ولكنه لم يكن وحده، بل كان وسط أصدقائه المثقفين، رماه أحدهم بكلمة طائشة، «لفظ قاتل/ لفظ ذو ألف يد تلتف على عنقى/ ذو ألف لسان تنفث سماً/ أو لفظ يردينى..لا قطرة دم/ والسكين الألفاظ تشق اللحم/ وأظل أسائل ماذا تعنى فى خاطرك الألفاظ / ألفاظ قاتلة فى رفق.. خالصة الكفين من الدم/ أشياء تافهة هى عندك.. ألفاظ»، لم يحتمل وأسلم الروح، اتهمه صديقه رسام الكاريكاتير بأنه «باع نفسه بمليم»، لأن إسرائيل اشتركت فى معرض الكتاب الذى تشرف عليه الهيئة التى يترأسها، خمدت جذوة عينيه الواسعتين وهما تطلان على ملامح المشهد الدموى العبثى الذى يتحول فيه المثقف إلى بومة تنهش أحشاء صديق رقيق، كانت كل جريمته أنه إنسان لم يدّعِ قط النبوة، تنهش محجر العينين الحزينتين كأمهات الصعيد، الصافيتين كبسمة طفل، الحنونتين كحضن أم، تستلذ بطعم الفم الذى ما كان ينشد إلا للحق والخير والجمال، وتلتهم فتات القلب الذى انكسر عندما انكسر الوطن، فلم يعد ينبض إلا بالألم، حاصرته الاتهامات كالرصاص الطائش، فذبح من الوريد إلى الوريد، فكان بحق شهيد قسوة المثقفين الباطشة الجاهلة، كما كان حبيبه «الحلاج» شهيد قسوة السلطة الغاشمة الجاهلة، «فمضى كما يمضى ملاك/ وتكورت أضلاعه، ساقاه فى ركن هناك/ حتى ينام/ من بعد أن ألقى السلام»، لم تكن تلك المرة الأولى التى يهاجمه فيها بعض المثقفين الذين لا يعرفون معنى التسامح وقبول الآخر، خاصة مبدعاً وفناناً فى حجم صلاح عبدالصبور، طلبوا منه أن يكون «جيفارا» فى زمن غير الزمن، وفى وطن يتسول فيه الشاعر الحقيقى كسرة الخبز!.

لم يهمنى أن يكون صلاح عبدالصبور جيفارا، بل كل ما همّنى هو أنه أول من ذرفتُ الدمع الحقيقى على عتبة قصيدته «أحلام الفارس القديم»، وأول من ضحكت معه على عبثية رحلتى ومصيرى فى «مسافر ليل»، وأول من شعرت حياله بتفاهة آلامى وضآلة أحلامى حين جسد لى صلب الحلاج بكلماته، كان هذا الشاعر والرجل الجميل الذى نسج لنا بكلماته كل هذا البناء الشعرى العبقرى ضحية سلوكيات المثقفين التى تغلب عليها الانتهازية أحياناً، وعشق الإيلام أحياناً أخرى، والحقد والغيرة دائماً، ودّعنا «صلاح» بعد أن ترك أمام ديارنا تلك الباقة من الحب، وتلك الرغبة فى نشر الخير، وتلك اللمسة الحانية الحاضنة، وتلك البسمة الطيبة المشجعة، وها نحن نتساءل: «هل سامحَنا صلاح؟ هل صفح عنا؟، أم ما زال قلبه ينزف وصوته يتهدج وأنفاسه تختنق وحنجرته تصرخ رافضة التصديق؟»، للأسف، كان «صلاح» رجلاً عظيماً يتأمل فى زمن جريح «كان يريد أن يرى النظام فى الفوضى/ وأن يرى الجمال فى النظام/ وكان نادر الكلام/ كأنه يبصر بين كل لفظتين/ أكذوبة ميتة يخاف أن يبعثها كلامه/ ناشرة الفودين مرخاة الزمام/ وكان فى المسا يطيل صحبة النجوم/ ليبصر الخيط الذى يلمها/ مختبئاً خلف الغيوم/ ثم ينادى الله قبل أن ينام/ الله هب لى المقلة التى ترى/ خلف تشتت الشكول والصور/ تغير الألوان والظلال/ خلف اشتباه الوهم والمجاز والخيال/ وخلف ما تسدله الشمس على الدنيا/ وما ينسجه القمر/ حقائق الأشياء والأحوال».
نقلا عن الوطن

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع