الأقباط متحدون - عن انقاذ الصحافة الورقية !
  • ١٤:٤٠
  • السبت , ١٢ اغسطس ٢٠١٧
English version

عن انقاذ الصحافة الورقية !

مقالات مختارة | أسامة الرحيمي

٢٤: ٠١ م +02:00 EET

السبت ١٢ اغسطس ٢٠١٧

أسامة الرحيمي
أسامة الرحيمي

أسامة الرحيمي
كثيرون يظنون أن اختفاء «الصحافة الورقية» وشيك. كأنهم بصدد تجهيز جِنازتها. ويستندون في ظنِّهم هذا إلى التقدم التقني فائق السرعة، الذي يُسهِّل نقل الأخبار بغزارة عبر وسائط تكنولوجية، كمواقع النت، والفضائيات، وتطور الأجهزة الإلكترونية بوتيرة لا نهائية، مع أن التقدم التكنولوجي في التجارب التاريخية المشابهة حافظ على تجاور الجديد مع القديم، من دون إهدار أي منجز سابق.

وبالرغم من ذلك يرى أولئك البعض الصحف الورقية «موديلا متهالكاً»، نهايته محتومة، ومما أعلا صوتهم توقف الصحيفة الأمريكية الشهيرة «كريستيان ساينس منويتور» في 2009، وبعدها «الاندبدنت» البريطانية بإصداريها اليومي والأسبوعي في مارس 2017، وبعدهما «السفير» اللبنانية، التي وصفها البعض بأنها ليست أزمة صحافة، ولا صراعا بين الورقي والإلكتروني، ولا بسبب إنصراف القراء، بل مشكلة إدارة وتمويل، وهو ما تعانيه جريدة «النهار» أيضا وفق ما يتناهي إلينا من أخبار.

والحقيقة أن تفاعل القائمين على «الصحافة الورقية» مع المتغيرات الهائلة بسرعة ملائمة هزيل، وبعضهم يعتقد أن «تراجع التوزيع» الفادح يرجع لخطأ من القراء، وهذا يشجعهم على مراقبة المشهد بحياد من رأى شخصا يسقط من أعلى ناطحة سحاب، وظل يطمئن نفسه بأنه «ما يزال على قيد الحياة» كلما تجاوز طابقا من البناية باتجاه الهاوية.

والأرجح عندي أن كل تقاليد الصحافة الورقية المتوارثة هذه، ستتلاشى لا لصالح الصحافة الإلكترونية فقط كما يردد المستسهلين، بل لمصلحة «صحافة ورقية جديدة بديلة»، تتحسس طريقها إلى «وجدان القارئ الجديد»، إبن تكنولوجيا التطور. واعتقادي أن هذه التكنولوجيا الهائلة لن تخطف الإنسان على نحو كامل، لأنه بطبيعته يحب أن تظل في الحياة لمسات من صنعه، ليس تخوفا من انفراد الآلة بالحضارة الإنسانية، ففي المجتمعات المتقدمة التي تعتمد التكنولوجيا بكافة تفاصيل المعيشة، ما يزال الإنسان يحنّ إلى «الهاند ميد»، ليس احتفاء ببدائية داخله، بل إكبارا لحميمية «التعب والكدّ بالمفهوم التقليدي»، والصحافة الورقية تمنحه هذا الإيحاء بمواجهة الشاشات المهيمنة، على أهميتها القصوى الآن!.

ويجب التذكير بتكرار ظاهرة «خطر الجديد على القديم» عبر التاريخ، فحين ظهرت السينما، تخوف الناس على المسرح، وترحموا على الصحف مع انتشار الإذاعات، وأرعبهم ظهور التلفزيون على كل الوسائل السابقة، وحين استشرى النت، قالوا سيقضي عليها مجتمعة، والحقيقة أنها ما زالت كلها متجاورة، وفاعلة، وإن تباينت نسب تأثيرها، والإقبال عليها، لكننا ما زلنا نرى شباب التكنولوجيا يرتادون المسارح، ودور السينما، بل إن كثرة منهم يحبون الغناء القديم، وآخرون تبهرهم صور «صندوق الدنيا» إلى الآن. وبدلا من التناحر، أو الإقصاء نقلت الصحافة الورقية أخبار السينما والإذاعة والتلفزيون بسلاسة إلى الجمهور، طيلة عقود متوالية، كما تتبادل المنفعة الآن مع الإنترنت، تأخذ عنه، وتعطيه بإيجابية مباشرة ومُبشِّرة.

إذن فلم يكن تعثُّر الصحف، وتوقُف بعضها تماما بسبب التقدم التكنولوجي، وانتشار الفضائيات، بدليل أن دولة متقدمة مثل اليابان، تبلغ نسبة توزيع الصحف الورقية فيها عشرة ملايين نسخة يوميا إلى الآن. وهذا يوجب على مسؤولي الصحافة الورقية دراسة ضعف المواد المنشورة، ومراجعة مصداقيتها، لأن القارئ في النهاية يحب من يحترم عقليته ومعرفته، وينصرف بسهولة عمن يستخف به، خاصة من يتحاشى الحقائق. وهنا تبرز حرية النشر كقيمة كبرى، وتذكرنا بمقولة الأديب الكبير الراحل «يوسف إدريس»: «كل الحريات المتاحة في الوطن العربي لا تكفي كاتبا واحدا». وقصدي أن حرية الانتقاد تؤكد قيمة مقالات الرأي، ونشر الحقائق ضرورة للحكومات، لأنها بمثابة الضمير الذي يُقوّم سلوك صاحبه، ويراجعه نشداناً للأحْكَم، فإذا فعلنا هذا سيجد ملايين القراء صحفا تُعبِّر عنهم بصدق، فيقبلون عليها مجددا.

وربما يوضح هذا أكثر إجمالي توزيع الصحف الورقية المصرية الآن، الذي لا يتجاوز ثلاثمائة ألف نسخة، أي أقل من ثُلث ما كانت توزعه «الأهرام» وحدها قبل سنوات قليلة، وأقل من ربع ما كانت توزعه «الأخبار» مثلا في عهد «إحسان عبد القدوس»، ويذكر أنه احتفل وهو رئيس مجلس إدارتها، بوصول التوزيع إلى «مليون وربع مليون نسخة في اليوم»، أيام كانت مصر40 مليون نسمة تقريبا، بينما تعدادنا الآن يقارب المائة مليون نسمة. فهل حدث هذا التراجع المؤلم في التوزيع بسبب التقدم التكنولوجي فقط أم بسبب ضعف الأداء والمصداقية؟!.

ومع كل هذا يمكن للصحف الورقية أن تنهض مجددا، وتسترد مكانتها لدى القراء ببعض تغييرات حتمية في رؤاها التحريرية، حتى لو تمسكت وجاهرت بتوجهاتها السياسية، وهو أمر مشروع، فطبيعي أن تنحاز الصحف الحكومية والحزبية والخاصة لمُلَّاكها، لكنها بجانب هذا عليها أن تنتصر للحقيقة، وتراعي حاجات القارئ، ومتعته أيضا، فهذا «الملول الشارد» لن يعود إلا إذا وجد ما يحبه، وإرضاءه ممكن جدا بقليل من الجهد، وظني أن عُشر مجتمعنا على الأقل يمتلك قدرة مالية على شراء الصحف والمجلات المهمة دون إرهاق لميزانيات البيوت، وهذا العُشر يهتم بالفنون والرياضة والأدب والمنوعات عادة، لذا يجب المراهنة عليه باطمئنان، وبالصدق، وتنويع الموضوعات، لأن قطاعات من تلك الفئات ما زالت تُفضِّل الورق على الهواتف والأجهزة. بل ربما يحب بعضهم ملمس الورق، ورائحة الحبر، من باب الارتباط حتى بالميل لـ«الهاند ميد» الذي أشرنا إليه.

ومنطقي أن تبادر الصحف الورقية بنقل «المنافسة الخبرية» إلى مواقعها بعدما أصبحت هناك آلاف المواقع الخبرية والفضائيات التي تحرق الأخبار ثانية بثانية، ما يستوجب استبدال فكرة السبق ببث الخبر في حينه بلا لهاث، فلم يعد مفيدا لأحد غير الوكالات الكبرى المهيمنة على مصادر الأخبار.
ما يعني أن التنافس هنا لم يعد خبرياً، ولا في التقارير التي يمكن تجميعها من عدة أخبار متشابكة، وصناعة «قصة» كما روَّجت وكالات الصحافة العالمية لعقود متصلة، بل صناعة الموضوعات الخاصة بكل جريدة، أي أن المستقبل يمكن أن يعيد لـ «صحافة الموضوعات» حيويتها، أي تكسب الصحف طابع المجلات، لكن برشاقة الأخبار وسرعتها، أي تشجع الصحف محرريها على صناعة موضوعاتها الخاصة، التي لا تشبه أي إصدار آخر، وتختط لنفسها سياقاً تتفرد فيه بلا منازعة، وهذا ممكن تحقيقه بسهولة في كافة أقسام الجرائد، وحتى السياسة، والصفحات الأولى يمكن كتابتها بطرق مختلفة تماما حتى لو كانت مجرد أخبار معروفة، ويمكن أن تحرث التحقيقات البلاد جيئة وذهابا لمعالجة كل القضايا المتصلة بهموم الناس، وبأساليب أقرب للأدبية إن شئنا التجديد، ويصبح خبر الجريمة قصة وامضة موحية، والاقتصاد يكون تقاريرا عميقة وواضحة وصادقة لا خداع فيها، والمنوعات مبهجة، والثقافة مفيدة وممتعة، ليكون رهان الصحف على قيمة ما تقدمه وطريقة صياغته، والأثر المتبقي له بذهن المتلقين ما يعني بطلان «الثرثرة الصحفية»، وعدم أهمية تجميع الأخبار في تقارير وتحليلات، بل تقديم المحتوى الجيد الممتع، والاعتناء بالحقائق والمعلومات الدقيقة لاجتذاب «قارئ المصداقية» المتزايد. فيما يبدو تجسيدا للمقولة القديمة «الصدق منجاة».

وربما هذا ما دفع صحيفة «الجارديان» البريطانية التي جاوز عمرها 180 عاماً، للاهتمام الفائق بموقعها الإلكتروني، ومناقشة مجلس تحريرها محتوياته في اجتماعه اليومي قبل مطبوعته الورقية، لجمع الحُسنيّين، والتفاعل مع الجمهور الجديد، واحترام القراء القدامي من محبي ملمس الورق ورائحة الحبر، ومفضلي «براح الورق» على «مزانق الشاشات».

ويؤكد صحة هذا. الأخبار التي تفيد بأن رئيس الأمازون اشترى صحيفة «واشطن بوست» الورقية لتكون عمقاً اجتماعياً لنشاط مؤسسته، بعدما قال هو نفسه قبل هذه الصفقة بفترة «إن الصحافة الورقية ستنتهي خلال عشرين سنة». كما أن «فيس بوك» أكبر موقع تواصل اجتماعي على كوكب الأرض، وأكثرها انتشاراً بين البشر الآن، عن نيته بإطلاق صحيفة ورقية، ما يعني بشكل مباشر أن ثمة صيغة توفيقية بين الاثنين، فالإلكتروني يمكن أن يكون ظهيراً للورقي ويوسع إنتشاره، بالحفاظ على تدفق الخبري لحظة بلحظة على المواقع، والاكتفاء بالموضوعات الجميلة العميقة، والمتصلة بشكل ما بالخبري، على أن تكون تلك الموضوعات حمَّالة قيم، وتمنح الورقي قيمة مضافة ربما ليست موكولة للإلكتروني، وهي صيغة يجب أن «تعافر» كافة الصحف من أجل التوصل إليها بأفضل طريقة.

ومن جانب آخر مهم. تتصرف الحكومات حول العالم كأنها غير معنية بأزمة الصحافة الورقية، مع أن الحكومات أحوج الجهات للصحافة من عموم الناس. لأن الورقية ظلت لقرنين من أدوات الدول، التي تضمن لها توجيه الرأي والوجدان العام، وتجاهلها على هذا النحو السلبي سيلحق بالدول والمجتمعات خسائر أكبر من تصورها، وعليها أن تهب لنجدة الصحف الورقية مالياً ولوجستياً لتُقيلها من عثراتها بأسرع ما يمكنها.

وأذكر هنا مقولة موحية للراحل الكبير «مصطفى شردي» رئيس تحرير جريدة الوفد عن معشوقته الصحافة: «حبيبة القلب عطرها حبر وورق». وهذه برأيي ليست رومانسية غافلة عن الواقع، طالما الفرصة متاحة لاستدراك الأمور، والتوفيق بين «حميمية الورقي» و«سطوة الإلكتروني».

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع