الأقباط متحدون - تجاعيد الروح والانتحار فى يوليو
  • ١١:٢٦
  • الاثنين , ٣١ يوليو ٢٠١٧
English version

تجاعيد الروح والانتحار فى يوليو

مقالات مختارة | بقلم : خالد منتصر

٢١: ١٠ م +02:00 EET

الاثنين ٣١ يوليو ٢٠١٧

خالد منتصر
خالد منتصر

 وأنا أودع شهر يوليو الذى سخر منه أهل «الفيس بوك»، وقالوا إنه شهر طويل ممل، تذكرت وداع «فنسنت فان جوخ» للحياة التى اعتبرها هو أيضاً طويلة مملة خانقة فى نهاية يوليو 1890، انتحر بأن أطلق النار على صدره، ما بين أصفر الشمس الحارق الكاوى، وأصفر القمح الذهبى اللامع، ظل ينزف يومين حتى مات فى حجرته المتواضعة، مات يحتضنه شقيقه المخلص «ثيو»، اليد الحانية الوحيدة فى هذا الكون التى حنت عليه واعترفت به، لم يتحمّل فراقه، فمات هو الآخر بعد ستة أشهر، كنت قد شاهدت فيلماً قصيراً عن حياته فى متحفه الصغير فى قرية «نيونن» التى عاش فيها مع عائلته سنتين، ومع المرأة الوحيدة التى أحبته وخسر حبها، الفيلم ينتهى بمشهد قبر «فان جوخ» إلى جوار قبر «ثيو» وسط الزهور التى كان يعشقها «فنسنت»، فى هذه القرية التى خلدته بإطلاق اسمه على المطاعم والمحلات والمكتبات والمدارس.. إلخ، يفتحون متحفه للأطفال يوم انتحاره مجاناً، وكل طفل يصارع ورقته البيضاء ويستنطقها بخطوط «فان جوخ» المقلدة، تجد إحساس الذنب قد تحول إلى حفل احتفاء، فلقد كان أهل القرية يتعاملون معه بتوجس وريبة وأحياناً بعدوانية لغرابة أطواره وانغماسه فى الرسم فى الحقول وبيوت النساجين أصحاب الأنوال والفلاحين آكلى البطاطس بحماس جنونى، اعتذروا لهذا الفنان البائس الذى ظل يتسول طوال حياته من شقيقه، اعتذروا، لكن بعد فوات الأوان، بعد أن رحل منتحراً، كان قد كتب خطاباً مؤثراً إلى شقيقه «ثيو» قبل رحيله يقول فيه:

 
«عزيزى ثيو: إلى أين تمضى الحياة بى؟ ما الذى يصنعه العقل بنا؟ إنه يُفقد الأشياء بهجتها ويقودنا نحو الكآبة، إننى أتعفن مللاً لولا ريشتى وألوانى هذه، أعيد بها خلق الأشياء من جديد.. كل الأشياء تغدو باردة وباهتة بعدما يطؤها الزمن، ماذا أصنع؟، أريد أن أبتكر خطوطاً وألواناً جديدة، غير تلك التى يتعثر بصرنا بها كل يوم، كل الألوان القديمة لها بريق حزين فى قلبى، هل هى كذلك فى الطبيعة أم أن عينى مريضتان؟، ها أنا أعيد رسمها كما أقدح النار الكامنة فيها، فى قلب المأساة ثمة خطوط من البهجة أريد لألوانى أن تظهرها، فى حقول «الغربان» وسنابل القمح بأعناقها الملوية، وحتى (حذاء الفلاح) الذى يرشح بؤساً.. ثمة فرح ما أريد أن أقبض عليه بواسطة اللون والحركة، للأشياء القبيحة خصوصية فنية قد لا نجدها فى الأشياء الجميلة، وعين الفنان لا تخطئ ذلك، اليوم رسمت صورتى الشخصية.. ففى كل صباح، عندما أنظر إلى المرآة أقول لنفسى: أيها الوجه المكرر، يا وجه فانسان القبيح، لماذا لا تتجدد؟ أبصق فى المرآة وأخرج، واليوم قمت بتشكيل وجهى من جديد، لا كما أرادته الطبيعة، بل كما أريده أن يكون، عينان ذئبيتان بلا قرار، وجه أخضر ولحية كألسنة النار، كانت الأذن فى اللوحة ناشزة، لا حاجة بى إليها، أمسكت الريشة، أقصد موس الحلاقة وأزلتها، يظهر أن الأمر اختلط علىّ، بين رأسى خارج اللوحة وداخلها.. حسناً ماذا سأفعل بتلك الكتلة اللحمية؟، أرسلتها إلى المرأة التى لم تعرف قيمتى وظننت أننى أحبها.. لا بأس فلتجتمع الزوائد مع بعضها.. إليكِ أذنى أيتها المرأة الثرثارة، تحدّثى إليها.. الآن أستطيع أن أسمع وأرى بأصابعى. بل إن إصبعى السادس «الريشة» لتستطيع أكثر من ذلك: إنها ترقص وتداعب بشرة اللوحة. أجلس متأملاً: لقد شاخ العالم وكثرت تجاعيده وبدأ وجه اللوحة يسترخى أكثر.. آه يا إلهى، ماذا باستطاعتى أن أفعل قبل أن يهبط الليل فوق برج الروح؟، أريد أن أعيد الأشياء إلى عفويتها، كما لو أن العالم قد خرج تواً من بيضته الكونية الأولى.
 
أمس، رسمت زهوراً بلون الطين بعدما زرعت نفسى فى التراب، وكانت السنابل خضراء وصفراء تنمو على مساحة رأسى، وغربان الذاكرة تطير بلا هواء، سنابل قمح وغربان، غربان وقمح، الغربان تنقر فى دماغى، كل شىء حلم، هباء أحلام، وريشة التراب تخدعنا فى كل حين، قريباً سأعيد أمانة التراب، وأطلق العصفور من صدرى نحو بلاد الشمس، سأفتح لك القفص بهذا المسدس، القرمزى يسيل، دم أم النار؟، غليونى يشتعل، الأسود والأبيض يلونان الحياة بالرمادى، التبغ يحترق والحياة تتسرب، للرماد طعم مر، بالعادة نألفه، ثم ندمنه، كالحياة تماماً.. كلما تقدم العمر بنا غدونا أكثر تعلقاً بها، لأجل ذلك أغادرها فى أوج اشتعالى، لكن لماذا؟.. إنه الإخفاق مرة أخرى. لن ينتهى البؤس أبداً، وداعاً يا ثيو، سأغادر نحو الربيع».
نقلا عن الوطن
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع