الأقباط متحدون - كيف سمحت بالدم... وأنت كريم!
  • ٠٣:٢٣
  • الاثنين , ٢٩ مايو ٢٠١٧
English version

كيف سمحت بالدم... وأنت كريم!

مقالات مختارة | فاطمة ناعوت

١٤: ٠٩ ص +02:00 EET

الاثنين ٢٩ مايو ٢٠١٧

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

فى كل عام قبل أن تطرقَ أبوابَنا بيدك، كنتُ أستقبلُكَ بقصيدة أنثرُ فيها تحت قدميك نُثارَ الفرح، وأجدّدُ الرهانَ عليك أن تُرقّق قلوبَنا فنصيرُ أجملَ. ألستَ أنت «الكريم» كما نسمّيك؟ فلماذا سمحتَ بأن تُهرَقَ الدماءُ البريئةُ عند عتبة دخولك علينا؟ كيف سمحتَ بأن يصرخ الأطفالُ تحت وابل الرصاص عشيةَ مجيئك، دون أن تذودَ عنهم وتدفع شبحَ الموت بعيدًا عن قلوبهم الصغيرة؟! أولئك الأطفالُ الذين غُدِروا برصاص البغضة، فيهم من علّق الزينةَ الملوّنة فى الشوارع، والفوانيسَ على نواصى البيوت فرحًا بك، وتحيةً لك. فكيف قبلتَ أن يصعدوا للسماء قبل أن يذوقوا تمرَك، ويوقدوا شمعَك، ويحملوا فوانيسكَ؟

«صباح الخير على عيونكم يا أقباط مصر الرائعين. أنا عارفة إنكم هاتقولوا لولادكم ينزلوا يعملوا زينة رمضان  مع إخواتهم المسلمين زى كل سنة ويملوا الشوارع بالفوانيس الملونة والزينة والفرح. أنا واثقة إنكم مش هاتسمحوا لشوية مساكين تعساء يفرقوا بيننا ويهدموا ميراث ضخم من الوحدة وتاريخ رائع من الحب بنيناه سوا من قديم الزمان عشناه مع بعض ع الحلوة والمرّة. كل سنة وإحنا أطيب وأجمل، ونعيش نتعلم منكم ومعاكم السلام والوطنية والمحبة. رمضان  جميل عليكى يا مصر الحلوة».

لم أكن أعلم أن كارثةً جديدة تلوح فى الأفق على مرمى ساعاتٍ من تلك الكلمات التى كنتُ أراهن فيها على أن نسيجنا المصريَّ عصيٌّ على التمزّق. يومها، أخبرنى الأصدقاءُ المسيحيون على صفحتى أن زينة رمضان  قد عُلِّقت بالفعل. علّقوها مع جيرانهم المسلمين كالعادة كل عام، وشدوّا خيوط الفوانيس فى شُرفاتهم، ككل عام، واشتروا الشموع لفوانيس أطفال الحيّ ككل عام. قالوا لى: «لا شىء يفرّق بيننا ولا الموت. فنحن جسدٌ واحد، اسمه الجسدُ المصرى، ومهما ضربت الميكروباتُ ذلك الجسد الشريف، لا تنالُ منه لأن القلبَ حيٌّ لا يموت».

لكن وابلَ الرصاص الذى ضرب نحور الأطفال عشيةَ غُرّتك، يوم الجمعة الماضى، أسالت الدماء غزيرةً، فجعلت شموع الفوانيس لا توقد. فلماذا سمحت بهذا أيها الشهرُ الكريم الذى ينتظرك فى مصر المسيحيُّ والمسلم؟!

فى مقالاتى وقصائدى أسميتُكَ: «شهرَ الفرح»، وأسميتُك «كونشرتو اسمه رمضان». قلتُ إن العارفين يقولون إن مَن لم يحضر شِطرًا من شهر رمضانفى مصر، فقد فاته الشىءُ الكثير. فهو شهرٌ لا يشبه أيَّ شهر آخر يمرُّ على مصر، ولا يشبهه أيُّ رمضانآخر يجولُ فى العالم. هذا الشهر الكريم يخرج عن كونه شهرًا دينيًّا، ليتحول إلى سيمفونية احتفال بالحياة. يتبارى فيه الأطفالُ والشيوخُ، وما بينهما من أعمار، ليجعلوا منه كونشرتو شعبيًّا يعزف الأوركسترا فيه سونتات فرح وولائم وزينات وأنوار وألوان وتزاوُر وصلات رحم وسهراتٍ لا يعرفها إلا رمضان. لا تكاد تعرف فيه المسلمَ عن غير المسلم. لأن المصريين على كافة عقائدهم وألوانهم وطبقاتهم المادية والاجتماعية والتعليمية يتسابقون فى رسم الفرح على الوجوه وعلى جدران الأبنية وسماوات الشوارع والأزقة والميادين. يتفق المسلمون، وغيرُ المسلمين، على أن لرمضانَ فى مصرَ طعمًا مميزًا، ونكهةً لا مثيلَ لها فى أى دولة أخرى. ما السبب؟ إنه سرُّ المصريين الخاص منذ آلاف السنين، قبل نزول الرسالات. تعويذةٌ تصبغُ الأشياءَ بلون مصر، وتسبغُ على الأيام طعمَ النيل. إنها فرادةُ المصريين فى صناعة الفرح، وامتلاكهم مَلَكةَ «الاحتفال». المناسباتُ الدينية لدينا هى مناسبةٌ للحياة. فتلتقى السماءُ والأرضُ فى قطعة موسيقية بديعة، ليست تشبه المقطوعاتِ السماويةَ الخالصة، ولا المعزوفات الأرضية الخالصة. مزيجٌ فريد. فقط فى مصرَ، يأتيك من السماء، صوتُ سيد النقشبندى عند الفجر يشدو: «قُلْ اِدعُ اللهَ، أو اِدعُ الرحمنَ، أيًّا ما تدعوه فله الأسماءُ الحُسنى»، ثم يأتيك عند المغرب شجوُ محمد رفعت مؤذّنًا؛ فلا تُخطئُ صوتَه بين ألف صوت عداه. تخرج، فتجد الشوارعَ غارقةً فى اللون والضوء والصَّخب. فكأنك فى عيد قوامُه ثلاثون ليلةً متّصلات، ليغدو أطولَ عيد فى التاريخ. الناسُ فى بلادى ساهرون لا يعرفون النومَ فى ليالى رمضان. يتجاوزون الفجرَ، وينتظرون حتى ينسلَّ الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسود. هو الشهرُ الذى لن تميّز فيه المسلمَ من المسيحيّ. فالكلُّ يحتفل؛ كأنه شهرٌ مصريٌّ، وليس دينيًّا وحسب. المسيحيُّ يصوم مع المسلم؛ لأنه يؤمن أنه لا يليق أن يشبعَ وأخوه جائع. وإن باغته أذانُ المغرب وهو فى الطريق، سيجد الصِّبيةَ والصبايا يستوقفونه على رؤوس الشوارع وتقاطعات الميادين مبتسمين يلوّحون له بالخير. يفتح نافذة سيارته ويتناول كأسَ العصير وحبّاتِ التمر لكى «يكسر صيامه». فإن قال لهم العابرُ: «شكرًا لكم بس أنا مسيحىّ!»، قد يُفاجأ بأغرب ردٍّ فى الوجود: «واحنا كمان مسيحيين، كل سنة وأنت طيب!» يحدث فقط فى مصر أن يقفَ شبابٌ مسيحيّون ليسقوا ظِماء الصائمين المسلمين، زارهم المغربُ وهم خارج بيوتهم.

ونحن صغار، كنا نجمع قروشنا ونركض لنشترى الورقَ الملوّن والصمغ ومقصّات الورق البلاستيكية، بعدما نكون قد جمعنا عصوات الخشب طوال العام وخبأناها تحت أسرّتنا، ثم نسهر مع أطفال الحيّ لنصنع زينة رمضانوالفانوس الكبير الذى سيُعلّق فى منتصف شارعنا. يتبارى أطفالُ كل شارع ليكون فانوسُهم أكبرَ، وزينتُهم أكثرَ أناقة وأكثفَ لونًا. لم ننتبه إلا حين كبرنا، أن نصفَ أطفال شارعنا من صانعى زينة رمضانكانوا مسيحيين. رمضانُ شهرُ الجميع، وبهجةُ الجميع، وصلاةُ الجميع لإله واحد مالكِ هذا الكون الشاسع؛ نعبده جميعًا، كلٌّ عبر رؤيته. ونحبُّ اللهَ جميعًا، كما أحبَّنا اللهُ وخلقنا وجعلنا شعوبًا وقبائلَ لنتعارفَ ونتحابّ ونتآخى.

لا أعرفُ ماذا بوسعى أن أكتب لأضمّد جروح أشقائى المسيحيين هذا العام، لأن جروحى لا تجد من يضمّدها. لكننى أعرفُ أن دمَ المصريين الواحد، وعِرقنا العريقَ الواحد، ونسيجَنا الصافىَ الواحد، لن يعبثَ به العابثون. كل سنة وأنتم طيبون. كلُّ سنة ومصرُ، مصرُ.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع