الأقباط متحدون - شبرا ... حلم الوطن الجميل
  • ٠٢:٠٩
  • الثلاثاء , ١٤ مارس ٢٠١٧
English version

شبرا ... حلم الوطن الجميل

مقالات مختارة

مقالات مختارة

٣٩: ٠٣ م +02:00 EET

الثلاثاء ١٤ مارس ٢٠١٧

شبرا ... حلم الوطن الجميل
شبرا ... حلم الوطن الجميل

كمال زاخر
بين الرصد والتحليل الأكاديمى الذى يفرضه تخصصه وبين انطباعاته التى شكلتها سنى طفولته وصباه وأحلام شبابه تجرى السطور على صفحات كتابه "شبرا : اسكندرية صغيرة فى القاهرة"، وما بين التخصص والوجد تكتشف أن مؤلف الكتاب الأستاذ الدكتور محمد عفيفى أديباً اختطفته الجامعة التى يحتل فيها موقع أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب جامعة القاهرة، وظنى أنه لم يخرج من محراب الأدب والإبداع، فهو أديب بنكهة أكاديمية.

اللافت والمبشر أن يصدر الكتاب عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، فى الربع الأخير من عام 2016، فى تأكيد جديد على دأب وزارة الثقافة وهيئاتها فى سعيها لاسترداد عرش الكتاب واقتحام المناطق المظلمة فى الثقافة السائدة.

ولأن الحب يحتل مساحة ممتدة بين شبرا "الحى" والشبراوى "الكاتب" استطاعت السطور أن تقفز فوق طبيعة المعلومات التاريخية الجامدة، والخشنة أحياناً، فهو يغازل الشوارع، ويطرق ابواب المعالم التاريخية، منذ قرر محمد على مؤسس مصر الحديثة، الذى وقع فى حب مصر منذ كلفته الأستانة بالخدمة العسكرية بها، فيصبح "ايقونة مصرية" رسمتها مصر "النداهة" فتمصره، أن يأخذ بيدها ويسعى للخروج بها من دولة الملل والنحل والطوائف الغارقة فى عصور العثمانيين والمماليك الوسطى، حيث الخرافة والخلافة واستلاب خيراتها وكوادرها وخبراتها وسبيها الى تركيا لتؤسس بها وبهم نهضتها.

يبنى محمد على له قصراً فى شبرا الخيمة، وأمامه بامتداد البصر اخصب الأراضى الزراعية، التى تشكلت من طرح النهر، ويقرر أن يشق طريقاً يصل قصره بالقاهرة، فيولد شارع شبرا، ويصبح اطول شارع فى قاهرة محمد على ولعقود ممتدة، فى استقامة لا يشوبها اعوجاج، وعلى بعد أمتار تجرى واحدة من الترع التى تربط بين نقطة قريبة من القصر والنيل عند بولاق "ابو العلا"، لكنها تستسلم للزحف السكانى بعد أن صارت شبرا منطقة جاذبة للطبقة العليا للسكنى بجوار الطبقة الحاكمة، لتردم وتتحول الى شارع مواز لشارع شبرا "الترعة البولاقية" ويحمل انحناءات وتعاريج مسار المجرى المائى.

ويكشف الكاتب عن أصل المدارس فى شبرا والمتميزة حينها، لتكتشف أنها كانت قصوراً تبرع بها اصحابها بالتتابع وكانوا من الأمراء، ابناء وأحفاد محمد على، لوزارتى المعارف والأوقاف، فى اشارة لمدى إدراكهم لأهمية التعليم كمنطلق لنهضة حقيقية وبناء دولة قوية، فالنهضة والقوة يبدءا فكراً.

تأتى مدرسة "التوفيقية" لتحتل مقدمة المدارس والتى كانت تقدم أوائل الثانوية العامة، بامتداد تاريخها، قبل ان يغشانا التصحر التعليمى وتفقد عرشها، تحت وابل من الرؤى البيروقراطية، والإنهيار الذى اصاب كليات التربية ومعاهد المعلمين، ومن اسمها نعرف أنها أحد قصور الخديو توفيق "قصر النزهة" وقد تبرع به ليصير مدرسة، ثم مدرسة شبرا الثانوية، المنافسة التقليدية فى مارثون التفوق والأوائل، والتى كانت قصراً للأمير طوسون، وتبرع بها ايضاً لتصير مدرسة، ويحمل أحد أهم شوارع شبرا، اسمه حتى الأن.

يتميز الكتاب بحشد من الصور التاريخية لشبرا قبل الإنفجار السكانى، وقبل موجات الفوضى، للأماكن والأشخاص، ويقدم ابرز وأشهر سكانها ، داليدا الفنانة العالمية، التى توجت ملكة جمال مصر عام 1954، وهى ابنة لأب وأم ايطاليين، ولدا هما ايضاً بمصر، وتسكن الأسرة الإيطالية الأصل المصرية النشأة والهوى فى 11 شارع خماروية، على بعد امتار من كنيسة سانت تريز الشهيرة، التى يقصدها المصريون على اختلاف اديانهم للتبرك وطلب العون، ومن اشهر من زارها الفنان العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، بعد ان اجرت له القديسة تريزا معجزة شفاء، ويضع لوحة رخامية تحمل شكره لله ولها.

ويرصد الكاتب أن مدارس شبرا التحق بها العديد من الطلاب الذين صاروا أعلاماً فى سماء السياسة والأدب والإعلام والجامعة، يوسف السباعى الذى ينشر فى مجلة المدرسة ـ شبرا الثانوية ـ 1934، أول قصة يكتبها وهو بعد طالباً، وكذلك الدكتور يحى الجمل الفقيه القانونى والسياسى المخضرم، وقد سجل فى كتابه "حياة عادية" مرحلة تعلمه بذات المدرسة.

والقائمة ممتدة ومحتشدة، أحمد حمروش الذى عرف طريقه الى السياسة بالصدفه عندما قررت مدرسة التوفيقية الخروج فى مظاهرة حاشدة، اثناء انتفاضة 35، للمطالبة بعودة دستور 23، فى مواجهة اصرار "صمويل هور" وزير خارجية بريطانيا، المحتلة لمصر، بعدم عودة هذا الدستور وكان هتافهم المدوى "يسقط هور إبن التور"، وكانت النتيجة فصله من المدرسة، لينتبه الى تشابكات الواقع السياسى ليصير أحد ضباط يوليو 52 فيما بعد.

الطريف انه يذكر أن مشاركته فى تلك المظاهرة جاء عندما علم من بواب المدرسة أن الطلبة يريدون الخروج فى مظاهرة الى وسط القاهرة، فوجدها فرصة للتخلص من قيود اليوم الدراسى، لتتغير خريطة حياته وهو بعد صبى لا يتجاوز عمره 14سنة.

ويشير الكاتب إلى الأدباء الذين استوحو رواياتهم من الحى العريق، ابرزهم الكاتب الصحفى والروائى فتحى غانم وروايته "بنت من شبرا" والتى يقترب فيها من مجتمع الأجانب فى شبرا ولا سيما الجاليتين الإيطالية واليونانية.

ثم رواية "شبرا" للأديب الشبراوى "نعيم صبرى" التى تتناول فترة الخمسينيات، وهجرة الأجانب من شبرا، ومن مصر بشكل عام، وتنسج مرثية رقيقة لكيفية فقدان شبرا لظاهرة "الإخاء" التى كانت إدى أهم معالمها الإجتماعية.


ويضم الكتاب تتبعاً للحراك الإجتماعى والسياسى لهذا الحى ويضم إليه شهادات عديدة من الكتاب والسياسيين والمشتبكين مع الشأن العام من مختلف الإتجاهات وكأنه يرسم خريطة فكرية للحى العتيق الجديد.

لكن القارئ يتوقف كثيراً أمام عشق الكاتب وادراكة لقيمة حى "شبرا" فى تقديمه للكتاب تحت عنوان "لماذا شبرا؟"، فيباغتك بالإجابة "هل يحتاج هذا السؤال إلى إجابة؟!" وكأنه من فرط عشقه يستغرب أن أحداً لا يحب شبرا.

وتنهمر كلماته
"شبرا؛ هذا الحى العجيب الذى وُلدتُ وعشت فيه وعرفت أول حب فيه ... بنت الجيران "المسيحية"
شبرا؛ حيث اعتدت أن يصحبنى والدى فى الأعياد "لنُعَيِّد" على صديقه عم فرنك جرجس!
شبرا؛ حى أبناء المهاجرين من البحر التوسط والدلتا والصعيد، ليخلقوا عالماً جديداً عالماًيسمونه "كوزمبيليت"، متعدد الأجناس والأعراق، متفتح الثقافة، والتعليم سلاح المستقبل فيه، عالماً أقرب إلى حال مدينة الأسكندرية فى عصرها الزاهر، وقبل الغزو السلفى، الذى غزا شبرا أيضاً فى الوقت نفسه تقريباً.

شبرا؛ الحى الذى كانت تعيش فيه داليدا الإيطالية والتى ستصبح بعد ذلك من أشهر المطربات فى العالم، وفى الوقت نفسه تقريباً كان يعيش فى شبرا أكبرمشايخ الأزهر، الشيخ محمود أبو زهرة، والشيخ عبد الوهاب خلاَّف، والشيخ محمد الخفيف، وفى الوقت نفسه الشاب"نظير جيد" القادم من الصعيد إلى شبرا، والذى سيصبح بعد ذلك البابا شنودة الثالث.

شبرا؛ الحى الذى وُلد فيه والدى عام 1934 وتزوج فيه عام 1955، وانتقل إلى رحمة الله وهو لا يزال فى شبرا عام 2016، ولا تزال والدتى، أمد الله فى عمرها تعيش فى بيتنا هناك، حارسة للذكريات الجميلة.

ويختتم عاشق شبرا مرافعته : نعم شبرا ... الزمن الجميل لنقاوم عبث الحاضر.