الأقباط متحدون - حكيم جداً
  • ١٩:٥٨
  • الاثنين , ٦ فبراير ٢٠١٧
English version

حكيم جداً

مقالات مختارة | الأنبا إرميا

٠١: ٠٩ ص +02:00 EET

الاثنين ٦ فبراير ٢٠١٧

الأنبا إرميا
الأنبا إرميا

بدأنا فى المقالة السابقة حديثًاً عن حياة «أنبا أنطونيوس»: أول من وضع نظام الرهبنة، وصارت حياته نموذجًا للعالم فسار على خطواته ودربه، وهكذا أضحى «أنطونيوس» المِصرى أبًا لرهبان العالم بأسره.

وُلد «أنطونيوس» فى محافظة «بنى سويف»، وقبل أن يبلغ العشرين قرر الخروج من العالم إلى البرّية، عائشًا زمنًا فى القُبور، ثم توجه نحو حصن مهجور بأحد الجبال مقضِّيًا به عشرين عامًا.

وفى زمن الاضطهاد المرير من قِبل الأباطرة الرومان على القبط، اشتاق «أنبا أنطونيوس» أن ينضم إلى صُفوف الشهداء، فتوجه إلى «الإسكندرية» حيث ظل ملازمًا لمن كانوا يُلقى القبض عليهم ويعذَّبون بغرض ترك الإيمان بالله وعبادة الأوثان، أو لمن كانوا يتقدمون للاستشهاد معترفين بالله، وكان هو يردد: «نحن نذهب لكى ما نجاهد مع المدعوين، ونختبر الموت مع المجاهدين»، فى تلك الأثناء، اشتاق إلى أن يشارك الشهداء آلامهم وينضم إلى صُفوفهم فكان يخدُِمهم ويُعِينهم وبخاصة من كانوا فى الحراسة بالمحاجر، وكان يُسرع إلى الشهداء ليرافقهم وقت محاكماتهم حتى اكتمال استشهادهم، وكثيرًا ما كان يَلقَى التحذير من القضاة والحكام من أجل مرافقته للشهداء فيذكر لنا «البابا أثناسيوس الرسولى»: «أمّا هو (أنبا أنطونيوس) فمِن دون خوف كان يُنذره بجِدية بأنه لا أحد البتة يمنع الرهبان من أن يظهروا فى المحكمة أو يظلوا فى المدينة. وكان يبدو حزينًا لأنه لم يُستشهَد، ولكن الرب حفِظه لنا ولمنفعة الآخرين».

وهكذا لم ينَل رغبته فى الاستشهاد، فعاد إلى خُلوته بعد انقضاء زمان الاضطهاد المرير باستشهاد «البابا بطرس» البطريرك السابع عشَر فى بطاركة «الإسكندرية» الملقب بـ«خاتم الشهداء». ويُذكر أن «أنبا أنطونيوس» كان فى تلك الحِقبة ضيفًا على صديقه العلّامة «دِيدِيمُوس الضرير» مدير «مدرسة الإسكندرية اللاهوتية».

عودة لحياة البرّية
عاد «أنبا أنطونيوس» إلى حياته النسكية على نحو أكثر تقشفًا فى صومه وصلاته اللذين لم ينقطعا، وأيضًا فى ملبَسه البسيط، وفى تلك الآونة، كثُر زائروه المترددون عليه من أجل سماع تعاليمه وإرشاداته، وأيضًا المرضى والمتعبون الآتون إليه بأتعابهم لكى يُشفَوا. رأى «أنبا أنطونيوس» أن تلك الأمور تشغَله عن عبادته وصلواته كما أنها تحمل خطر الكبرياء فيما كان يقوم به من أمور الشفاء، فقرر التوغل فى الصحراء الشرقية مع قوم من الأعراب، حتى وصل إلى جبل عالٍ فيه ماء عذب وبه سهل يحتوى على بعض النخيل المهمل فأقام فيه، وكان العرب يأتون إليه بالخبز.

ومر الزمان إلى أن عرَف الأبناء موضع أبيهم الروحى «أنبا أنطونيوس»، ورأَوا أن يحمل بعض منهم الخبز إليه فى ذلك المكان، لكنه إذ رأى مشقتهم قام بزراعة جزء بسيط من الأرض قمحًا ليحصل على الخبز، وبعض الخضروات القليلة لأجل زائريه من الرهبان الذين كانوا يأتون إليه ليجدوا بعض الراحة من مشقة الطريق.

ترْك البرّية مرةً ثانية
وفى أيام رئاسة «البابا أثناسيوس الرسولى» للكنيسة القبطية، نزل «أنبا أنطونيوس» إلى «الإسكندرية» مع بعض الأساقفة والرهبان لمساندة البابا معلنًا لأتباع «آريوس» فساد تعليمهم، مناديًا بالتعليم المستقيم. وفى «الإسكندرية»، التف شعب المدينة من المِصريِّين واليونانيِّين حول «أنبا أنطونيوس»، راغبين فى رؤيته لِما كانوا يسمعون عنه من تقوى وصلاح وفضيلة، فإذا الجميع يرَون فى شخصه جمالًا وخيرًا نادرَين! ثم عاد هو سريعًا إلى الجبل.

حكمته
لم يتلقَ «أنبا أنطونيوس» تعليمًا كبيرًا، وكان لا يتحدث سوى القبطية! لكنه اشتُهر بحكمته الكبيرة!! وقد حاول كثير من الفلاسفة اختبار فَهمه وحكمته فلم يدركوا سوى عظمة حكمته وتواضعه الشديد: فيُحكى أن اثنين من الفلاسفة اليونانيِّين أرادا اختباره وتعرُّف إمكاناته فقطَعا الطريق إليه، فما إن خرج إليهما حتى سألهما عن طريق مترجم: لِمَ تعِبتما بهذا المقدار، أيها الفيلسوفان، من أجل إنسان جاهل؟! أمّا هما فقد أجاباه: ليس هو إنسانًا جاهلًا، بل حكيم جدًّا.

شهرته
هرب «أنبا أنطونيوس» من العالم بأمجاده، معتبرًا نفسًا مائتًا عنه طالبًا الغربة، فإذا سيرته تُعرف وشهرته تصل إلى آفاق الملوك والعظماء!! ومنهم الإمبراطور قسطنطين وأبناؤه الذين أرسلوا إليه طالبين صلواته عنهم، فرد على رسائلهم ناصحًا إياهم بالحفاظ على خلاصهم، وبعدم الاهتمام بأمجاد العالم، وبتذكر يوم الدينونة العتيد على الأشرار، طالبًا إليهم أن يهتموا بالأبرار وبالفقراء، وكان الملوك يفرحون جدا بكتابات «أنبا أنطونيوس» إليهم.

شجاعته
لم يخشَ ذاك الذى ترك العالم ساكنًا البرارى قول الحق: فقد كان هناك قائد قاسٍ يُدعى «فلاكيوس» يضطهد المَسيحيِّين القِبط لرفضهم تعاليم «آريوس» المبتدع، فأرسل إليه «أنبا أنطونيوس» رسالة جاء فيها: «رأيتُ غضبك واضحًا، فتوقف عن اضطهاد المَسيحيِّين ولا تنقضّ عليهم بغضبك، لأن هذا الغضب سوف يرتد إليك سريعًا»، فمزق «القائد» رسالة «أنبا أنطونيوس»، وألقى بها على الأرض سابًّا من قدمها له، ثم أرسل إليه تهديدًا يقول فيه: «إننى آتٍ إليك، لأنك تهتم بالرهبان»، ولم تمهله الأيام إذ مات بعدئذ بثمانية أيام.

اهتم «أنبا أنطونيوس» بكل نفس لجأت إليه، حتى أولئك الذين طلبوه قادمين إليه من بلاد أجنبية لم يجدوا سوى المعونة والإرشاد كما من أب حقيقى محب للجميع، ولقُوا الراحة فور التطلع إلى وجهه!! ففى أحد الأيام زاره ثلاثة إخوة، وأخذ اثنان منهما فى سؤاله، أمّا الثالث فجلس صامتًا، فلما استفسر منه «أنبا أنطونيوس» عن صمته وأنه لم يسَل شيئًا، أجابه: «يكفينى النظر إلى وجهك، يا أبى»!! ويُحكى أنه بينما كان فى لقاء صديقه العلّامة «دِيدِيمُوس الضرير»، وهما يتحادثان، سأله «أنبا أنطونيوس» ثلاث مرات: «ألعلّك لا تحزن لأنك كفيف البصر؟»!! فأجابه أخيرًا صديقه أنه يحزن على ذلك جدًّا، فما كان من «أنبا أنطونيوس» إلا أن قال: «إنى متعجب لحزنك على فقدانك ما تشترك فيه مع أحقر الحيوانات واسطةً للإحساس إذ ليس لديها ما تحس به غير البصر، ولا تفرح متعزيًا لأن الله وهب لك بصيرة لا يهبها- تقدَّس اسمه- إلا لمحبيه: لقد أعطاك عينين (رُوحيتين) كأعين الملائكة تُبصر بهما الرُّوحيات، بل بهما تُدرك (عظائم) الله نفسه، ويسطع نوره أمامك فيُزيل كل ظلام فى قلبك!»، فكانت تلك الكلمات سبب تعزية للعلّامة «دِيدِيمُوس» كل حياته.

حقًّا ما قيل عنه: «... كان يُسدى النصائح إلى ذوى الأمور الصعبة، ويحذر الذين كانوا يجتمعون إليه، لكى ما ينسَوا الإدانة، ويطوِّبوا الذين اعتزلوا العالم. وهكذا حمَى المظلومين، إذ أحس أنه هو المتألم لا هم. فكان قادرًا على إفادة الجميع، حتى إن عددًا كبيرًا من الجُنود والأغنياء تركوا أعباء الحياة وصاروا رهبانًا!! وكأنه الطبيب الذى وهبه الله لـ«مِصر»: فمن كان حزينًا، ولم يُرجعه فرِحًا؟! ومن أتاه باكيًا على أمواته، ولم يطرح عنه الكآبة؟! ومن أتاه غاضبًا، ولم يتحول غضبه إلى محبة؟! ومن كان فقيرًا وبائسًا والتقاه، ولم يزدرِ بالغنى ويعتز بفقره؟!! وأى راهب سقط فى الإهمال وأتاه، ولم يصبح أقوى من ذى قبل؟! وأى شاب صعِد إلى الجبل ورآه، ولم ينكر اللذات ويحب العفة؟!! ومن ذا الذى جربه الشياطين وأتاه، ولم يجد راحة؟! ومن أتاهُ متضايقًا، ولم يجد الراحة؟! ومن أتاهُ متضايقًا من أفكار شريرة، ولم يهدأ فكره؟!».

لقاء
التقى «أنبا أنطونيوس» مع «أنبا بولا» أول السواح قُبيل نياحته، ثم قام بتكفينه ودفنه، ونقل لنا قصته.

انتقاله من العالم
قُرب نياحته، أمر أولاده أن يُخفوا جسده، ويُعطوا «أنبا مقاريوس» عكازه، و«البابا أثناسيوس» رداءه، و«الأسقف سرابيون» رداءه الذى من جلد الغنم، أمّا رداء الوبر فقد تركه لتلميذيه. وبنياحته شعر الجميع أنهم قد فقدوا الأب الذى كان يرعاهم وكانوا يتعزون من ذكر اسمه فقط، ويحفظون فى ذاكرتهم نصائحه، ويحُثهم على حياة البر والتقوى. وتحتفل كنائس العالم بـ«أنبا أنطونيوس» فى شهر يناير.

إن «مِصر» على مر التاريخ والعُصور تقدم للعالم أنواع المعارف شتى، ومع نهاية القرن الثالث الميلادى قدمت نظام الرهبنة الذى ازدهر فى القرن الرابع الميلادى مع انتشار مئات الأديرة وآلاف القلالى والكُهوف على أرضها. و... وفى «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى!


* الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع