الأقباط متحدون - الفقراء يقدمون اعتذاراً عن وجودهم
أخر تحديث ٠٣:٢٦ | الاربعاء ٦ ابريل ٢٠١٦ | ٢٨برمهات ١٧٣٢ ش | العدد ٣٨٩٠ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

الفقراء يقدمون اعتذاراً عن وجودهم

عاطف بشاى
عاطف بشاى

فى قصة «أهلاً» التى كتبها أديبنا الكبير «نجيب محفوظ» قبل حرب (1973) يدور الحوار بين ثرى أنيق وماسح أحذية بعد غياب طويل للثرى عن المقهى، يذكره الأخير بثورة يوليو (1952) مردداً:

- أتذكر يا بيه إنى رقصت يوم قامت الثورة.

- طبعاً سكرت بالآمال.. سكرنا جميعاً.. نفختنا الآمال حتى طرنا فى الجو.. ولولا سوء الحظ.. ولولا الأعداء.. ماذا كنت تتوقع؟!

- زوال الظلم والفقر.. لقمة متوفرة.. مستقبل للأولاد.

- إنكم تنشدون معجزة.. لا ثورة.

- إنه حال أبناء الفقر جميعاً.

- كان اليأس القديم أنسب لكم.

- ما زال المال يملك الحظ كله.. وأنا أريد أن أحيا فى ظل العدل.

تذكرت تلك القصة البديعة والتاريخ يعيد نفسه، وتتوالد نفس الأسئلة القلقة الحارة على ألسنة البسطاء، متى تتحسن أحوالنا؟! متى نجنى ثمار ثورتين (25) يناير 2011 - (30) يونيو (2013)، وما زالت الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ، هل علينا أن ننتظر سنوات طويلة؟! هل يُضحى بجيل فى سبيل الأجيال المقبلة؟!

للأسف هذا وطن لا يحب الفقراء، بل يزدريهم ويستمتع بإهانتهم، وينتشى بتعذيبهم، إنهم لا يستحقون الحياة، وعليهم إن وجدوا بها أن يقدموا دائماً اعتذاراً عن هذا الوجود، تقوم الثورات باسمهم، ويُستخدمون وقوداً لها، وحينما يحين وقت الحصاد وقطف الثمار لا يلقى لهم حتى بالفتات، بل إنهم أثناء حكم الإخوان يطلب منهم المعزول إزالة القمامة من الشوارع والميادين تحت شعار «وطن نظيف وإنسان متحضر» بينما هم يأكلون منها، ويشربون من مياه المجارى.

فى عهد «مبارك» تحول قطار الصعيد إلى «فرن» حرق، يجرى على الأرض يحمل رؤوساً مشتعلة تهرول منصهرة، ودخاناً أسود يأكل الوجوه ويلتهم الأجساد، وطوى المئات حرقاً، وضن على آخرين، فكتب لهم حياة أسوأ من الممات بعد فقدان الأهل والأحباب، لكن الفاجعة -كما رأى وقتها أصحاب الياقات المنشاة وكتبة السلطان- يجب ألا تنسينا الأسباب التى أدت إلى حدوثها، فعار علينا أن نلقى الاتهامات جزافاً أو نلصق المسئولية على جبين القدر وتصاريف الدهر الذى يجرى على حكمه المألوف فى الإتيان بالغامض وغير المعروف، إن الركاب مسئولون لا ريب وهم فى النهاية ضحايا جرائرهم، ألم يشعلوا المواقد ليشربوا الشاى الأسود؟! ألم يدخنوا النرجيلة؟! ليدفعوا إذاً ثمن تسيبهم واستهتارهم مثلهم مثل أولئك الذين راحوا ضحية السيول التى جرفتهم لأنهم -كما أعلن مسئول كبير وقتها- قد بنوا بيوتهم فى مجرى السيل، وقال بالحرف الواحد: يستاهلوا، إنهم يستحقون عقاب الأرض قبل عقاب السماء.

وكان من الطبيعى أن تتوحد مظاهر القهر والظلم وانعدام العدالة الاجتماعة التى تراكمت مظاهرها تراكما بشعاً، متجسدة فى ملايين البشر الذين تدفقوا فى الميادين يقودهم سنابل الوطن الزاهرة، وقاموا بثورة (25) يناير التى أسقطت نظاماً ديكتاتورياً عتيداً سقوطاً تاريخياً مدوياً، ورفعت شعارات العيش والكرامة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية، إنها ثورة الفقراء التى جاءت من أجل التعبير عن أحلام بسطاء الوطن الذين يمثلون أغلبيته البائسة فى حياة أكثر عدلاً وإنسانية.

إن الشعور بالفوارق الطبقية نتيجة الثراء الفاحش فى مقابل الفقر المدقع والتناقض الحاد بين قاهرة الفقراء الذين يعيشون بالملايين فى العشوائيات والمقابر تحت مستوى الفقر، وبين قاهرة أخرى ينعم فيها اللصوص بنهب ثروات الوطن وأراضيه، هذا التناقض كان المقدمة المنطقية للثورة، وليس أدل على ذلك من أن الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم فى الميدان هم أبناء البسطاء الذين يحلمون بالعدالة الاجتماعية، وهى أهم أهداف تلك الثورة.

وما إن نصل إلى حكم الإخوان حتى يتأكد ذلك التراجع المزرى عن تحقيق أهداف الثورة وأحلام البسطاء.

ولأن الفقراء تكرههم حكومة «الإخوان التقية» مثلما كرهتهم دولة الحكم البائد للأغنياء اللصوص، فكما تفحموا فى قطار الصعيد، وأكلتهم الأسماك المتوحشة فى حادثة غرق العبارة، ثم وقعت فوق رؤوسهم هضبة المقطم، تناثرت أشلاء صغارهم على مزلقان الموت فى حادث اصطدام قطار أسيوط بأوتوبيس المعهد الدينى، ووقف أب فوق قضبان القطار يجمع فى كيس من البلاستيك بقايا من أعضاء جسد ابنه ليضمها إلى ما وجد منها بالمستشفى لكى يدفنه، ووقفت إلى جواره أم مقروحة العينين مسترسلة النواح والرثاء تلملم ما تبعثر من أشلاء أبنائها ورد الحياة، السنابل الأربع الواعدة، رأس، قدم، ذراع، قلوب صغيرة كعصافير الشتاء، وهى تنتحب صارخة.. لماذا لا تقوم القيامة؟! لقد ماتت ضمائرهم أصحاب القلوب الأسمنتية والعيون الزجاجية، والوجوه اللامعة التى تتدلى منها ترهات الزيف والتى تبرر الجريمة وتبعد عن نفسها الشبهات، فالفقراء كالمعتاد هم القتلة والضحايا، ألم يحشروا صغارهم فى أوتوبيس متهالك بأعداد متزايدة؟ ألم يكن عامل المزلقان نائماً؟! أى ملاعين أنتم أيها التعساء؟! ألم يثبت أن ضحايا العبارة لا يجيدون السباحة؟! إنه الهراء بعينه الادعاء بتفشى الفساد فى هيئة السكك الحديدية، كفاكم قسوة وسادية وأنتم تتهموننا بالتسيب والإهمال، وأن أغلب ميزانية الهيئة تذهب لجيوب المسئولين وكبار الموظفين على هيئة حوافز ومكافآت فتترك القطارات بلا رقابة أو وصاية، والمزلقانات بلا تحديث أو متابعة أو أجهزة إنذار فعالة، ناهيك عن الإشارات المعطلة وسوء حالة الجرارات والعربات التى لا تصلح لنقل الركاب ولا الدواب، ولأن القيامة لا تقوم فإن ضحايا قطار «البدرشين» التسعة عشر قتيلاً يعبأون فى جوال يضم أشلاءهم فيزنون عشرين كيلوجراماً من الأجساد والعظام الرخيصة، فهم عبيد يحشرون فى مركبات العبيد، هم ضحايا الحادث، وهم أيضاً المسئولون عنه من خلال رمز يمثلهم، عامل المزلقان، عامل البلوك، عامل صيانة، سائق.

وحينما ذهب «حمادة صابر» إلى الاتحادية لينضم إلى رهط البؤساء من عمال اليومية والعمالة غير المنتظمة التى أصبحت لا تجد قوت يومها فى ظل حكم الإخوان بعد انهيار الاقتصاد، ليتظاهر معهم للمطالبة بأقل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للعمل بطريقة منتظمة، هتف بسقوط دولة المرشد، وبدأ التراشق بين الشرطة والمواطنين سقط «حمادة» بينهم فعروه كما ولدته أمه، وانهالوا عليه ضرباً بالهراوات والأحذية وسحلوه، فلما أفاق لم يدرك أن النظام هو الذى تعرى أمام عيون الكاميرات الفاضحة وأمام ضمير العالم كله، وبين الترهيب والترغيب لم يستمر الصراع طويلاً، فالذين يولدون على الأرصفة لا حق لهم فى تحديد مصيرهم أو فى اتخاذ قرار يتعلق بحياتهم، والجائعون لا يحلمون بتحقيق تلك اللفظة الغريبة الشاردة التى يسميها المرفهون «الكرامة الإنسانية»، تلك الكرامة المهدرة ربما منذ نعومة أظافره، إن ملء البطون الخاوية وتحقيق العدالة الاجتماعية هما اللذان يؤديان إلى تحقيق الكرامة الإنسانية، لذلك ألصق «حمادة» فى البداية ما حدث به للثوار، ولم يتهم الشرطة، لقد وجد «حمادة» نفسه فى مستشفى الشرطة ينام على سرير بمفرده فى حجرة دافئة، ويتدثر ببطانية نظيفة تدفئه فى ليل شتاء بارد جداً، ويتمتع برعاية فائقة، والحجرة ملحق بها دورة مياه مستقلة بها باب محكم، ويأكل ثلاث وجبات شهية وساخنة تحتوى على اللحم والدجاج والأرز والشوربة والخضار، والضباط الكبار أعادوا إليه تلك الكرامة الضائعة التى يتشدق بها المثقفون المتحذلقون، ألم يعتذروا له وقبّل رأسه كبيرهم وقال له بحنو دافق: ما تزعلش يا «حمادة»، حقك علينا، المسامح كريم، وامسحها فينا المرة دى، ويا بخت من بات مظلوم؟! ألم يبشره آخر وهو يطعمه برقة بقطعة التفاح الأمريكانى الفاخر بمسكن جديد، وعقد عمل بالخليج، وعمرة، وموبايل «البلاك بيرى» به خاصية البلوتوث؟! ألم يفهموه أن الثورة على نظام الحكم والحاكم هى كفر مبين من شأن الكفار والملاحدة الذين يتمردون على الحكمة الإلهية والقدر المحتوم والتمايز الطبقى، بينما المكتوب مكتوب ممنوش مهروب؟!

وحينما يأتى «السيسى» ليتولى إدارة الدفة وسط عواصف عاتية وأنواء صعبة لتحقيق ثورة إصلاحية، يبقى الإعلاء من قيمة العدالة الاجتماعية ما زالت ملامحه غائمة وفى بيان الحكومة الأخير لم تطرح حلولاً واضحة لطبقة تمثل 26% تحت خط الفقر بالإضافة إلى ملايين إضافية يعيشون على حافة هذا الخط لا يحصلون على احتياجاتهم الأساسية بل يلمح رئيس الوزراء إلى إجراءات صعبة فى انتظارهم، بل ومن سخريات القدر -بما أننا نتحدث عن حوادث القطارات- وفى ظل حكومة «شريف إسماعيل» شهدت منطقة العياط اصطدام قطار بسيارة نقل أسفرت عن مصرع (7) فقراء فاكتفت الحكومة -كالمعتاد- بالقبض على عامل المزلقان (المجرم الأثيم) وتم صرف تعويض قدره خمسة آلاف جنيه لأسر المتوفين، وإلى اللقاء فى حادث آخر، وحصل خير، واتفضل شاى، لأ متشكر.

وما زال الفقراء فى بلادنا يقدمون اعتذاراً عن وجودهم.
نقلا عن الوطن


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع