الأقباط متحدون - ما لا يعرفه الإخوان عن كاهنهم الأكبر سيد قطب (2-3 )
أخر تحديث ١١:٢٦ | السبت ٩ نوفمبر ٢٠١٣ | بابه ١٧٣٠ ش ٣٠ | العدد ٣٣٠٧ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

ما لا يعرفه الإخوان عن كاهنهم الأكبر سيد قطب (2-3 )

سيد قطب
سيد قطب
بعثته المشبوهة إلى أمريكا.. وتحوّله من الأدب الإباحي إلى ظلال القرآن
 
مقدمة:
 
تميّزت كتابات سيد قطب عن كتابات حسن البنا بأن الأول كان واضحًا وصريحًا في طرح أفكاره التكفيرية عن المجتمعات الإسلامية -وعلى رأسها المجتمع المصري- التي وصمها بالجهالة، رغم اعترافه بأن أهلها مسلمون ولكنه أنكر إسلامهم "وإن صلوا وصاموا وحجوا البيت الحرام" ""(معالم في الطريق ص 116)، ثم طالب جماعته (الإخوان) بعد ذلك بهدم وتقويض هذه المجتمعات الجاهلية التي كفّرها، ليقموا على أنقاضها المجتمع الإسلامي من وجهة نظره. وسيد قطب في كتاباته هذه لم يلجأ إلى أسلوب حسن البنا الذي استخدم المراوغة والتقيا للتغطية على أفكاره ومبادئه التكفيرية التي وضع أطرها التأسيسية عندما أسس جماعته عام 1928، وتدرّج في الإعلان والكشف عنها طبقًا للظروف، ولكن سيد قطب طرح كل ذلك بشكل مباشر وعنيف وتحويطي في كل من كتابه "في ظلال القرآن" و"معالم في الطريق" دون لف أو دوران أو تورية، وهو ما اعتبره بعض مَن أرّخوا لسيد قطب "تجديدًا لشباب الجماعة الفكري والحركي" وفي ذلك يقول صلاح شادي أحد قادة الإخوان، "إذا كان من البنا البذرة الصالحة للفكر الإسلامي، فإن سيد قطب كان الثمرة الناضجة لهذا الفكر". أما مرشد الجماعة الثاني حسن الهضيبي، فقد وصف سيد قطب بأنه "الأمل المرتجى للدعوة الآن". وبالطبع لم يكن هذا الإعجاب بشخص سيد قطب، "" بل إن كتابيه المشار إليهما آنفًا كانا الأكثر تطرفًا وتشددًا وشراسة في التهجّم على المجتمع المصري.
أما وجه الخطورة في كتابات سيد قطب، فهو في قيام جماعة الإخوان بتفسير أقواله وأفعاله على هواها، باعتباره الأب الروحي الذي تستند إليه في حيثيات حكمها على جاهلية وكفر المجتمع المصري، وتستخدمه في تبرير كل ما قامت وتقوم به من أعمال إرهابية شملت اغتيالات وتخريبًا وتدميرًا، منذ اتخذوا من أفكار سيد قطب شماعة يعلّقون عليها جرائمهم وجموحهم ضد المجتمع المصري، وهو ما شكّل إساءة بالغة إلى الإسلام والمسلمين.
 
 
تأثّره بالنشأة
ولد سيد قطب في قرية (موشا) بأسيوط في 9 أكتوبر 1906 وسط أسرة متوسطة، باع أبوه معظم ما ورثه من أرض ليؤكّد تميّزه وكونه واحدًا من الأعيان، الأمر الذي أثار استياء أمّه، وكان قطب متعلقًا بها كثيرًا، فقد كانت أكثر ثراءً من أبيه. وأُصيب قطب في مرحلة صباه بمرض أصاب مفاصل عنقه، فكان لا يستطيع تحريك رقبته إلا في ناحية واحدة، وكان وحيد أبويه بجانب بنتين هو أوسطهما وأخ توفّى بعد أسبوع من ولادته، مما ترك أثرًا سلبيًّا في نفس سيد قطب الذي كان يطمع في أن يكون له أخ شقيق، خصوصًا أن له أخًا غير شقيق آثر أن لا يذكره عندما دوّن سيرة حياته، الأمر الذي جعله متميزًا في أسرته وموضع احترامها وتقديرها، لذلك لم تدخله كتّاب القرية بل دخل المدرسة مباشرة في سن السادسة، وحفظ القرآن وهو في العاشرة.
 
- وفي مدرسته، عُرف سيد قطب بالجرأة على ناظر المدرسة والمدرسين، خصوصًا أنه كان متفوقًا في دروسه، وهو ما ولّد لديه شعورًا مبكرًا بذاته، وأخذ يتشبّه بالرجال ويسلك مسلكهم، وعندما أوشكت الحرب العالمية الأولى على الانتهاء باندلاع ثورة 1919، كان سيد قطب يحضر اجتماعات الحزب الوطني، ثم حزب الوفد، ويكتب الخطب المؤيدة للثورة ويضمها أبياتًا من شعر متهالك يلقيها في المساجد والتجمعات، وبرز في هذه المرحلة اهتمامه بشراء الكتب الصفراء، مثل كتاب (أبي معشر الفلكي) في الفلك والتنجيم وكتاب (شمهورش) الذي يحمل كثيرًا من الرقى والتعاويذ والأحجبة والوصفات التي يتصوّر الناس أن بعضها يجلب المحبة بين الزوجين، وكان إقبال الناس في القرية كثيرًا على شراء هذه الكتب من سيد قطب، وكان يوصل بعضها بنفسه إلى النساء في المنازل بلا تحرّج.
 
- وعندما هدأت الأمور بعد ثورة 1919 رحل إلى القاهرة عام 1922 ليكمل دراسته في المدرسة الأميرية، وانتهى منها في عام 1924، وعمل مدرسًا بإحدى المدارس الدولية وببعض الصحف مصححًا لما يُنشر فيها، وفي نفس الوقت التحق بمدرسة دار العلوم سنة 1929 وأنهى دراسته بها في 1933. وفي هذه الفترة اتصل بندوة الكاتب عباس العقاد وواظب على حضورها، واتضحت ميوله إلى الكتابة الأدبية والنقدية منذ كان طالبًا بدار العلوم، وفي سنة 1933 صدر كتابه الأول (مهمة الشاعر في الحياة) وبعدها بعامين أصدر ديوانه الأول (الشاطئ المجهول)، وصار تُنشر مقالات له في صحف البلاغ وكوكب الشرق والأهرام والمصور والمقتطف ومجلة أبوللو وصحيفة دار العلوم.
 
إساءته للرسل ودعوته للفحشاء
- وفي سنة 1929 نشر في مجلة المقتطف بحثًا بعنوان (التصوير الفني في القرآن)، وللأسف اعتبره مَن سجّلوا سيرة سيد قطب أنه كان "بداية اهتمامه بدراسة القرآن الكريم أدبيًّا وفنيًّا"- (حلمي النمنم-سيد قطب وثورة يوليو ص 46)، ولكن كان هذا الكتاب في الواقع إساءة إلى رسل الله الكرام وخروجًا كاملًا عن الحكم بما أنزل الله في ركن أساسي من أركان الإيمان وهو الإيمان بالرسل الموصوفين بالعصمة المطلقة مصداقًا لقوله تعالى "وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا، سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون" "الأنبياء 26-27"، كما يأمرنا المولى عز وجل بضرورة التوقير الكامل لحضراتهم والتزام الأدب المطلق في الحديث عنهم، إذ يقول تعالى "لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا" (النور 63)، إلا أن كل مَن يطالع كتاب سيد قطب هذا يجد فيه خروجًا كاملًا على كل ما يأمر به المولى عز وجل من توقير رسله الكرام، حيث يسيء المؤلف أشد الإساءة إلى حضراتهم، ويأتي بكل الإسرائيليات والاتهامات الباطلة والأقوال الفاحشة عن حضراتهم، بل ويصل به الأمر إلى حد وصفهم بأسوأ الأوصاف وتصويرهم في أسوأ الصور، حيث ينسب في كتابه هذا الآثام والفواحش لرسل الله الكرام ويصفهم بما يعف اللسان أن يصف به أي مؤمن.
 
- فنجده يصف سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام -وهو الأب الأول للبشر وأول الرسل أولي العزم- بأنه "نموذج للضعف البشري الأكبر الذي يجمع كل نواحي الضعف الأخرى". ويصف سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام، وهو ثالث الرسل أولي العزم، بأنه "نموذج للزعيم المندفع العصبي المزاج"، بل ويتهمه بـ"التعصب القومي والانفعال العصبي".
 
بل ويزعم أن حضرته كان "ينسيه التعصب والاندفاع استغفاره وندمه"، ثم نجد سيد قطب يصور علاقة سيدنا سليمان عليه الصلاة والسلام بامرأة سبأ لا على أنها علاقة الهداية والدخول في دين الله على يد رسول كريم، وإنما على أنها علاقة رجل وامرأة بكل ما في ذلك من الإيحاءات الفاحشة.. فيتحدّث عن سيدنا سليمان عند التقائه امرأة سباء، فيقول بالحرف الواحد "هنا يستيقظ الرجل الذي يريد أن يبهر المرأة بقوته وسلطانه"، ثم يعلّق على ذلك بالزعم بأن سيدنا سليمان قد ورث التهالك على النساء عن أبيه سيدنا داوود. فيقول بالحرف الواحد "وسليمان هو ابن داوود صاحب التسع والتسعين نعجة الذي فتن في نعجة واحدة"، ويعلّق على ذلك بقوله "ففي قصة داوود إشارة إلى فتنته بامرأة مع كثرة نسائه". وسيد قطب في ادعائه الكاذب هذا يتجاهل قول المولى عز وجل "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الله"، حيث فسر سيد قطب كلمة "الهوى" هنا بما تهواه نفسه هو من شهوات، متجاهلًا عدة حقائق مهمة تحويها هذه الآية الكريمة، أبرزها أن المولى عز وجل وصف سيدنا داوود بأنه خليفة الله في الأرض بكل ما تحمله هذه الجملة من معانٍ كريمة ومقدسة بحكم نسبة الرسول إلى الذات الإلهية، كما تجاهل قطب أيضًا كل الآيات التي تؤكد عصمة رسل الله تعالى، وأبرزها (والله يعصمك من الناس)، ومن ثم فلا بد من فهم لفظ (الهوى) الذي وصف به هذا الرسول الكريم بما يتفق والعصمة، وأن نفكر قليلًا لنعلم ماذا تهوى أي نفس زكية مؤهلة لتبليغ رسالة الله عز وجل؟ ألا تهوى مثل هذه النفس الطاهرة ما يتفق وما جبلت عليه من حب الله تعالى والتأمل والاطلاع على غيب السماوات والأرض حتى تزداد تعظيمًا وتقديسًا لبارئها؟ أليس ذلك هو أقرب فهمًا إلى العقل السليم والقلب الواعي من تلك الخرافات المشينة المنقولة عن الإسرائيليات التي ألصقت بهذا الرسول الكريم؟ ثم لفت الله نظر الناس في نفس الآية إلى حكم الله في الهوى الذي تهواه النفوس الأخرى الضعيفة التي جُبلت على مخالفة وعصيان رسل الله، جزاؤهم جهنم وبئس المصير، لأن (هوى) أنفسهم ليس من جنس (هوى) رسل الله الذين أرسلهم الله قدوة وأسوة لأممهم، ولا يعقل أن يرسل الله رسولًا، لكي يكون أسوة وقدوة سيئة لتابعيه، ثم يؤاخذهم على ما فعلوا إذا اقتدوا بهم، حاشا الله أن يظلم مثقال ذرة.
 
- وبنفس هذا الفكر الفاحش الذي يتناول به سيد قطب القصص القرآني، نجده يعرج على قصة سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام، فيتهمه بأنه همّ بارتكاب الزنى وأنه كاد يضعف أمام امرأة العزيز، فيقول "وأنا أرى أن الهم هنا كان متبادلًا في اللحظة الأولى، ثم رأى برهان ربه فتاب إلى نفسه"، وعلى أساس قاعدة عصمة الرسل يمكننا أن نعرف التباين والمفارقة في تأويل المقصود من لفظ (همت به)، ونوع همها هذا الذي يتفق مع عقلية امرأة كلها رعونة وطيش "وهمّ بها" أي بدفعها عنه بعنف، وهذا هو المقصود من همّ رسول عظيم مثل سيدنا يوسف عليه أفضل الصلاة والسلام، ومن ثَم فقد رأى برهان ربه، وهو الملك الموكل بتربيته يشير إليه بأن الرسل لم تُجبل على فظاظة أو خشونة، فخرج هاربًا معرضًا عنها "فقدت قميصه من دبر"، هذا فضلًا عن اعتراف المرأة نفسها بأنها راودته عن نفسه، ولكنه استعصم.
 
- كما يبلغ سيد قطب في كتابه (التصوير الفني للقرآن) أقصى درجات الإساءة إلى السيدة مريم، حتى إنه في وصف حضرتها في خلوتها يشبهها تشبيهًا فاحشًا بالفتاة في حمامها، فيقول: "ها هي ذي في خلوتها مطمئنة إلى انفرادها يسيطر على وجدانها ما يسيطر على الفتاة في حمامها"، ثم يمضي في تصويره الفاحش، فيقول "ولكن ها هي ذي تفاجأ مفاجأة عنيفة تنقل تصوراتها بعيدًا.. فتنتفض انتفاضة العذراء المذعورة يفجؤها رجل في خلوتها"، ثم يصور الأمر الإلهي بخلق سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام كما لو كان جريمة اغتصاب لفتاة عذراء، فيقول في وصفه لشعور السيدة مريم عندما جاء الملك بالأمر الإلهي، "قد تكون حيلة فاتك يستغل طيبتها يصارحها بما يخدش سمع الفتاة الخجول وهو أنه يريد أن يهب لها غلامًا وهما في خلوة وحدهما.. ثم تدركها شجاعة الأنثى تدافع عن عرضها"، بل ويزعم سيد قطب أن القرآن قد ترك الخيال ليتصوّر ذلك بين "الرجل الغريب والفتاة الخجول"، فيقول قطب "هنا نجد فجوة من فجوات القصة.. فجوة فنية كبرى.. تترك الخيال يتصورها كما يهوي"، فهل هذا الكلام الهابط والساقط من جانب سيد قطب يمكن أن يجوز في حق السيدة مريم التي يخاطبها المولى عز وجل، بقوله تعالى: "يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين" (24 آل عمران)، بل هل يجوز في حق القرآن الكريم كتاب الله أن يصفه سيد قطب بأن فيه (فجوة فنية كبرى)؟! ولكنه كلام قطب الذي يعكس ما في داخل نفس من نجس ومنكر وسوء خلق ونقص إيمان، في مَن اصطفاهم المولى عز وجل على العالمين، ثم أين ما يزعمه سيد قطب ومريدوه والمدافعون عن كتابه هذا من فن وأدب في كل هذا الكلام الهابط الذي حول به سيد قطب القصص القرآني الذي يصفه المولى عز وجل بأنه "أحسن القصص" إلى أسوأ القصص.
 
وفي قول المولى عز وجل "فاقصص القصص لعلهم يتفكرون" (الأعراف 176)، فهل من الحكمة الإلهية أن يأمر الله الرسل أن يتفكّر الناس في جرائم كما هو واضح من كتاب سيد قطب، فضلًا عن الإسرائيليات، والذي يسيء أبلغ إساءة إلى رسل الله، فهل هناك من هدم لعقيدة المسلم أخطر من ذلك؟
 
إن دعوة سيد قطب التي تصف الرسل بهذه الأوصاف الذميمة وتروّج لهذه المعتقدات لا يمكن أن تكون دعوة للهداية وإنما هي دعوة للفحشاء، فإذا كان المولى عز وجل يأمرنا بالتأسّي برسل الله الكرام والطاعة الكاملة لحضراتهم، مصداقًا لقوله تعالى "لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة"، فإن ترديد سيد قطب للإسرائيليات التي تسيء إلى رسل الله إنما هو تشكيك في أن هؤلاء الرسل هم الأسوة الحسنة للمؤمنين، كما يشكّك في اصطفاء المولى عز وجل لحضراتهم لحمل رسالاته، وسيد قطب في هذا إنما يفتح الباب على مصراعيه أمام الناس لارتكاب ما يشاءون من الفواحش طالما أن هناك مَن ينسب هذه الفواحش ذاتها إلى رسل الله وهم الأسوة التي يجب على كل مسلم التأسي بها. فكيف يمكن لسيد قطب الذي يدعو لهذه المعتقدات في رسل الله أن يدعو المسلمين بعد ذلك إلى (الحكم بما أنزل الله)، وهو الذي لم يلتزم بالركن الأساسي في الإيمان وهو الإيمان بعصمة الرسل وتوقيرهم التوقير الكامل؟ بل وكيف يحق لسيد قطب أن يرمي المسلمين بالكفر ويصم مجتمعاتهم بالجاهلية، ثم يزعم أنه يستهدف الوصول إلى الحكم بدعوة إعادة المسلمين إلى الإسلام من جديد؟! إن نظرة واحدة إلى هذه المعتقدات عن رسل الله التي يروّج لها سيد قطب في كتبه تقطع بأن كل ما يدعو إليه باسم (الحاكمية لله) أو(الحكم بما أنزل الله) إنما هي شعارات لا تستهدف سوى الوصول إلى الزعامة والسلطة. وليس لها على الإطلاق أي علاقة بالهداية وتربية النفوس وتطهير القلوب والتأسّي برسل الله الكرام والاهتداء بهديهم، وهو أساس أي دعوة صادقة إلى الله تعالى، ومقصد القرآن الكريم على حكم قوله تعالى "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم".
 
التضارب والانقلابات في علاقات سيد قطب بالآخرين
- مع بداية الخمسينيات برز سيد قطب كاتبًا وشاعرًا وأديبًا وناقدًا، اقترب جدًّا من عباس العقاد، بل وعاش في كنفه، واستفاد كثيرًا من هذه العلاقة، حيث قدمه العقاد إلى معظم الصحف والمجلات التي كتب فيها، ولكنه رغم هذه العلاقة القوية التي ربطت بين الرجلين نحو ربع قرن انفصلا واختلفا، وكان السبب رفض العقاد أن يكتب مقدمة لكتاب سيد قطب. وهذا الاضطراب في علاقات سيد قطب بغيره من الناس يمكن اعتباره سمة اتسمت بها سلوكياته عبر تاريخه الأدبي والسياسي وحتى إعدامه. فإنه يحب ثم يكره وفي كلا الحالين يكون الغلو سمة مميزة في أقواله وأفعاله.
 
- كذلك كان الأمر مع طه حسين، ففي كتاب سيد قطب (طفل القرية) والذي ضاهى به كتاب الأيام لطه حسين، كان الإهداء "إلى صاحب كتاب الأيام، إلى د.طه حسين بك، إنها يا سيدي كأيامك، عاشها طفل في القرية، في بعضها من أيامك تشابه، وفي سائرها عنها اختلاف، اختلاف بمقدار ما يكون بين جيل وجيل، وقرية وقرية، وحياة وحياة". ولكنه لا يلبث أن يهاجم طه حسين هجومًا شديدًا لديدًا وقاسيًا، نقرأ هذا التناقض في موقف سيد قطب من طه حسين، بأنه خاض هذه المعركة إرضاءً لأستاذه العقاد الذي كان آنذاك يخوض ذات المعركة، ويرى آخرون أن "شهرة سيد قطب النقدية قد جاءت بسبب هجومه القاسي على طه حسين".
 
- ويرجع البعض هذا الاضطراب في كتابات سيد قطب عن العقاد وطه حسين.. وغيرهما، إلى أنه انتظر وطال انتظاره أن يعاملوه بالمثل، ويردوا إليه التحية بمثلها وليس بأحسن منها، ولكن دون جدوى، لذلك انقلب عليهم جميعًا بعد أن تجاهلوا أعماله، وهذا سبب تمرده وسخطه على النقد والأدب والشعر واتجاهه إلى الكتابة عن القضايا الاجتماعية والسياسية، وكان هذا التوجّه الجديد والتحوّل في الاهتمام طبيعيًّا أمام عدم نجاح كتاباته السابقة وعدم تحقيق ما يريد منها.
 
- وإذا انتقلنا إلى التضارب والانقلابات في حياة سيد قطب السياسية، نجد ذلك واضحًا جليًّا في تأييده ودعمه ثورة 23 يوليو 1952، ومساندته المطلقة قادة الثورة وهجومه الشديد على عصر الملكية السابقة، بل ومطالبته قادة الثورة بممارسة ما أطلق عليه (ديكتاتورية إصلاحية)، وكان سيد قطب يطمح في أن يتولّى أحد منصبين: وزير المعارف أو مدير الإذاعة، ولما فشل في تحقيق هذا الهدف انقلب على قادة الثورة وهاجمهم بعنف حتى إنه حرّض جماعته على اغتيالهم، وهو ما سنتعرض له بالتفصيل في حلقة قادمة.
 
الإباحية والمجون عند سيد قطب
- ويمضي سيد قطب يكتب شعرًا ونثرًا ونقدًا وسيرة ذاتية، وبعضها يحمل أفكارًا ذات طابع ليبرالي صارخ، وأحيانًا ذات طابع إباحي ماجن. فقد كتب كثيرًا عن الترجمة العربية التي قام بها د.إبراهيم أمين الشواربي لغزليات الشاعر الفارسي حافظ شيرازي، وينتقي منها ما يؤكد تغلغل الجنس في أهوائه، مثل "إن شفة الحبيب ياقوته ظمأي إلى الدماء، وأنا من أجل رؤيتها أضحي بالروح". ويستطرد سيد قطب قائلًا "مبعثر الخصلات، محمر الوجنات، ضاحك الأسنان تلعب به الخمر، سكران، ممزق القميص، يتغنى بالألحان، في يده إبريق من بنت ألحان.. وها قد شربنا ما صبّه الساقي في كؤوسنا". ثم يعلّق سيد قطب على شعر حافظ شيرازي هذا، قائلًا "إن كاتب هذا الشعر نشوان بالخمر الإلهية أو النواسية (نسبة لأبي نواس)، وليقل ما يشاء وكيف يشاء، فهو خير عند نفسه وعند الله من المرّائين المنافقين ومن الوعاظ الثقلاء"!! وكلمات كهذه هي التي دفعت البعض إلى التشكيك في مدى تدين سيد قطب، ومن هؤلاء النقاد محمد الغمراوي -أستاذ الكيمياء بكلية الطب- معرضًا بسيد قطب، قائلًا "ليست المسألة بين القديم والجديد كما يسمونها، وليست اختيارًا بين أدب وأدب، وطريقة وطريقة، ولكنها في صحيحها مسألة اختيار بين دين ودين"، وقد ردّ عليه سيد قطب ردًّا عنيفًا طالبه فيه بتنحية الدين جانبًا بعيدًا عن القضايا الأدبية والعلمية، وهو ما دفع البعض لاتهامه بالعلمانية، فضلًا عن الإلحاد وشكّه في الدين، وفي ذلك يقول سليمان فياض، في مقال له بمجلة الهلال سبتمبر 1986، بعنوان "سيد قطب بين النقد الأدبي وجاهلية القرن العشرين"، "إنه سمع بأذنيه من سيد قطب أنه ظل ملحدًا أحد عشر عامًا"، يؤكد ذلك ما قاله عباس خضر في سلسلة اقرأ تحت عنوان "هؤلاء عرفتهم" مارس 1983 ص 56: "إن سيد قطب قال له يومًا إن الدين ضرورة لقيادة القطعان البشرية، ولا يمكن أن يسلس قيادها بغيره". والغريب في شأن هذه القصة التي يطالب فيها سيد قطب بتنحية الدين جانبًا بعيدًا عن القضايا الأدبية والعلمية، نجده بعد ذلك يبضع سنوات يصدر كتابه (معالم في الطريق)، الذي يخلط فيه وبشدة بين الدين والسياسة إلى حد مطالبة جماعته باستخدام العنف باسم الدين من أجل الوصول إلى السلطة والحكم!!
 
- ومما قيل أيضًا عن سيد قطب إنه كان إباحيًّا وماجنًا وداعيًا إلى العري التام، وفي ذلك يقول المؤرخ الإخواني محمد عبد الحليم، إنه "قرأ مقالًا منشورًا في الأهرام في 17 مايو 1934 للأستاذ سيد قطب يدعو فيه للعري التام، وإلى أن يسير الناس في الشوارع عرايا تمامًا كما ولدتهم أمهاتهم"، ثم يستطرد المؤرخ الإخواني، قائلًا "إنه عرض على الأستاذ حسن البنا أن يرد عليه، لكن البنا منعه حتى لا تشتهر هذه الفكرة، ولعل الله يهدي سيد قطب"، ورأى هذا المؤرخ أن سيد قطب كان متأثرًا في هذه الدعوة بموجة العري التي كانت تجتاح أوروبا والولايات المتحدة آنذاك.
 
 ""
 
- ويستند مَن يتّهمون سيد قطب بالإباحية والمجون إلى قول صديقه عباس خضر، بأنه كان "على كثير من المجون الذي يصطنعه بعض الأدباء"، وتتأكد هذه الخاصية في كتابات سيد قطب بما ذكره د.صلاح الخالدي في كتابه (سيد قطب بعد الميلاد إلى الاستشهاد) والذي ذهب فيه إلى أن قصة الحب داخل رواية (أشواك) التي كتبها سيد قطب، هي قصة وتجربة سيد قطب نفسه، وفي الرواية مشاهد تكشف عما يمكن تسميته بالمجون، فالبطل في الرواية (سامي) -الذي هو سيد قطب- يذهب إلى (سميرة) خطيبته وحبيبته في المنزل "يقتحم عليها حجرة نومها ويفاجئها وهي أدنى إلى العري منها إلى الستر، وكانت تخول له أن يبيت في دارها دون أن يعترض والدها على ذلك، وكانت تتيح له أن ينفرد بها في ممر الدار، ويعتصرها اعتصارًا، ويرتشف منها ما شاء من رحيقها المذخور"، ويمضي سيد قطب في روايته بأن "(سميرة) صدمته عندما صارحته بأنها أحبّت قبله شابًّا غيره هو (ضياء) وكان حبًّا عنيفًا. وعاش (سامي) في حياة من (الأشواك) عدة سنوات غير قادر على إتمام الزواج بعدما صارحته به، وغير قادر على الابتعاد عنها، لأنه يحبّها ولا يمكن أن يعيش دونها، ولم تحقق الرواية أي نجاح، ولم يثنِ عليها ولا أشاد بها أحد من النقاد". ويعلق د.صلاح الخالدي على القصة بأنها تعبر عن تجربة شخصية وذاتية لسيد قطب، وأطلق عليها حبّه الثاني في القاهرة، وقال إن قصة الحب تلك وقعت أواخر الثلاثينيات، وأن مصدر هذه المعلومة هو شقيق سيد قطب الأصغر محمد قطب، ومن المعروف أن سيد قطب لم يتزوّج في حياته.
 
- ويذكر الأستاذ حلمي النمنم في كتابه (سيد قطب وثورة يوليو) ص 69 "قال لي أحد الصحفيين القدامى الذين عملوا مع سيد قطب في مجلة (العالم العربي) إنه حتى سنة 1948، كان يتردد بين الحين والآخر على بار (اللواء) ويحتسي قليلًا من (الكونياك) وكان مشروبه المفضل". ثم يمضي الأستاذ النمنم، قائلًا "حكى أحد مريدي سيد قطب -سابقًا- وهو علي العشماوي، أنه كان في منزل سيد قطب سنة 1965 هو وبعض (إخوانه) يتباحثون في أمور (التنظيم) -الذين حوكموا بسببه بعد ذلك- وكان اليوم (جمعة) وكانت الجلسة ضاغطة، وجاء ميعاد الصلاة، فقال علي عشماوي (دعنا نقوم ونصلّي، وكانت المفاجأة أن علمت -ولأول مرة- أنه لا يصلي الجمعة). وينقل عشماوي عن شيخه سيد قطب أنه يرى-فقهيًّا- أن صلاة الجمعة تسقط إذا سقطت الخلافة، وأنه لا جمعة إلا بخلافة، وكان هذا الرأي غريبًا عليّ، ولكني قبلته، لأنه في ما أحسب أعلم منّي"!!، وهكذا فإن سيد قطب في الأيام الأخيرة من حياته، ورغم كل ما كتبه في الدين وانغماسه في نشاط الإخوان، لم يكن -لأسباب فقهية من وجهة نظره البعيدة تمامًا عن الدين- يؤدّي صلاة الجمعة!!
 
- ويعلق على كل ذلك الكاتب الصحفي عادل حمودة، في كتابه (سيد قطب من القرية إلى المشنقة) ص 15، "إن أتباع سيد قطب نسوا أيام كان يكتب عن المرأة والعشق وموسيقى الجاز، ويدعو أن تكون مصر مستعمرات للعراة، وهم يتمنون أن يفقد من ذاكرة التاريخ ذلك الجزء من أيامه كأن لم يكن، لتبدأ قصة حياته في لحظة الهداية والعقيدة، وبداية الطريق إلى الاستشهاد". وتبقى عبارة أخرى لعادل حمودة في هذا الصدد يقول فيها ص 7 من نفس المصدر، "لقد كان لسيد قطب أكثر من وجه وأكثر من لون، وأكثر من لقب.. فهو معلم وشاعر.. ومفكّر ومفسّر وملحد ومسلم ومتطرّف، ومصلح ومبدع، ومجاهد ومجتهد وشهيد، فتحولاته حادة وتغيّراته مذهلة وصورته لم تحبس نفسها في إطار ثابت".
 
بعثته الغامضة إلى أمريكا
- فوجئت الأوساط الثقافية في سنة 1948 بسفر قطب إلى الولايات المتحدة في بعثة تعليمية تحت اسم "مهمة ميزانية" للاطلاع على المناهج وأصول التربية هناك، ولم تكن البعثة مرتبطة بمدة معينة، كما هي عادة البعثات، ولم يكن سيد قطب مرسلًا إلى جامعة بعينها كما جرى العرف أيضًا، ولم تكن من أجل الحصول على درجة علمية، ولهذه الأسباب ولغيرها، نظر المتابعون والباحثون إلى تلك البعثة بارتياب شديد وصل إلى حد الاتهام، وكان منبع الارتياب أن البعثة جاءت فجأة وشخصية، فلم يعلن عنها ليتقدّم لها مَن يرى نفسه كفئًا لها، كما أن المبتعث سيد قطب تجاوز السن التي تشترط إدارة البعثات توفرها بكثير، فقد سافر وسنه 42 سنة، وأنه نقل عند تخصيصها له مراقبًا مساعدًا بمكتب الوزير، ويتساءل د.طاهر مكي الأستاذ بكلية دار العلوم، "مَن الذي أوحى بالبعثة وفكرتها؟ ودفع سيد قطب إليها؟ ولماذا كانت الغاية الحقيقية من ورائها بعيدًا عن الظاهر غير المقنع؟" ويستطرد د.مكي، قائلًا "واضح أن ذهاب سيد قطب إلى الولايات المتحدة كان وليد تخطيط أمريكي خفي بعيدًا عن سيد قطب بداهة ولم يعرفه أكيد، فمن الغريب والعصبية والمعهدية على أشدها في تلك الأيام في وزارة المعارف.. أن تخصص بعثة لموظف من دار العلوم وفي مثل هذه السن.. ولم يكن يدري أنه كان جزءًا من رهان أمريكي، وفي ما بعد اعترف سيد قطب لرفيقه في السجن سيد سالم، أنه وقّع تحت إغراء الأوساط الأمريكية بكل الوسائل، ولكنه لم يسقط في شباك أي منها، لكنه على أي حال عاد من أمريكا ساخطًا عليها، معاديًا لها". وقد تأثّر د.حافظ دياب بتساؤلات د.مكي والاتهام الذي انتهى إليه وأخذ به في كتابه عن سيد قطب "الخطابة والأيديولوجية عند سيد قطب". أما الناقد والكاتب أحمد عباس صالح فقد ابتعد في انتقاده لهذه البعثة عن المعايير البيروقراطية والمدرسية في اختيار سيد قطب لهذه البعثة، واستند إلى معاير وخطاب اليسار في الستينيات، فيقول "سيد قطب لفت أنظار الاستعمار منذ وقت مبكر بكتاباته المناوئة للاشتراكية بدعوى أن الإسلام والاشتراكية متناقضان، فدُعي إلى الولايات المتحدة وأمضى أكثر من عام، عاد بعدها لينشر كتابًا مليئًا بالمغالطات ضد العدل الاجتماعي وضد الفكرة الاشتراكية تحت ستار الدعوة الإسلامية".
 
- ويشارك د.حلمي النمنم في هذه التساؤلات قائلًا في كتابه المشار إليه آنفًا ص 90 "كان سيد قطب منذ سنة 1946 يعلن كراهيته للغرب كله، واحتقاره لأمريكا واحتقاره للمصريين الذين يشاركونه هذه المشاعر.. لماذا إذن قَبِل البعثة، ولم يترك الفرصة لغيره، إن الرحلة لم تفده ولم تفد المجتمع، وبالتأكيد فإنه حصل على فرصة إنسان آخر كان يستحقها أكثر منه".
 
- أما عادل حمودة، فيقول وهو يوشك أن يوجّه اتهامًا "إن أمر هذه الزيارة مثير للحيرة والقلق، ويرسم العديد من علامات الاستفهام والتعجب، فقد جاءت في وقت كان يهاجمه فيه النظام الملكي بمقالات نارية. ثم لماذا أمريكا بالذات في تلك الفترة، وقد كانت بريطانيًّا أولى وأقرب دومًا بالنسبة إلى مَن يريدون دراسة المناهج التربوية الغربية".
 
- ويثير ذات الغبار المتسائل الأستاذ علي الدالي، فيقول "يرى البعض أن سفر قطب إلى أمريكا كان أمرًا مثيرًا للدهشة، كما عبّر صديقه يحيى حقّي عن دهشة أكبر لانضمام قطب إلى الإخوان بعد عودته من أمريكا"، كما أن الأمر الغريب هو أن سيد قطب ما أن عاد من بعثته إلى أمريكا حتى قدم استقالته من وزارة المعارف.
 
- أما السؤال الذي يخص سيد قطب ويفرض نفسه عليه، فهو: لماذا وافق على هذه البعثة من الأساس وقام بها، خصوصًا أنه كان يعمل في ديوان الوزارة، مما يؤكد أنه يعمل بها منذ المراحل الأولى لإقرارها، ويعلم أيضًا أن بعثته هذه كانت ممولة من مشروع "النقطة الرابعة" الذي تبناه الرئيس الأمريكي ترومان بعد الحرب العالمية الثانية، ولقد كان كل البعثات إلى الولايات المتحدة التي لا يحصل أصحابها على الماجستير والدكتوراه ممولة من هذا المشروع. كما أن البعثة كانت كما قيل بعد هذا أنها كانت بعثة فريدة من نوعها، فلم يكن مقررًا لها أي دراسة محددة أو حتى جامعة محددة، بل هي بعثة حرة فقد ترك له حق التجول في كل أمريكا، والإقامة حيث يشاء، والالتقاء بمن يشاء، وقد بقي في أمريكا قرابة ثلاث سنوات، حيث عاد في صيف عام 1951.
 
- ذهب سيد قطب إلى الولايات المتحدة، وخضعت بعثته -المسماة بالحرة- إلى تخطيط أمريكي دقيق من جانب الأجهزة المخابراتية هناك، حيث أُجريت له ترتيبات لزيارة المحافل الماسونية، ومراكز الدراسات السياسية والاستراتيجية، ومراكز صنع القرار السياسي في أمريكا.. مثل مجلس الكونجرس ووزارة الخارجية والبنتاجون والبيت الأبيض ومجلس الأمن القومي، ووكالة المخابرات المركزية، والكنائس الكبرى والنوادي، ومراكز الاتصال من صحافة وإذاعة وسينما وتليفزيون، والجامعات ومراكز الأبحاث، وجماعات اللوبي المؤثرة في صنع القرار وأبرزها اللوبي اليهودي واللوبي الأسود، وغيرها من جماعات الضغط، فضلًا عن المؤسسات الاقتصادية، ومقرات الأحزاب السياسية (الديمقراطي والجمهوري). كما اطّلع سيد قطب على نظريات القرار السياسي الأمريكي ونماذج صناعته وفن العملية السياسية وأدوارها ودور المؤسسات الدستورية فيها.. إلخ، وقد استمرت بعثة سيد قطب عامين، أمضى العام الأول في تعلم اللغة الإنجليزية.
 
- ولقد عاش سيد قطب حياته في أمريكا طولًا وعرضًا، وانغمس في الحياة الأمريكية بكل مساوئها وموبقاتها، وعن ذلك يحكي في مقال له بمجلة الرسالة عام 1951 تحت عنوان (ليلة حمراء)، قال فيه: "كانت ليلة في إحدى الكنائس ببلدة جريلي بولاية كولورادو، فقد كنت عضوًا في ناديها كما كنت عضوًا في عدة نوادٍ كنسية في كل جهة عشت فيها، وبعد أن انتهت الخدمة الدينية في الكنيسة، واشترك في الترتيب فتية وفتيات من الأعضاء، وأدّى الآخرون الصلاة، دلفنا من باب جانبي إلى ساحات الرقص الملاصقة لقاعة الصلاة يصل بينهما باب، وصعد (الأب) إلى مكتبه، وأخذ كل فتى بيد فتاة. وكانت ساحة الرقص مضاءة بالأنوار الحمراء والصفراء والزرقاء، وبقليل من المصابيح سالت الساحة بالأقدام والسقان الفاتنة والتفت الأذرع بالخصور والتفت الشفاة والصدور.. وكان الجو كله غرامًا، وحينما هبط (الأب) من مكتبه وألقى نظرة فاحصة على المكان ومَن في المكان، وشجع الجالسين والجالسات ممن لم يشتركوا في الحلبة على أن ينهضوا فيشاركوا، وكأنما لحظ أن المصابيح البيضاء تفسد ذلك الجو (الرومانتيكي) الحالم، فراح في رشاقة الأمريكاني وخفّته يطفئها واحدًا واحدًا، وهو يتحاشى أن يعطّل حركة الرقص، أو يصدم زوجًا من الراقصين في الساحة، وبدأ المكان بالفعل أكثر (رومانتيكية) وغرامًا، ثم تقدّم إلى (الجراموفون) ليختار أغنية تناسب ذلك الجو، وتشجع القاعدين والقاعدات على المشاركة فيه.. واختار أغنية أمريكية مشهورة اسمها But baby its cold out side، وهي تتضمن حوارًا بين فتى وفتاة عائدين من سهرتهما، وقد احتجزها الفتى في داره، وهي تدعوه أن يطلق سراحها لتعود إلى دارها فقد أمسى الوقت وأمها تنتظرها، وكلما تذرّعت إليه بحجة أجابها بتلك الأغنية (ولكنها يا صغيرتي باردة بالخارج). (الشرق الأوسط 4/1/2012)، ويعقّب الكاتب السعودي مشعل السديري على هذا المقال فيقول "ولكن سيد قطب بعد منتصف الخمسينيات انقلب (180 درجة)، والغريب أنه تأثّر بالمفكر الهندي (أبو الأعلى المورودي) الذي لا يحسن حتى التحدث بالعربية، وفي كتابه (معالم في الطريق) انقلب إلى وحش ظلامي كاسر يكفّر المجتمعات برمتها، وكل الأفكار والأعمال والأسماء الإرهابية في العقود الأخيرة، كلها خرجت من تحت عباءته، أمثال بن لادن والظواهري والزرقاوي والمقدسي والعولقي، وقد انطبق عليه المثل الشعبي القائل "يا سراجين يا ظلمًا)!!"    
 
- ويؤكّد سيد قطب حقيقة ما سطّره في مقاله السابق في مقال آخر في الرسالة نشر في 19 نوفمبر 1951، يقول فيه "يبدو الأمريكي بدائيًّا في نظره إلى الحياة.. تلك البدائية التي تذكّر بعهود الغابات والكهوف..". ويضيف في نفس المقال "إذا كانت الكنيسة مكانًا للعبادة في العالم المسيحي كله، فإنها في أمريكا لكل شيء إلا العبادة، وأنه ليصعب عليك أن تفرّق بينها وبين أي مكان آخر، معد للهو والتسلية"، وفي مقال ثانٍ بالرسالة في 3 ديسمبر 1951، يقول سيد قطب "الأمريكي بدائي في ذوقه الفني، سواء في ذلك تذوّقه للفن وأعماله الفنية.. ولم ألمح خلال هذه الفترة الطويلة من الزمان، ولا خلال تلك المساحة الشاسعة من المكان -إلا في مرات نادرة- وجهًا إنسانيًّا يعبّر عن معنى الإنسان، أو نظرة تطل منها معاني الإنسانية، ولكنني وجدت القطيع في كل مكان، القطيع الهائج الهائم، لا يعرف له وجه غير اللذة والمال، لذة الجسد الغليظة التي ترتوي حتى تهمد، وتهدر ريثما تستيقظ في سعار ورغبة المال التي تنفق الحياة كلها خيرها وشرها، ليلها ونهارها في سبيل الدولار". ثم يعترف قائلًا "إن أمريكا تمسخ وتشوّه الذين يدرسون فيها، والذين يتخرّجون في جامعات فيعودون إلى بلادهم دون شخصية أو كيان، ودون علم أو أدب أو خلق". ويبدو أن سيد قطب كان صادقًا مع نفسه في ذلك، حيث حسمت بعثته إلى أمريكا أمورًا عديدة داخل سيد قطب، أهمها الانقطاع كليًّا عن النقد والدراسات النقدية، والابتعاد عن دنيا الأدب والأدباء، وقد أعلن ذلك من هناك في رسالة بعث بها إلى أنور المعداوي، في أوائل مارس 1950، قال فيها "تنتظر عودتي لأخذ مكاني في ميدان النقد الأدبي؟.. أخشى أن أقول لك إن هذا لن يكون، وأنه من الأولى لك أن تعتمد على نفسك إلى أن ينبعث ناقد جديد!! إنني سأخصص ما بقي من حياتي وجهدي لبرنامج اجتماعي كامل يستغرق أعمار الكثيرين"، د.حلمي النمنم - مصدر رسالته ص 89، وبالفعل كان هذا البرنامج هو تخريب المجتمعات الإسلامية، باسم الإسلام.
 
خلاصة القول
- حقيقة الأمر أن سيد قطب ذهب إلى أمريكا في مهمة اختارته لها الأجهزة والمؤسسات المخابراتية والسياسية التي تؤسس هناك للحفاظ على المصالح الأمريكية وتحقيق الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط على المدى البعيد، وأبرزها فرض التنمية الأمريكية على بلدان الشرق الأوسط، واستغلال مواقعها وثرواتها في الحرب الكونية الأمريكية، ضد الشيوعية والاتحاد السوفييتي آنذاك، وتمثّله روسيا اليوم، وهي حرب ستكون ممتدة عبر القرن الحادي والعشرين الحالي، ولكي يتحقّق هذا الهدف فكان على أجهزة التخطيط الأمريكية أن تعمل على إضعاف دول المنطقة وجيوشها وذلك بتقسيمها عرقيًّا وطائفيًّا ومذهبيًّا، وهو ما عبّر عنه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش بـ"الشرق الأوسط الكبير أو الجديد"، وأسلوبها لتحقيق ذلك هو إثارة الفتن والطائفية والعرقية والصراعات السياسية المسلحة، مما يؤدّي إلى ما عبّرت عنه كوندليزا رايس وزيرة الخارجية السابقة عام 2006 بـ"الفوضى الخلاقة". أما وسائل تحقيق ذلك فهي جماعات وأحزاب التيار الإسلامي، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما يفسّر التنسيق الكامل والعريض والعميق بين الإدارة الأمريكية وكتب إرشاد الجماعة في مصر، والتنظيم الدولي للإخوان طوال السنوات الماضية، ولتحقيق العنف والفوضى والصدامات الدموية كان يتعيّن إيجاد البواعث والمبررات العقائدية لذلك، وغرسها في عقول عامة الناس شبابًا وشيوخًا ونساءً وأطفالًا، وتلك كانت مهمة سيد قطب الذي تم تجنيده لها من قبل الولايات المتحدة، ونجح فيها بامتياز عندما أرسى في كتبه أفكار تجهيل المجتمع المصري وتكفير أبنائه، ثم استحلال حرماتهم، وإيكال هذه المهمة إلى جماعة الإخوان، لتقويض أركان هذا المجتمع وإزالة نظامه الحاكم بدعوى إقامة المجتمع الإسلامي وتطبيق الشريعة الإسلامية.
 
لذلك فإن الرسالة التي تحملها هذه المقالة، هي موجّهة في الأساس إلى شباب جماعة الإخوان الذين يتأسّون بسيد قطب أو يقتدون بما جاء في كتبه، ويعتقدون باطلًا أنه جدّد في الإسلام وأرسى له قواعد جديدة، بل ويصلون به إلى مرتبة التقديس، وأنه بما كتبه وشارك فيه من مجون وإباحية على النحو الذي وصف به الليلة الحمراء التي قضاها في الكنيسة الأمريكية، ليس محلًّا للاقتداء، ولا التأسّي، كما أنه بإساءته إلى رسل الله الكرام في كتابه (التصوير الفني في القرآن) مطعون في إيمانه، لأن الأصل في الإيمان هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشرّه، وبالتالي فإن كل من يسيء إلى أي من رسل الله على النحو الذي كتبه سيد قطب في كتابه، المشار إليه آنفًا، فهو إنسان مطعون في إيمانه، ومن ثَم لا ينبغي التأسّي ولا الاقتداء به، ولا في كل ما يكتبه ويقوله، لا سيما بعد أن أثبتت الأحداث الإرهابية التي تعرّضت لها المجتمعات الإسلامية خلال القرن الماضي والحالي، كانت بسبب الفتنة الدامية التي أشعلتها كتب سيد قطب، التي كفّر بها المجتمعات الإسلامية وأهلها، ودعا لتقويضها.

More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
تنوية هام: الموقع غير مسئول عن صحة أو مصدقية أي خبر يتم نشره نقلاً عن مصادر صحفية أخرى، ومن ثم لا يتحمل أي مسئولية قانونية أو أدبية وإنما يتحملها المصدر الرئيسى للخبر. والموقع يقوم فقط بنقل ما يتم تداولة فى الأوساط الإعلامية المصرية والعالمية لتقديم خدمة إخبارية متكاملة.