كمال زاخر
الفتور الروحى تجربة تصيب إرادة الأنسان؛ فإذا وقف للصلاة لا يجد ما يقوله ولا يجد القدرة على متابعة الصلاة، وإذا جلس يقرأ يكون الكتاب فى يده شبه الرصاص، وربما يظل مفتوحاً أمامه يوماً كاملاً ولا يستطيع أن يستوعب منه سطراً واحداً.
 
العقل يكون مشتتاً فاقد القدرة على التركيز ومتابعة المعنى، والإرادة المهيمنة على كل النشاط منحلة، فالرغبة فى الصلاة موجودة ولكن القدرة والإرادة منحلة، وقد تصاب الرغبة فى الصلاة أيضاً فى النهاية فيصبح الإنسان غير قادر وغير راغب فى الصلاة ولكنه متألم وحزين على هذا الحال ولا حول ولا قوة له على إصلاح شئ.
 
 إذا حاول الإنسان الدخول إلى أعماق نفسه يتوه سريعاً، فلا يبلغ أعماق نفسه!! وكأنه قد تاه عن قاعدة روحه وتغرب عن جوهر حياته!! وإذا حاول الإنسان أن يختبر إيمانه ويقيسه سراً فى قلبه، يجد أنه غير حى وغير موجود.
 
وإذا قرع باب الرجاء والتمسك بمواعيد الله التى كان يحبها ويعيش عليها، يجد الرجاء قد تجمد ووقف عند نقطة الحاضر الباردة لا يريد أن يتعداها.
 
وينتهز العدو هذا الظرف المواتى له ويضرب بشدة محاولاً أن يقنع الإنسان بالفشل وضياع كل جهاده وتعبه هباءً، وأن كل منهجه الروحى لم يكن صحيحاً ولا حقيقياً بل كان مجرد أوهام وانفعالات، ويضغط على الفكر لكى ينكر الحياة الروحية كلها دفعة واحدة.
 
 لكن من وسط هذه الحروب الداخلية الطاحنة للنفس تحس النفس من وراء الستار أن هذا كله غير صحيح، وأن وراء هذه الظلمة يوجد شئ!، كما تحس النفس أنها لا تزال مربوطة رغماً عنها بالله الذى تخلى عنها، وأنها تعبده أيضاً دون أن تحس وحتى دون أن تريد!! وأنه لا تزال تُقام صلاة داخل القلب فى الأعماق بعيداً جداً عن إحساس العقل وتمييزه بل ودون أن يتلقى عنها الضمير أى عزاء أو تأكيد.
 
 وحينما يحاول العدو أن يضرب ضرباته الأخيرة القاضية لكى تنكر النفس إيمانها أو رجاءها لا يجد العدو أى استجابة عملية، فالنفس تتنازل بالفكر مع العدو إلى اقصى ما يريد وإلى ابعد حدود الخطأ، ولكن أن تعمل فهذا مستحيل، فعند نقطة الإنتقال من التصورات والأفكار إلى حيز التنفيذ تنبرى الإرادة كالأسد الذى يهبُّ من رقدته فتفزع كل الثعالب المفسدة.
 
 إذن، فوراء الفتور الروحى علاقة بالله غير عاملة ولكن موجودة، وقوية جداً أقوى من كل وساوس الشيطان ولكن نائمة لا تستيقظ إلا عند حدود الخطر!
 
 غير أن هذه العلاقة العظيمة تكون مستورة عن النفس وعبثاً نحاول أن نقنع النفس بوجودها لكى تعتمد عليها أو تطمئن لوجودها. لأنه قد وُضع على النفس فى هذه التجربة أن تقف بمفردها!!
 
 لكن حزن النفس الشديد والمستمر على حالها الذى صارت إليه بعد النشاط والحرارة والإجتهاد الفائق إلى هذا الحال، كفيل أن يكون دليلاً حسياً وبرهاناً عملياً على بقاء النفس فى مجال الله، وعلى مسيرها دون أن تدرى فى مسارها الصالح، تقودها يد لا تراها وتحملها قوة لا تحسها.
 
 إذن، لا يظن السائر فى طريق الله أن حركة الإيمان التى وُلدت يوماً داخل القلب وأشعلته بنور الله كمصباح يتقد بالحب والغيرة ليدفع النفس كلها للمسير، يمكن أن تنسحب من الأعماق وتترك الإنسان مرة واحدة فارغاً بهذا المقدار.
 
 غير أن نور الله وحرارته لا يلزم أن يراهما الإنسان أو يحسهما دائماً فهما يظلان يعملان فى نور الحياة الحاضرة وظلامها، فى برودتها وحرارتها، فى سرورها وحزنها، دون توقف.
 
 فالطريق الروحى لا يُقاس بأوقات النور و الحرارة والسرور بالنشاط المثمر فقط، فإن أوقات التوقف والظلمة التى تحيط بالنفس والحزن الذى يضغط على القلب والبرودة التى تشل كل حركة العواطف الروحية، هذه أيضاً جزء لا يتجزأ من الطريق الروحى الضيق.
 
وكيفية مواجهتنا لهذه الظروف التى تبدو معاكسة ومؤلمة ومميتة، هى التى تقرر استحقاقنا للمضى فى الطريق وتكميلنا للسعى المبارك حتى نتكلل.
 
الله لا يسوق هذه التجربة على النفس جزافاً، فهناك أسباب تحتم دخول النفس فى هذه الخبرات، لكى يتعدل ميزان تقديرها للروحيات ويستقيم مسيرها فى الطريق الصاعد إلى فوق ويتقوى إيمانها بغير المنظور.
 
يتبع : [2] فى اسباب الفتور الروحى.