الأنبا إرميا
استكملنا الحديث فى المقالة السابقة عن «البابا زخارياس» وإلقائه مع أحد الرهبان إلى الأسود التى لم تضرهما، واضطهادات استمرت مدة تسع سنوات امتلأت بالأحزان والمتاعب والضيقات وتهديم الكنائس، إلى أن رُفعت تلك الاضطهادات عن المَسيحيِّين. وقد اهتم «البابا زخارياس» بتعمير الكنائس المتهدمة وإعادة بنائها حتى نياحته عام 1032م، فى أيام حكم «الخليفة الظاهر» ابن «الحاكم بأمر الله».

الخليفة الظاهر (411- 427هـ) (1021- 1036م)
هو «أبو الحسن علىّ» ابن «الحاكم بأمر الله» الفاطمىّ، ولُقبه «الظاهر»؛ وهو رابع خلفاء الدولة الفاطمية فى حكم «مِصر». تولى أمور الحكم بعد اختفاء أبيه «الحاكم بأمر الله» وقتله عام 411هـ (1021م)؛ فيذكر ابن التغرىّ أن «ست الملك» أخت «الحاكم بأمر الله» هى من رتبت أمور الحكم وكان فى السادسة عشرة من عمره: «فلما كان فى اليوم السابع (من اختفاء «الحاكم بأمر الله») ألبست «أبا الحسن علىّ» ابن الحاكم أفخر الملابس، واستدعت «ابن دواس»، وقالت له: المعول فى قيام هذه الدولة عليك، وتدبيرها موكل إليك، وهذا الصبىّ ولدك، فابذُل فى خدمته وسعك؛ فقبل الأرض ووعدها بالطاعة. ووضعت التاج على رأس الصبىّ - وهو تاج عظيم فيه من الجواهر ما لا يوجد فى خزانة خليفة - وهو تاج «المعزّ» جَد أبيه، وأركبته مركبًا من مراكب الخليفة، وخرج بين يديه الوزير وأرباب الدولة...»؛ كذلك كتب «المقريزىّ»: «فأخرجت «علىّ» ابن «الحاكم بأمر الله»، ولقبته «الظاهر» لإعزاز دين الله، وألبسته تاج «المعز» جَد أبيه - وهو تاج مرصع بالجواهر الفاخرة، وجعلت على رأسه مظلة مرصعة، وأركبته فرسًا رائعًا بمركب ذهب مرصع، وأخرجت بين يديه الأمير الوزير رئيس الرؤساء... فلما برز وشوهد، تقدم الوزير وصاح: يا عبيد الدولة، مولاتنا تقول لكم: هذا مولاكم أمير المؤمنين فسلموا عليه. فقبل «ابن دواس» الأرض، ومرغ خديه بين يديه، وفعل ما يتلوه من سائر طبقات العسكر مثل ذلك. وضربت البوقات والطبول، وعلا الصياح بالتكبير والتهليل، و«الظاهر» يسلم على الناس يمينا وشِمالًا.».

أما عن أمور الحكم، فتقسم مدة حكم الخليفة «الظاهر» إلى مرحلتين: الأولى منذ توليه الحكم حتى وفاة عمته «ست الملك» التى كانت تمسك بزمام السلطة وهى الحاكم الفعلىّ للبلاد. وتعددت كتابات المؤرخين عن «ست الملك» فذُكر عنها أنها تخلصت من جميع من عاونوها على قتل أخيها «الحاكم بأمر الله»، وأيضًا قتل ولىّ العهد «عبد الرحيم بن إياس» الذى عُين وليًّا للعهد من قبل «الحاكم بأمر الله» بدلاً من ابنه، كما تخلصت من الثائرين على «الدولة الفاطمية» مثل «عزيز الدولة» والى «حلب»؛ حتى تحفظ «الدولة الفاطمية» من التفتت والوهن.

كما ذكر بعض المؤرخين حسن تدبيرها لأمور الدولة إذ اتسمت بالحزم والرزانة والتحفظ مع الفطنة والذكاء: صفات قيل إنها جعلت لها مكانة خاصة لدى أبيها «العزيز بالله» إذ نالت محبته وثقته؛ فكان يستشيرها فى أمور الحكم؛ فقد كتب «أبو المظفر» يقول: «وملك «الظاهر» لإعزاز دين الله سائر ممالك والده، مثل «الشام» و«الثغور» و«إفريقية»؛ وقامت عمته «ست الملك» بتدبير مملكته أحسن قيام، وبذلت العطاء فى الجند، وساست الناس أحسن سياسة.». وقد قيل إنها ألغت كثيرًا من القوانين التى أصدرها «الحاكم بأمر الله»، وأطلقت الحرية للنساء فى الخروج من منازلهن بعد منع «الحاكم بأمر الله» إياهن مدةً طالت إلى سبع سنوات. وذكرت بعض المصادر أنها كانت تعطف على المَسيحيِّين؛ ولم تتوقف إدارتها على الشؤون الداخلية للبلاد، بل عمِلت على عقد اتفاقية صلح ومهادنة مع قيصر الروم لتأمين حدود «مِصر»، لكن المنية وافتها فى أثناء ذلك عام 414هـ (1023م) – وقيل 415هـ (1024م). و... والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهىّ!.

* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم