محمد حسين يونس

 خامسا : و تحكم الفاشيست .. فتدهورت البلاد و تخلفنا عن الدرب

قد يندهش الشباب عندما يعرفون .. أنه حتي العقد الثاني من القرن التاسع عشر لم يرتد مصرى زيا عسكريا و لم ينضم لقوات جيش بلده أو أسطولها . لقد كان هناك دائما غرباء يحملون السلاح .. و يرهبون العزل المسالمين .. يمنعون أن تمتلك مصر جيشا .
 
و مع ذلك فخلال الفترة من 525 ق.م و حتي اليوم (أى 2500 سنة ) لم يحكم مصر إلا ضباط و جنود .
 
فقد توالي علي حكم مصر قادة الغزاة مثل قمبيز ، الإسكندر ، بطليموس ، سيزر ، إبن العاص ، المعز لدين الله ، صلاح الدين الأيوبي ، سليم الأول ، نابليون ، محمد علي ،كتشينر ... أو حكمتها تنظيمات عسكرية .. كالمماليك .. الإنكشارية العثمانية .. و الضباط الأحرار .
 
وهكذا بإستثناء زمن يقترب من القرن تبدأ مع توقيع معاهدة لندن 1840 .. حتي إحتلال الإنجليز لمصر 1882 كان فيها الحكام من أبناء محمد علي غير العسكريين يحاولون توطيد أركان دولة عصرية (علي الأقل من حيث الشكل ) ... يضاف لها فترة أخرى من إحتلال بريطانيا لمصر حتي 1956 كان خلالهاهناك حياة سياسية مدنية .. خاضعة لتوجيهات قصر الدوبارة حيث مقر المندوب السامي ...كان هناك دائما نظام حكم سلطوى عسكرى إستبدادى .. إستعمارى لا يتوقف عن النهب و التدمير .ولا يهتم بتطوير أو تنميه السكان أو البلاد .. يثير بينهم الرعب .. و ينحط بقدراتهم إلي مستوى الأقنان .
 
الجيش المصرى الذى كونه محمد علي و إبنيه طوسون وإبراهيم .. قايض علية الباشا بحصوله علي فرمان يسمح له عام 1840 و لأنجاله بحكم مصر . فتوقفت مشاركة المصرى في جيش و أسطول بلدة .. كما لو كانت ومضه برق أنارت ثم إنطفئت .
 
الفترة من 1840 حتي 1882طور سلاطين و ملوك مصر أنظمة حكم مدنية (أوربية الطابع ) إتسمت (شكلا ) بديموقراطية و ليبرالية كانت فيها القوات المسلحة بعيدة عن الحكم ..ثم إنتهت بالإحتلال البريطاني لمصر إستمر لسبعين سنة
 
بعد معاهدة 36 .. سمح بتكوين الجيش الملكي .. و لكن بتدريب و قيادات بريطانية و تسليح خفيف .. و في 48 خاض أول حرب إنتهت في غير صالحة .. و لم نعد نسمع عن ضباطنا إلا صباح 24 يوليو 1952 .
 
بمعني أنه رغم أن حكام مصر خلال 2500 سنة كانوا عسكر ظلمة .. إلا أنهم لم يكونوا من المصريين إلا فترة قصيرة من 1952 حتي 2019 . فلم يكن قبلها مسموحا للمصرى بحمل السلاح .. فما بالك أن يحكم .
 
صاحب حكم العسكر في كل العصور أعمال النهب و التخريب و تجريف الثروة و نزحها خارج البلاد . .. و العنف في الجباية .. و الإستبداد .. و المركزية الممرضة شديدة القسوة . و قد تكون أحداث دنشواى .. ماثلة في الذاكرة كنموذج لهذا الرعب .لذلك كانت مشكلة مصر يتم تلخيصها .. في الفقر و الجهل و المرض و كان حلمها التخلص من حكم الغرباء و عسكرهم و جباتهم .
 
هذا البوست ليس تاريخا .. ولا يطمع في سرد الأحداث بتسلسلها .. و لكنه يتابع صعود أحلام الطبقة الوسطي من منتصف القرن التاسع عشر .. ثم إنهيارها مع سبعينيات القرن العشرين .... و كيف تحول الجيش الوطني من أمل يسعي إليه المصريون .. إلي مفرخة للحكام المستبدين ..يسلم السلف للخلف فيها الصولجان متجاهلا أن هناك قوى سياسية أو إجتماعية أصلح منه للحكم .
 
فى هذه الفترة خاض العالم حربين عالميتين تم خلالهما صعود وسقوط الفاشيست فى أوروبا وانتهاء الخلافة الاسلامية العثمانية واندلاع ثورات شعبية مقاومة للاستعمار الانجليزى والفرنسى وتأسيس الاتحاد السوفيتى واسرائيل ..
 
وكان لكل هذا تأثيره على الشارع المصرى فظهرت ونمت تنظيمات شيوعية وقومية وفاشيستية دينية ( الاخوان المسلمين ومصر الفتاة )، جنبا الى جنب مع حركات التنوير الليبرالية والاشتراكية . وهاجر الى مصر كل من عانى من الاضطهاد المذهبى أو الفكرى أو أراد ان يطور من إمكانياته العلمية والفنية والاقتصادية ، أسماء كثيرة جعلت من القاهرة والاسكندرية منارات للمعرفة والفن ، على سبيل المثال لا الحصر (روز اليوسف ، الأخوان تكلا ، نجيب الريحانى ، فريد الأطرش ، بيرم التونسى ..... )
 
مصر فى تلك الفترة كانت قد وعت ذاتها بعد اكتشاف اللغة الهيروغليفية وتأسيس نظم تعليم مدنية فى مدارسها وجامعاتها ، كذلك كان لها ملك وبرلمان ودستور أمر به الإنجليز عام 1923 ..وأحزاب متنوعة تتبادل السلطة ، وكانت مرشحة لقيادة المنطقة للخروج من أسر الاستعمار ونظم الحياة البدوية والخلافة العثمانية .
 
ولكن كيان الدولة المعاصرة الهش الذى لم يكن قد بل بعد من تخلف الحكم العثمانى المملوكى أصابته لعنة الفاشيست بنكسة أعادته لنقطة البداية .
 
لقد انقلب العسكر عام 52 ضد الشرعية والليبرالية ليعطلوا الدستور والحياة السياسية ويتحركوا بثقة على درب مهده من قبل هتلر فى ألمانيا متصورين أنهم سوف يحققون ما فشل فيه الفوهرر ، من المحافظة على انتصارات الفاشيست.
 
الجيش المصرى بعد هزيمة ابراهيم باشا لم يكن معدا للحرب والقتال والدفاع عن الوطن ، لقد كان يضم بعض من أبناء الارستقراطية الباشاوات والبكاوات كضباط يقودون جنود من أفقر فقراء مصر الذين لا يستطيعون دفع البدل النقدى للخدمة العسكرية .
 
وكان الانجليز يستخدمون هذا الجيش للاستعراض فى الاحتفالات ولاهداف خاصة بهم منها الحرب فى المكسيك أو احتلال السودان اوقمع الاضطرابات فى البلدين .
 
مع الحرب العالمية الثانية ، سمحوا بتطوير بعض وحداته لتساعد الحلفاء ضد المحور ، وليحل لأول مرة بعض من أفراد الشعب مكان أبناء الأمراء فى الكلية الحربية .
 
الضباط القادمون من قرى وحوارى مصر ، جاءوا يحملون كرها للمحتل الانجليزى وإعجابا بالمتحدى النازى ، الذى نقل بلاده من حضيض معاهدة فرساى الى احتلال الجزء الأكبر من أوروبا ، بإعادة تنظيم إمكانيات الشعب الألمانى وحشدها عسكريا ، لتصبح قوة مرعبة ساحقة ، تحقق انجازات تشبه الأحلام .
 
الضباط الجدد كانت ثقافتهم مكتسبة من الشارع ، حيث ميليشيات أحزاب المعارضة وصحفهم وخطباءهم وتنظيماتهم ، وطموح غامض ( لمصر الفتاة ) لاستنساخ ( تركيا الفتاة ) التى أنشأها كمال أتاتورك على أنقاض الامبراطورية العثمانية ، أو أمل غير مفهوم للاخوان المسلمين فى إحياء خلافة اسلامية وإعادة مجدها حتى لو كانت بقيادة الملك فاروق.
 
وهكذا عندما انقلب العسكر ، كانوا قد كونوا أفكارا فاشيستية قومية ودينية ، من الوسط الثقافى السائد مع معاداة واضحة لليبرالية الأوروبية وما يتبعها من حقوق الانسان والحياة النيابية والدستور .
 
النظام الذى طوره عبد الناصر ثم السادات من بعده كان نسخا للهتلرية ، فلنقرأ معا كتاب وليم شيرر ((صعود وسقوط الرايخ الثالث )) وكيف أحكم هتلر قبضته على الشعب الألمانى من خلال عدد من الأجهزة والنظم التى كانت الدليل والنبراس للناصرية والساداتية بعد ذلك.
 
• حزب وطنى إشتراكى وحيد يمتلك الساحة على رأسه زعيم ملهم.
• نمط ثقافى شوفونى موجه دستوره كتاب (( كفاحى)). .
 
• نظام بوليسى قوى متغلغل ، له أدواته القمعية وقاعدته من سجون ومعتقلات .
• مؤسسات تشريعية ونيابية وقضائية صورية ، هى دمىّ فى يد النظام .
 
• جهاز إعلامى له قدرة عالية على الخداع والانتشار ينقل وجهة نظر وحيدة.
• جهاز دولة مركزى بيروقراطى يسيطر على حياة الشعب من خلال كافة الانشطة الاقتصادية .
 
• جيش له امتيازات خاصة ومعتنى بتدريبه وتسليحه معتاد على الطاعة .
• تحالف قوى الانتاج الاقطاعية والرأسمالية مع العمال والفلاحين بقيادة البيروقراطية المتحكمة فيهم جميعا.,
 
نحن هنا نتكلم عن نظام هتلر ، لا النظام الذى استنسخه الضباط الأحرار و حكموا به مصر حتي القرن الحادى و العشرين ..... وكما حدث للنازى من صعود سريع ثم سقوط مدوىّ ، حدث لضباط مصر، فالآله العسكرية التى حرمت الشعب من الديموقراطية والليبرالية وحقوق الانسان ، قدمت له بديلا النعرة القومية والانتصارات الزائفة والحروب المتتالية والهزيمة المذلة فى اليمن وسيناء.مع التعصب الديني .
 
انكسار الحلم العسكرى المصرى ، جاء بسبب أن القوى العظمى لم تكن فى وضع يسمح لها بظهور هتلر جديد ..
 
وتفرق الجمع الذى حشده الضباط خلف إتحادهم الاشتراكى وقوميتهم العربية ، ليقع فريسة للوهابية ، ويعود الى نقطة الصفر ، الى الأخلاق والسلوك البدوى لكبير العائلة وشكرا لحضرات الضباط
 
الضابط المصرى منذ سمحت حكومة الوفد لأبناء الشعب بدخول الكلية الحربية ( وحتى اليوم ) كان من هؤلاء الطلاب الذين لم يجدوا لأنفسهم مكانا فى جامعات مصر .. لقد كان الأقل كفاءة والأقل علما وتحصيلا بين زملاءه .. والدراسة بالكلية الحربية لا تعدل من هذا الامر شيئا ، فيتخرج محدود الأفق قليل الخبرة ناقص التعليم .
 
فإذا ما بدأ العمل لم يجد القدوة أو النظام الذى يؤهله لاحترام الآخر والتمسك بالنظم الديموقراطية الحديثة .
 
إنه فى الغالب يكره المناقشة والحوار ، ويتخيل أن بارتداءه البدلة الميرى إمتلك الحقيقة المطلقة ، وأن إنقاذ البلاد من الفوضى والخراب معلق فى رقبته ، وأن نظامه العسكرى هو العلاج الشافى لفوضى المصنع والمدينة والقرية .
 
فإذا ما أصبح فى السلطة وصاحب قرار ، فتح السجون والمعتقلات وأطلق زبانيته لتعذيب المعارضين وتحطيم كبرياءهم حتى لو كان بينهم لويس عوض أو اسماعيل صبرى عبد الله أو فؤاد مرسى أو شهدى عطية أو لطفى الخولى .
 
الضابط فى السلطة يغلق الصحف ويكمم المثقفين وينشر الرعب الأمنى والبوليسى ، ويضع يده على كنوز الدولة ينفقها حسب رؤيته الفردية ليستدين
 
وعادة ما يلتف حوله كل محتال منافق يصور له أنه الناصح الأوحد الأمين .. ثم يتحول الديكتاتور الى نصف إله يحيى ويميت ، يمنح ويمنع ، يصفو ويغضب ، فيتحول شعبه الى أمة من الاقنان المطيعة لراعيها الذى بيده العصى فتتخلف ....إنه درس التاريخ الذى لم يخطئ أبدا ، فلماذانتصور أنه سيخطئ فى بلادنا !! (( ننهي حديثنا باكر )).