تأليف – روماني صبري
 كانت الأجواء داخل (القطار 935) المتجه إلى المدينة البيضاء، مبهجة كلون النبيذ، أمطار راحت تتكسر على ظهره الذي تمكن منه الصدأ على مهل، تتوقف هنيهة ثم يضيء الرعد السماء فتعود لتهطل، في هذه الأثناء ارتعشت يدا "يوسف" من البرد فراح يفركهما لينعم ببعض الدفء، وكما كان متوقعا ، راحت قدميه ترتعشان هي الأخرى ، ومع ذلك ولا سباب لا يعلمها ألا الله وحده ، استكفى بفرك يديه ، وسرعان ما لفت نظره شخير الرجل البدين الجالس بجواره ، الغارق في نوم عميق ، اخذ لعاب الرجل يسيل من فمه ، ولمدة قصيرة من الزمن تنفس بصعوبة، ، فقال حازم في نفسه وعيناه ناحية الرجل :" بشري غريب الأطوار رغم انه لم ينبث ببنت شفة حتى الآن .. ها هو يتنفس الآن من فمه بكيفية غريبة ربما مصاب بالزكام ، ولا أعلم لماذا تعامل معه البعض بكل هذا الاحترام والتقدير قبل أن ينام.. فقط يبتسم لهم صامتا ! ..على أي حال لست مضطرا للبحث عن تاريخ حياته، فليرحمنا الله جميعا . 
 
نهض الرجل فجأة وشرع يمسح لعابه بيده اليمنى ما جعل الأمر في غاية التقزز، وبمجرد أن لمح يوسف اختصه قائلا :
 
 مرحبا يا صاحب الوجه الجميل .. سرقك النوم منذ ساعات وكنت ترتعش منكس الرأس .. لو كنت من ضمن متابعيني لكنت أغدقت عليك بكثير من النصائح. 
 
ماذا تعني بحديثك ؟
 فقط هكذا .. دون أن ترد عليا التحية، أنا اللعين أخذت أثرثر ولم التفت للأمر .. يبدو انك صائم عن وسائل التواصل الاجتماعي. 
 
أنت غامض جدا أيها الرجل !
 
 جميع المحتالين هكذا يا صاحب العباءة الريفية الأصيلة  
 
 هكذا كيف ! .. ماذا تعمل ؟ 
أنا من ضمن هؤلاء الذين ينصحون الناس عبر الشاشات 
 
حديثك غامض كوجهك
 
 اعلم الناس لاسيما الشباب كيف يدخلون الحمام، وكيف يصبحون وطنيون ومتدينون جدا حتى تستبد المصائب بحياتهم وتفرغ خزائنهم 
 
من أنت .. اخبرني ؟! 
آه يا عزيزي أنا على متن القطار قادما من القرية .. كنت في زيارة لتقديم واجب العزاء في ابن عمي  .. أتعلم رأيت الحيوانات هناك تأكل ما يحلو لها داخل منازل أصحابها، قبل جرها للذبح ، ما جعل القلب تفيض إليه غبطة لا مثيل لها، إضافة للذين القوا بنفسهم على ركابهم شكرا لله أيام الخميس  .. أيضا جدت شوارع القرية مضيئة ونظيفة إلى حد ما على غير العادة ، شيوخها يحمدون الله على المرض، كذلك الأصحاء على صحتهم وفحولتهم. 

هل توقفت عن الثرثرة الآن ؟
لا تلتفت إلي وأنا أحدث نفسي .. أخبرني هل مارست الجنس ؟ 
لابد انك تكسب قوت يومك من الدعارة .. من يجلس بجانبي .. أقواد أنت ؟ 
 
فليسامحك الله أيها القروي البسيط 
 
لست بسيط .. استقل قطار فاخر مثلكم
 
أهذا ما تدركه يا أحمق عن البساطة ؟!
 
 أنت الأحمق !
 
 ههههههههههه.. لقد قلت الحق يا رجل ..رأيتها تنبثق منك منذ أبصرتك 
 
أرجوك هلا توقفت .. لا أحب الغرباء ألا يمكن أن تحترم ذلك؟
 
 حسنا حسنا لنتوقف الآن عن الحديث، لقد استبد بي الجوع ، أتركني للطعام سينجح في تنفيذ المهمة كعادته
 
دس الرجل يده في حقيبته وأخرج سندوتش وراح يتناوله بنهم، كأنه لم يعرف الطعام يوما، وتمتم :" لا استطيع كره الغرباء، فقط أريد الحياة بالكيفية التي ترضيني ، طفح على وجه خجل شديد كالذي يطفح على وجوه البنات عندما تتحسسهن أيدي أزواجهن ليلة عرسهم ، في المقابل تفرس يوسف من نافذة القطار في المباني اللي راحت تمر أمام عينه وتتوارى من سرعة القطار، بالمقعد المجاور كان يجلس عجوز ساكنا ، عند النظر إليه يخيل إلى النفس انه السبب في الهدوء الذي بارح القطار ، باعتبار أن (قطار 935) الفاخر لطالما عرفه الصخب ، حلم آنذاك أن يذرع عربة القطار ذهابا وإيابا ويقص على الركاب كم كان قاسيا على زوجته في أيام شبابه، هذه التي دفنها في القرية واستقل القطار هاربا من الجميع ، حنق قشعريرة داخلية غضب من النفس ، شعر بكل ذلك ورغم ذلك اكتفى بالاختباء في بدلته وتذكر رد زوجته عليه عندما صفعها بيده على وجهها بعد أسبوع من زواجهم :" لماذا القسوة .. هل تراني أحمل سيفا ! .. هز رأسه بكيفية غريبة وحدث نفسه :" قبلتها في قدميها منذ 30 عاما ومن وقتها وهي تأتي إلي مرتدية أفضل ما عندها .. فترتمي في حضني وتقبلني، فألف ذراعي حولها واشتد عليها .. أنا أبن العسكرية الذي كرهت من اجلها البرود والرصاص.
 
بدأ نور الصباح يتسلل ، وبعد مرور دقائق وقعت مناوشات في العربة بين محصل التذاكر وشابين، اختصهم بحدة :" يا أولاد الأفاعي تسللتما إلى القطار دون تذاكر .. رائحة السواد تفيض من أرواحكم"، تجمد الشابين في مكانهما خجلا ، نكس النحيف رأسه ، وشرع الضخم في الحديث :" قضينا عطلتنا في القرية ونفذت نقودنا .. كل ما نرجوه يا سيدي أن تدعنا لحالنا حتى نصل المدينة البيضاء ، وقتها عاقبنا ، ضع الغرامة التي يفرضها القانون .. وهبني الله أشقاء ذكور يكبرونني يستطيعون الدفع ، أمي أيضا على قيد الحياة ، أتدري عندما تعلم أن ابنها في محنة مع صديقة ستأتي مسرعة لتنتهي الأزمة بسلام "، خلع المحصل قبعته محلية الصنع مهتاجا والقي بها من نافذة القطار ، تحسس صلعته وركض مسرعا صوب قمرة القيادة بالقطار ليحدث السائق بخصوص الموضوع وهو يقول :" هذا احتيال كبير في حق الدولة .. هؤلاء الملاعين حملا ثقيلا يجثو على القلب
 
حازم ، الرجل البدين ، العجوز ، كل من بالعربة أولوا اهتماما كبيرا بما يحدث وظلت عيونهم تتابع الشابين الواقفين في انتظار محصل التذاكر .. جاء المحصل بصوته الدميم مختصهم وهو يفتح باب القطار :
 
 هيا ستقفزان من القطار .. سينتهي كل شيء الآن 
 
 نزلت بالشابين دهشة فحدثه النحيف قائلا :" هذا غباء لا مثيل له
 
 ! نعم هو كذلك .. هيا اقفز يا حقير، انتم محترفين قفز أيها اللصوص
 
 بصق النحيف تحت قدم المحصل احتقارا له ، فأبتسم ألأخير ببلاهة ، كونه صاحب القرار ، وبالكاد تمالك نفسه حتى يمر الأمر ، ربت على كتف صديقه واتجه ناحية الباب أغمض عينيه وقفز ليختفي بعدها بين الحشائش.. بالطبع لم يفوت بعض الركاب هذه اللحظة ، فقبل أن يقفز الشاب طلوا من النوافذ ليتابعون الحدث حتى نهايته ، أقترب الشاب الضخم ذو الـ22 عاما من الباب ، أغمض عينيه كصديقه جراء الرعب الذي نزل به ، وتجمد في مكانه، طمئنه المحصل بقوله :" اقفز القطار ليس على سرعته القصوى، لا تخف ستحفظك الحشاش من الإصابة بالجروح"، قفز الشاب ، لكن لقسوة الحياة وشدة التجربة وخوفه سقط تحت عجلات القطار.
 
بعد مرور شهرين على الواقعة ، كانت استقرت حياة يوسف أخيرا داخل غرفة صغيرة خشبية، فوق أحدى بنايات المدينة البيضاء التي لطالما حلم بالعيش فيها، يتجول كل صباح داخل أحياءها الراقية ليبيع العرقسوس للمارة ، وبعدما ينتهي يذهب إلى مسكنه يطل أولا على جارته العجوز التي تكسب قوت يومها من التسول أمام محطة المترو، ثم يستحم ويبدل ملابسه ويذهب إلى عمله الليلي.. بالأمس اقتسمت جارته طعامها مع قطط وكلاب الشوارع ،رغم أنها تعلم كل العالم انه فور وصولها غرفتها ستشرع مجدا في سرقة جارتهم الثالثة، امرأة في الخمسين من العمر مطلقة ، تعمل خادمة بمنزل محامي بارز دائما ما عطف عليها ومن عليها بأشياء لم يعد يحتاجها منزله، ما جعل منزلها صيدا ثمينا للمحتالة، قالت مرة في نفسها بحسرة بلغت أشدها :" يوسف جاري الأحمق تشهد حياته أبعادا مرعبة ، لو كنت أبصرت الاحتيال في عينيه لكنت ظفرت به .. آه وقتها كان سيساعدني في سرقة البلهاء، لازال يعتصره الألم منذ حادثة القطار .. سيقتله التفكير دائما ما قتل هذا اللعين الرجال.
 
بالأمس جلس فارس حول مائدته العتيقة يشرب الشاي في كوب زجاجي تكونت داخله الدهون وفقد لونه الشفاف ، تحسس الشرخ الصغير أسفل الكوب وقال في نفسه : ربما أسبوع آخر وينفجر الكوب جراء أعداد كوب شاي، كانت معدته قد انتفخت ، بعد تناوله وجبة دسمة  عقب عودته من عمله الليلي الكئيب، لطالما كان مؤمنا ، رباه والده على حب الله وتجاربه ، بعد بلوغه السادسة لم يفوت صلاة لاسيما الصلاة الليلية ، كان يقول دائما أن الإنسان أعظم ما خلق الله ، بينه وبين الشيطان - ما صنع الحداد - ، حلمه الأكبر أن يتزوج فتاة بسيطة وينجب منها ذكرين فقط، وأن يرى الشيطان ليبصق على روحه ، التفكير في حادثة القطار كان يشعره بالسلام ، الشاب ذو الثلاثون عاما لازال يشعر بجرائمه، منذ يومان رأى الشيطان في حلم – كما ظن- متخذا شكل الرجل البدين، الثرثار الذي التقى به في قطار 935، وأدرك بعدها بأسابيع انه من ابرز وأشهر رجال المدينة، يهجم عليه وهو ممدا على سريره ، وعن طريق الاحتيال احكم الرجل الأصفاد على يديه وأرجله ورقبته وقال له : مرحبا بصديقي القاتل .. الذي لم يخدم إخوته في الإنسانية وترك اثنان منهم يقفزون من القطار، قتل واحد منهم والآخر لا يشعر بآلامه آلا الله." 
 
 ظل ينازعه قائلا :" كيف تنطق اسم الخالق أيها الشيطان ، لماذا لم تحترق جراء ذلك !" 
 
يوسف صديقي أنت لست أسوء من الآخرين .. أتعلم ما الذي يؤرقنا جميعا .. فقط تذكر ما الذي فعله محصل التذاكر يومها .. الم يستبد به الألم وراح يصرخ عاضا أصبع الندم يقول : رأس الشاب الضخم انفصلت عن رأسه تحت عجلات القطار اللعين، ليلقي بنفسه بعدها تحت القطار ليواجه نفس المصير .. هذا هو الرجل يا عزيزي ، بينما نحن قذارة .. كان في جيبك وقتها ما يكفي لدفع ثمن تذكرتين وأكثر .. لا تنكر يا شقي. " 
 
 ما جعل يوسف يستيقظ مفزوعا ، لكنه سرعان ما تدارك الأمر فرفع رأسه عاليا ونظر سقف الغرفة قائلا : الله موجود  إذا فكل شيء على ما يرام .. كل شيء على ما يرام .
 
في ذلك اليوم تناول برشامة مسهلة ، واسند خديه على مرفقيه ، وبعد مرور اقل من دقيقة أشعل سيجارة ، واخذ يفكر كعادته :"هل الوحدة عدو لدود يكره الإنسان مثل المرض وصديق في الوقت ذاته ؟! .. لم أكن يوما طائشا ومجنون حتى إنني لم أصاب بالضجر المخيف يوما ما ، كل جريمتي إني أفكر كثيرا ، لاسيما في الحادثة. . السأم كذلك لم أصاب به يوما ..وهل السأم هو الضجر ؟ ، دائما ما تقع عيني على هاتين الكلمتين في الروايات ، ربما لو كنت التحقت بمعهد فني تجاري سنتين بعد الدبلوم لكان الأمر اختلف ، ربما وقتها كنت سأكن كل الاحترام للتلفاز والراديو .
 
كان شديد الإيمان أن قلبه بحالة جيدة ، لكنه رغم ذلك يشعر بالمرض ، وانه سيفارق الحياة قريبا بعد إصابته بنوبة قلبية حادة وهو يبيع العرقسوس في الشارع، في اليوم التالي كانت العجوز منتشية ، تريد أن تعرب عن سعادتها للجميع، أحيرا نجحت في سرقة جارتها ، أما يوسف فمر من أمامها دون أن يلقي التحية، ما جعلها ذاهلة،  وكان السم الذي شربه يسري في عروقه – كما خيل إليه – إيمانا منه أن عقاب الإنسان لنفسه يفي بالغرض، وعلى الجانب الآخر كان الرجل البدين يحتسي البيرة بفيلته وحيدا ولا زال عند رأيه أن ثمة قوة شيطانية منعته من دفع التذاكر للشابين، مستندا على أعماله الخيرية وحبه للفقراء، وفيما يخص الرجل العجوز الذي ودع زوجته مؤخرا وكان أحد شهود العيان على الواقعة فلندعو له حتى يتغمده الله برحمته .. ها هو  يندثر بغطاء شتوي قائلا :" لست اعلم في أي سجن روحي الآن .. والجريمة الشعور ."