فاطمة ناعوت
كالعادة، رفع قداسةُ البابا اسمَ مصر فى البرلمان الأوروبى وأعلى شأنَها فى عيون العالم، ولم يخذلها، كما كان يرجو أعداءُ مصر الحاقدون. أبدًا لم يخذلِ البابا مصرَ؛ فى أحلك اللحظات عُسرًا وفوضى وطائفية، فكيف يخذلها فى اللحظات الأيسر والأسلم؟! ما خذلَ مصرَ وهى تكادُ تسقط ويد الإرهاب الأسود تخنق عنقَها، فكيف يخذلها وقد استردت أنفاسَها؟! لم يخذلها وهى تكادُ تتهاوى إثر الطعنات فى خصرها من كلّ صوب، فكيف يخذلها وهى تتعافى وتنهض وتعلو؟! البابا تواضروس دائمًا عند حُسن ظنّ مصر به، فى الضرّاء وفى السرّاء، فى العسر وفى اليسر. هو الابنُ البارُّ للأم العظيمة، التى قد تتحمّل ضرباتِ الأعداء والحاقدين، لكنها لا تحتملُ ضربةً واحدة من أبنائها. مصرُ القوية لا تكسرها نِصالُ ألف عدوّ وألف ألف خصيم، إنما توجعُها شوكةٌ صغيرةٌ فى يد ابن من أبنائها. والأبناءُ البررةُ لا يغرسون أشواكَهم فى قلب الأم، تحت أى ضغط ولا فى أى ظرف. لهذا لم يحدث أن خذلَ مصرَ من قبل أىُّ بابا من باباوات مصر السابقين. لأنهم معجونون بالوطنية، مفطورون على الانتماء لمصريتهم، مجبولون على الإخلاص للوطن الكريم. يعرفون قيمةَ مصرَ التى «طوّبها» السيدُ المسيح و«طيَّبها» بطِيبِ رحلته لمصرَ طفلا مع أمه العذراء البتول عليهما السلام. مصرُ «المُطوَّبَةُ»، «المُطيَّبَةُ» لا يعرفُ قيمةَ طِيْبها إلا الأطيابُ الطيّبون. ولا شكَّ أن قداسة البابا تواضروس الثانى، وأقباطَ مصرَ فى مُجملهم، أطيابٌ طيبون، إلا قِلّة، لا تُدركُ قيمةَ الوطن ولا تُقدّر حتمية إعلاء شأنه بين الناس. أولئك هم الذين تطولُ ألسنُهم ضد قداسة البابا، كلّما سافر وأعلى قيمة مصر فى الخارج، وقال عنها قولا حسنًا! أولئك المتباذئون انحرفوا عن وطنيتهم، فلا يختلفون كثيرًا عن الإخوان وأعداء مصر.

الحكاية: قام قداسة البابا تواضروس الثانى، بابا الإسكندرية، بطريرك الكرازة المرقسية، الثلاثاء الماضى، بزيارة رعوية إلى بروكسيل، العاصمة البلجيكية، من أجل تدشين كنيسة قبطية (مصرية) جديدة. وعلينا أن ندرك أن تدشين (كنيسة قبطية) على أرض أى دولة من دول العالم، هو بمثابة (غرس قطعة من أرض مصر) فى تلك الدول. فالكنائسُ القبطيةُ هى سفاراتٌ وطنيةٌ لنا فى كل أنحاء العالم. وعلى هامش تلك الزيارة، استقبل البرلمانُ الأوروبى قداسة البابا المعظّم، بوصفه سفيرًا وطنيًّا لمصر. وكالعادة سُئل البابا عن أحوال مصر، وكالعادة قال البابا قولا حسنًا عن وطنه، شأن كلّ مسؤول وطنىّ يعرفُ قيمة «الوطن»، ويزِنُ كلماتِه بميزان الذهب. سُئل عن وضع الأقباط المسيحيين فى مصر، فقال: (تحدث مشكلاتٌ، كما تحدث فى كل الدنيا. لكننا نحاولُ حلّ تلك المشكلات فى إطار الأسرة الواحدة. فنحن بلد كبير به ١٠٠ مليون مواطن. ومن المتوقع حدوث مشكلات كأى دولة فى العالم. المهم كيف نعالج تلك المشكلات ونحن نتقدم خطوات للمستقبل). والله لو اجتمع أدباءُ الدنيا وساسةُ العالم، ما كتبوا تلك العبارةَ الموجزة التى تقطُرُ بالمسؤولية وتنضح بالوطنية. «مسؤوليةُ» الشعور بأزمات شعبه القبطى الذى هو مسؤولٌ عنهم روحيًّا، و«وطنيةُ» الانتماء للواء الوطن الذى هو مسؤول عن رِفعته وعلّو شأنه أمام العالمُ. لا يُنكرُ أحدٌ أن الأقباط المسيحيين مازالوا يواجهون «آثارًا» من الطائفية والتمييز العَقَدى من الجهلاء والمتطرفين والمتأسلمين. كذلك لا يُنكرُ جاحدٌ أن تلك «الآثار» بدأت تخبو وتخفُت ولا تُقارَن بما كان يحدثُ قبل سنوات قاسيات، لا أعادها اللهُ، وأن الوضع الآن أفضل بمراحل عمّا سبق. ولا يُنكر إلا جاهلٌ أو حاقدٌ أن أعداء مصر يتشوّفون ويتشوّقون لأن ينطق البابا بغير ما قال، حتى تنقلبَ خناجرُ العالم أجمع نحو قلب مصر. ألا يعلم الأقباط المتطاولون على اسم البابا، أن أعداء مصر فى قطر وتركيا وإسرائيل يتمنون أن يُقرَّ البابا بوجود فتن طائفية فى مصر، حتى تقعَ على مصر عقوباتٌ دولية لا قِبَل لنا بتحملّها ونحن فى لحظة بناء ونهوض؟ أرجو ألا يكونوا يعلمون، فلو كانوا يعلمون فهم أعداءٌ لمصر مع سبق الإصرار والترصّد، وها هم الآن باتوا يعرفون.

«وطنٌ بلا كنائسَ خيرٌ من كنائسَ بلا وطن». لا يفهم تلك العبارةَ الوطنية البليغة إلا الكبارُ. كبارُ العقل، والإيمان، والانتماء. الصغارُ لا يصلون إلى مدارجها العليا. لا يُشهِّر وطنىٌّ ببلاده تحت أى ظرف. لهذا كتبتُ على درع تكريم البابا فى صالونى الشهرى، يونيو الماضى، ما يلى: (يتشرف الصالونُ بتكريم الرمز الروحى والوطنى النبيل: قداسة البابا المعظم تواضروس الثانى، تقديرًا لدوره الوطنى المشهود فى إعلاء اسم مصر أمام العالم والحفاظ على وحدة صفّها فى لحظات دقيقة من تاريخ الوطن). «الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم