في نوفمبر من عام 1974 دعتنى مؤسسة «دار الفن والأدب» ببيروت والتى كانت تشرف على إدارتها سيدة متميزة اسمها جانين روبيز كانت قد كرست حياتها للإسهام في ترقية الثقافة في لبنان. وجاءت الندوة في إطار محدود للغاية تحت عنوان «الحضارة والبترول» اشترك فيها معى اثنان مرموقان هما الشاعر المبدع أدونيس والمطران جورج خضر من طائفة الروم الأرثوذكس. في المطار استقبلنى المطران جورج خضر. وفى الطريق إلى الفندق رأيت بيروت للمرة الأولى فلفتت انتباهى الهوة الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء، وأضفت إليها هوة أخرى دارت في ذهنى وهى الهوة الطائفية. ومن الهوتين دار في ذهنى سؤال وجهته إلى المطران: هل ثمة احتمال في نشوب ثورة اجتماعية أو فتنة طائفية؟

كان جوابه بلا تردد: هذا الاحتمال غير وارد. قلت: لماذا؟ قال: بسبب التعايش الطائفى. أما أنا فقلت: التعايش الطائفى ينطوى على نقيضه وهو الفتنة الطائفية. وفى العام التالى من وصولى إلى بيروت نشبت الحرب الطائفية التي استغرقت خمسة عشر عامًا. والمفارقة هنا أنه في عام 1978، أي بعد نشوب هذه الحرب بثلاث سنوات، نشأت مؤسسة ثقافية مقرها دير مار إلياس في أنطلياس بلبنان.

والسؤال إذن: هل هذه المؤسسة قادرة على تحويل النظام اللبنانى من نظام محكوم بأصولية دينية إلى نظام محكوم بعلمانية يضم الطوائف كلها ويصهرها في بوتقة التفكير النسبى الذي هو سمة التفكير العلمانى؟

والسؤال في صيغة أخرى:
إذا كانت الأصولية على نقيض العلمانية، وإذا كانت العلمانية، في لبنان، تعانى من مطاردة الأصولية فهل معنى ذلك أن لبنان سيظل في مأزق؟

ويلزم من هذا السؤال سؤال آخر:

هل المأزق اللبنانى انعكاس للمأزق العربى؟

للجواب عن هذين السؤالين يلزم تحديد مكانة كل من الأصولية والعلمانية في الخريطة اللبنانية.

مع بداية الاحتلال الفرنسى للبنان حاول الحكام الفرنسيون، باعتبار أنهم الممثلون لتيار قوى مضاد للكهنوت في الجمهورية الثالثة، منع الكهنة المسيحيين والعلماء المسلمين من التدخل في الشؤون الدنيوية، كما حاولوا فرض الأسلوب الفرنسى في فصل الدين عن الدولة في مجال السياسة، إلا أنهم فشلوا. ومع ذلك فقد نجحوا في مساواة الطوائف الإسلامية الخارجة على السنة- الشيعة والدروز- بعد أن كانت، تحت الحكم العثمانى غير معترف بها وخاضعة لشريعة السنة. وبعد ذلك حاول المحامون الليبراليون الدفاع عن العلمانية، وذلك بالدعوة إلى ضرورة تطبيق القانون المدنى على أمور الأحوال الشخصية متأثرين في هذه الدعوة بالقانون الفرنسى العلمانى. إلا أن هذه الدعوة قد واجهت نفس المعارضة التي واجهت الحكام الفرنسيين، فعندما أضرب هؤلاء المحامون في عام 1952 هددهم الأساقفة المسيحيون بتوقيع الحرمان الكنسى.

يبقى بعد ذلك تحديد مكانة العلمانية في الطوائف اللبنانية، ونحن ننتقى منها طائفتين: المارون والسُّنة. هاتان الطائفتان ليست لهما مصلحة في تبنى العلمانية، فكل منهما له حق «الفيتو» في المجال السياسى؛ الأمر الذي يفضى إلى تفوقهما على الطوائف الأخرى، سواء كانت مسيحية أو إسلامية. ومع ذلك فثمة فارق بينهما في قبول النظام اللبنانى. المارون سعداء بالنظام بحكم شغلهم منصب رئاسة الجمهورية، وبحكم شغلهم وظائف متنوعة ذات دلالة استراتيجية. أما السُّنة فليسوا سعداء بالنظام لأنها لا تريد العيش مع أغلبية مسيحية.
نقلا عن المصري اليوم