أيام عاصفة تأتى عليه ولا تعصف به، بل تزيده صلابة على مواجهة العواصف، عندما تواجهه أزمة، يدلى برأيه حول فناجين شاى وكسرة خبز ويترك الأمر لعقول مدربة على مواجهة الأزمات، فهى تمارس رياضة الحل. المصرى مخلوق مسالم لا يعرف الدم أو العدوان، يرمى الحبة فى الأرض وينتظر واللى فى قلبه على لسانه، كما يقول الحس الشعبى، فقط يريد كف حنان على ظهره ولقمة تقدير وعدالة تبسط شمسها ولا تغفله واحتراما لكفاءته قبل ولائه، ويريد سياقاً منظماً وليس لعبة كراسى موسيقية!

■ ■ ■

ناس البلد دى يثقون فى قادتهم وشفافية البناء ويعرفون من أين تأتى معاول الهدم والفتنة، جربوا من قبل متاريس الظلام باسم الدين، جربوا انتهاك المقدسات باسم الدين، جربوا الإفراج عن المسجلين خطر باسم الدين، جربوا ضرب الهوية باسم الدين، عاشوا وماتوا فى زمان المرشد! ويوم خرج من الجيش قائد جسور جاءت به السماء لإنقاذ مصر من الهوان، خرجوا فى أكبر مظاهرة عرفها تاريخ البلد. ساروا خلفه، وفى ظهره، فوضوه عنهم ومنحوه ثقتهم، فلما حاول نفر من الأوغاد التشكيك فيه وكسر الهيبة، لفظوه وبصقوه.

■ ■ ■

مصر، طه حسين، وسعد زغلول، ولطفى السيد والمتنبى والسنباطى وزويل وسيد عويس وعبدالصبور والريحانى وهيكل وإحسان وإدريس ومحفوظ وجاهين والأبنودى والغيطانى، لا تعرف طوابير اللاجئين ولن تكون، لا نعرف انقسامات تدبرها بأجر أجهزة معادية كارهة حقودة، كلما سارت مصر خطوات أرادوا شدها للخلف خطوات، مصر لا تنكسر، وقد تمرض لكنها لا تموت، صحيح ناس البلد دى يقيسون حلاوة الحياة باحتياجات بيوتهم، ولكن حين يقترب الخطر من عتبة الدار يخلع كل الأردية ويقاوم ويموت على صدر مصر.

■ ■ ■

ناس البلد دى، كلما كبرت مساحة الحرية ومساحة التعبير دون رقيب، منحته التفاؤل والرضا وأضاءت قنديل الفهم وأطفأت سراديب الظلام والفتنة، مساحة الحرية للسباحة فى فضاء التقدم، فالقيود تقزم الهامات وتعرقل الغايات وتصنع النكسات، ناس البلد دى فى حاجة إلى أمانة القول ومصارحة السلطة دون أذى، لا يحلمون بعودة أيام الهمس وتنصت الأجهزة، أيام مندوب القيادة المخيف، لا يريدون حياة تنسجها أجهزة وتكمم أفواها وتقبض على أبرياء بشكل عشوائى والدولة تعلم ما فى الشقوق وفى السدود فوق الأرض وتحت الأرض، هذا نظام لا يعرف الهزار.

■ ■ ■

ناس البلد دى كانوا يتكئون على الصبر، فهو عصا المصريين أينما ارتحلوا، لكنى حذرت يوماً من انفجار بالونة الصبر فى خضم الحياة اليومية، عندما تعبأ الصدور بالضيق والضجر، فى مثل هذه الحالة، يصدقون الشائعات ويسقطون فى الغيبوبة، وعندما يقررون فهم تحت سطوة اليقين ويجرفهم الغضب إلى شواطئ مجهولة، الجوع كافر والبطالة كافرة. ناس البلد دى شرائح اجتماعية مختلفة، هناك متعلمون وأنصاف متعلمين، وهناك نخبة وجهلة. هناك ناس لغتهم بالملايين وآخرون بالملاليم، الهوة بين الطبقات اتسعت وربما شح الرزق قليلاً وكثرت مطالب الدولة من مواطنيها بعضها عن حق وبعضها لا يرحم. وعندما قلت يوماً إن معدة المصرى تحدد رأيه فى النظام وفى العيشة واللى عايشينها.. كنت صادقاً.

■ ■ ■

فى رأس المصرى أصوات مقرئيها وأجراس كنائسها. وقد كتب ميلاده وشرعية وجوده وتعلم كيف يرد بحضارة، فلقد تراكمت خبراته بالحياة وبكثير من تفاصيلها، أمكنه صياغة وجدانه العام. ضحك من شائعات وحكايات «صندوق الحاوى» الذى يحمله المقاول على ظهره ويطوف الأزقة. سمعوا حكاياته من باب الفضول، ثم أداروا ظهورهم له وكلما سمعوا شتيمة فى النظام تمسكوا به أكثر وتشبثوا به أكثر. وبمخزون السنين انحازوا للحق وبصقوا على الباطل بلا غرور أو تعال، بل لغة بشرية فيها أصواتهم وأرغول أحزانهم. فهموا أن غرفا مظلمة تريد أن تهدم النظام وأن تشوه سمعته وتضرب ثوابته. وبجهاز الوعى المبثوث فى ناس البلد دى، صاروا قادرين ويملكون القدرة على الفرز بين البشر من نصدقهم ومن نضحك عليهم ومن بنى مكعبات من ورق ويقنعنا بأنها بيوت للسكنى..!

■ ■ ■

عبر أيام من فيديوهات تداولها ناس البلد دى، دخلوا امتحانات صعبة من التصديق أو الإنكار، وكانت بصراحة شمسا استوائية فرصة للكلام و.. البوح، كانت الصدور ممتلئة بعشرات الأمنيات: زيادة رقعة الدائرة المدنية، والاعتماد على سواعد الشباب وعقول الكبار، الثقة المطلقة فى مؤسسة الالتزام والانضابط والمسؤولية، مؤسسة الجيش العريقة، أمان كل العصور. تقنين الارتجال فى خطب الرئيس منعاً للاجتهاد والتأويل، إعلان الحرب على البطالة ومبادرات رجال الأعمال للحد من أعدادها. إعادة النظر فى ضرائب الشاطئ وضرائب السيارات فى جراجات العمارات، فناس البلد دى يدفعون ويشكون وبين عهود مضت يقارنون. المعادلة العاقلة الرحيمة بين الأسمنت و.. لقمة العيش، الاقتراب الحنون بين الحكومة وناس البلد دى، فالمسافات بينهم وبينها تصنع هوة «لاقيه ولا تغديه». للبشر احتياجات مشروعة فى رقبة الدولة، أن يأكل ويشرب ويعالج إذا مرض ولأولاده مقاعد فى مدرسة حقيقية، لا مجرد بناء وحوش وجرس. ومساحة حرية فى الصحف والشاشات، فالأنظمة القوية لا يهزها رأى أو مقال. والأصوات المعارضة من منصات وطنية بمثابة مصابيح تضىء الطريق. لقد جرب عبدالناصر خرس الألسنة والعقول فجنى نكسة. افتحوا النوافذ ليتجدد الهواء والقبضة الأمنية ضرورة، وليبتعد جيش مصر عن اقتصادها فهو الملاذ والغطاء والسند.

■ ■ ■

واحد من ناس البلد دى هو المثقف المحترم لطفى الخولى، قال يوماً إن المثقفين يتحاورون مع عبدالناصر من خلال هيكل وكان الآخرون يغارون من هيكل! ذلك طبقاً لما قال لى «طبيعة أمور ونزعات بشرية» ويفتقد المثقفون «هيكل» الذين يتحاورون مع القيادة من خلاله. وللقيادة العسكرية تعظيم سلام وللعقول المستنيرة المدنية التى تستشار تعظيم سلام.. ناس البلد دى تؤمن أن «الأمر شورى» ويؤمنون أن حواراً بين اثنين قد يكشف عن رأى ثالث أكثر حكمة ورشداً.. وأن الرأى الأوحد أسقط أنظمة وشتت شعوباً «العراق نمطاً». ناس البلد دى يتغذون على المعلومات المتاحة لهم فهى ضرورة معبرة عن منظور الحياة والناس والأشياء، وحين تغيب المعلومات، تظهر خفافيش الشائعات، قد يصدقها وقد - بالوعى - يرفضها جملة وتفصيلاً. ناس البلد دى يرفضون «مستر x» الذى بيده الأمور والربط والحل ويستخدمون وجوهاً هى الواجهة وليس بيدهم اتخاذ قرار. وأنا لا أصدق أن هناك «ناس ممنوعين من الظهور على شاشة البلد» والظهور بإذن من «مستر x». هل يخاف النظام من رأى ما؟ هل يخشى النظام من شخصية مؤثرة؟ ولماذا يظهر عكاشة ثم يختفى؟ ولماذا قناة العاصمة ثم تغلق؟ لماذا أسئلة حائرة فى أهم «مدفعية» لدى النظام وهى الإعلام؟ من هو «مستر x» صاحب القرار والمنع والمنح؟!

■ ■ ■

ناس البلد دى مطمئنون لقيادة السيسى لإخلاصه وأمانته دون أن يقولها بنفسه. مطمئنون إلى المؤسسة العسكرية ونزاهتها. مطمئنون إلى أمن مصر القوى، مطمئنون إلى قلب الرئيس القادر على الانفراجة فى التعبير بحرية حتى مع أخطاء، والانفراجة فى الإفراج عن شباب برىء يدخل البهجة على بيوت المصريين. مطمئنون إلى أحكام القيادة فى بناء مصر الغد. مطمئنون إلى تواضع القائد الحقيقى. لقد أتاح لى رب الكون أن أعيش زمان عبدالناصر والخرس الذى فرضه على المصريين آنذاك، وكل المزايا للاتحاد الاشتراكى وشاهدت هزيمة خالد محيى الدين يوم طالب عبدالناصر بالديمقراطية فطالبه عبدالناصر بأن يختار بلداً يعمل فيه سفيراً! وعشت زمن السادات زمن الانفتاح غير المدروس والسداح مداح لكنه جلب النصر لمصر. وعشت زمن مبارك - الذى أحمل له الوفاء - ورأيت سطوة رجال الأعمال لكنه فتح نوافذ الرأى وعفا عن كاتب يسارى شتمه «عبدالحليم قنديل»، وعشت زمناً أسقطته من حياتى هو زمن الإخوان وعشت زمن السيسى الذى أسدل الستار على أسوأ أزمنة ناس البلد دى. ومستعد أبلع الزلط للسيسى، وهو يقوم بإحداث تغييرات ليس فى جوهر السياسة إنما فى آليات العمل السياسى وأولويات رغبات ناس البلد دى، سكان الوادى، أصحاب التاريخ، حراس القيم المعتصمين بحبل الله والدين الوسطى، السائرين فى ظهرك. ناس البلد دى الذين تمجدهم فى كل مناسبة يا ريس وتعطيهم دور البطولة دوماً.
نقلا عن المصري اليوم