عاطف بشاي
حينما ودع «رأفت الميهى» دنيانا منذ خمس سنوات ودعت السينما المصرية عبقرياً لا يجود الزمان بمثله، فلم يكن مجرد كاتب سيناريو وحوار رائع لا يتكرر.. ولا مخرج كبير يقدم أفلاماً مميزة.. ولا منتج جيد يحقق رؤية راقية لتلك الأفلام.. فلا يبخل عليها بالجهد والمال.. ولكنه كان «مفكراً سينمائياً» يصوغ رؤية فلسفية.. تمتد من واقع اجتماعى وسياسى متغير إلى أطروحات بالغة الغور والعمق والتعقيد تشمل الإنسان والكون والوجود فى إطار من السخرية المريرة من ذلك الواقع الجامد بثوابته وتابوهاته المتحجرة، سعياً لتحرير الروح الوثابة، وإلى تجاوز التخلف والخرافة والتمرد ضد القوالب الجاهزة والمسلمات الراسخة.. والتقاليد المتعفنة.. كان «رأفت الميهى» أيقونة السحر والخيال والإبداع الحر فى أزمنة سينما تافهة متراجعة شكلاً وموضوعاً، ومتلق فسد ذوقه وتداعت معارفه وتدنت ثقافته.. ذلك لأنه أعطى عمره وعصارة حياته وعطر تجاربه وذوب مشاعره وخلاصة شطحاته وأفكاره لعشقه الأول والأخير.. سينما مختلفة لا سقف لجسارتها ولا حدود لرحابتها.. ولا نهاية لجنونها الخلاق.
,
إنه يحلم ويجسد حلمه بالكاميرا تجسيداً سريالياً عبثياً فوق الواقع وضد السائد وضد الإطارات والأشكال الجاهزة المتعارف عليها، متجاوزاً التصور الآنى اللحظى الثابت إلى رحابة المتغير الغامض.. عابراً إلحاحات الواقع الاجتماعى المستقر إلى رؤية شاملة للحياة والبشر والمعانى دون أن يغفل حيرة وعذاب الإنسان واحتياجاته المادية والغرائزية فى أرض الشقاء.. إنه يمثل مزيجاً مدهشاً من عوالم «سلفادور دالى» الذى يبحر فى غياهب اللاوعى مبتكراً ألعاباً سحرية تتسامى فوق ثوابت الواقع وقضاياه المعاصرة دون أن يفقد صلته بها.. بل تبقى تلك الصلة قائمة على سخرية مُرة وموجعة لهذا الواقع وشخوصه التى تتجسد تجسيداً كاركاتورياً بتجريدية تلخص الملامح تلخيصاً حاداً كما فى لوحات «بيكاسو» وأفلام «فيللينى» و«بازولينى» وفلسفة «كامى» ومسرحيات «يونسكو» العبثية.

بدأ يكتب للسينما عام (1965) من خلال سيناريو وحوار فيلم «جفت الأمطار»، الذى أخرجه «د. سيد عيسى» بعد عودته من «موسكو» متأثراً بالسينما الروسية، خاصة «أيزنشتاين»، وسيطر على البناء الدرامى ما يمكن تسميته باتجاه «الواقعية الاشتراكية».. يقول فى ذلك صديق عمره الناقد الكبير «سمير فريد»: «كان فيلم (جفت الأمطار) أول فيلم اشتراكى فى تاريخ السينما المصرية، وكنا نعتقد أن من الواجب بيع الحرية الفردية من أجل حرية كل الشعب، ولم ندرك أن بيع الحرية من أجل أى شىء يؤدى إلى فقد الحرية وكل شىء إلا بعد الهزيمة فى (1967)، وقد عُرض فيلم (جفت الأمطار) بعد أسابيع من تلك الهزيمة».

بدأ «رأفت الميهى» مبهراً فى ثانى فيلم من أفلامه التى كتب لها السيناريو والحوار «غروب وشروق» قصة جمال حماد.. وإخراج «كمال الشيخ» وبطولة «سعاد حسنى» و«رشدى أباظة»، محللاً الواقع السياسى قبل ثورة (1952) تحليلاً ذكياً وعميقاً.. تعاون بعده مع «كمال الشيخ» فى أفلام «شىء فى صدرى» و«الهارب» و«على من تطلق الرصاص».. وهى أفلام سجلت أفضل سيناريوهات تلك المرحلة من عمر السينما المصرية، إذا أضفنا لها أيضاً «غرباء» إخراج «سعد عرفة»، الذى ناقش فيه بجرأة واقتحام التابوهات «ثنائية العلم والدين» و«الحب الذى كان»، وكان أول أفلام المخرج «على بدرخان»، وبطولة «سعاد حسنى» و«محمود ياسين»، و«أين عقلى»، سيكودراما عن قصة «لإحسان عبدالقدوس» وإخراج «عاطف سالم».. و«الرصاصة لاتزال فى جيبى».. وهى أفلام كلاسيكية واقعية تعكس حتمية اجتماعية وسياسية واضحة.. وتتميز ببراعة لافتة فى رسم الشخصيات وإدارة الصراع ورشاقة الحوار.. وقبل كل ذلك الجرأة السياسية فى طرح وجهات نظره المثيرة للتأمل والجدل.

ثم ومع بداية الثمانينيات بدأ مغامرته الكبرى والمدهشة فى الإبحار والتحليق الجسور فوق الواقع، والتى لم يكن هناك مفر من أن يجتمع فيها الكاتب والمخرج.. فانتقل من الرمزية فى «عيون لا تنام» إلى العبث فى «الأفوكاتو» والذى حدد من خلاله مشواره الجديد فى الكوميديا الساخرة بمنهج اللامعقول الذى يتجاوز الإضحاك بمعناه المحدود إلى خلق عالم متكامل خاص ملىء بالخيالات والأحلام والتهويمات والفانتازيا والرؤى الغريبة والمتداخلة.. والمتجاوزة لمحدودية الزمان والمكان.. والغريب أن المتلقى استقبل فيلم «الأفوكاتو» استقبالاً جيداً فحقق إيرادات كبيرة.. ليس لكون «عادل إمام» هو بطله فقط.. ولكن لأن «رأفت الميهى» حينما صاغ فيلمه هذه الصياغة العبثية.. كان مدركاً تماماً أن الواقع المعيش بـ«لامعقوليته» قد تجاوز خيال أى مؤلف كوميدى.. وبالتالى فقد رحب بكل شطحات الفيلم وتجاوب معها.

أعقب ذلك «السادة الرجال» و«سمك لبن تمر هندى» و«سيداتى آنساتى» ليصنع «رأفت الميهى» سينما خاصة لا يجرؤ على صنعها أو ارتياد أرضها أو الإبحار فى عالمها إلا مفكر كبير وفيلسوف لصور مرئية فى تجلياتها العظيمة.
نقلا عن المصرى اليوم