سليمان شفيق 
ودعنا نحن الذين عشنا زمن الحب والانسانية ، زمن عشنا فية في صف دراسي واحد مسلمين ومسيحيين ويهود ، ودعنا ام من ذلك الجميل، السيدة مارسيل هارون ، وهي زوجة المناضل اليساري اليهودي شحاتة هارون، الذي كان معارضا لإسرائيل وللفكرة الصهيونية، والدة رئيسة الطائفة اليهودية بمصر ماجدة هارون.
 
ويقام العزاء في المعبد اليهودي بشارع عدلي بوسط البلد بالقاهرة، الذي يطلق عليه بالعبرية "شعار ها شاميم" أي "بوابة السماء"، وهو المعبد الذي شهد عام 2001 تشييع الاب وفي 2014 توديع جثمان شقيقة ماجدة "نادية هارون"، بحضور حاخام فرنسي، بعدما رفضت للمرة الثانية أن يصلي على شقيقتها حاخام إسرائيلي، كما فعلوا مع الاب شحاتة. 
 
عرفت الأستاذ شحاتة 1976 بعد تأسيس حزب التجمع وشغل عضوية اللجنة المركزية بالحزب، وأذكر أننى فوجئت بأنه أحد أشد المعارضين لزيارة السادات للقدس، وحينما سألته قال: اليمين الصهيونى سوف يسيطر على المنطقة ويفتح المجال للعسكرية الأمريكية أن تهيمن على منابع النفط ويعزل مصر، وقد تحققت نبؤة الرجل. فى ذلك الزمان كان اليسار فى المقدمة وكانت قيم الأممية والإنسانية هى الأساس، أحب عمنا شحاتة مصر أكثر من كثير من المصريين، وألف كتاب «يهودى فى القاهرة» وكتب فيه: «لكل إنسان أكثر من هوية وأنا مصرى حينما يضطهد المصريون وأسود حينما يضطهد السود، ويهودى حينما يضطهد اليهود، وفلسطينى حينما يضطهد الفلسطينيون»، وحينما نعاه الناعى كتب فى نعيه تلك الكلمات، ورفضت ابنتاه حينذاك نادية وماجدة أن يصلى عليه حاخام من إسرائيل، فاستقدموا حاخاماً من فرنسا، ووارى جسده التراب فى القاهرة التى كتب عنها: «حبيبتى التى لن أهجرها أبداً»، أذكر ما رواه عنه أحمد الخواجة نقيب المحامين الأسبق: «بعد هزيمة 1967فتحت النقابة باب التطوع، وتطوع شحاتة هارون، ولكن السلطات رفضت، فصارت النكسة له نكستين ، اتذكر اليوم الرفيق الاديب الراحل غبريال زكي الذي كان مسئول عن تهريب شحاتة هارون من حملة السادات ضد اليسار وكيف ارسلني غبريال الي المنزل لكي احضر اشياء لشحاتة وتقابلت مع الراحلة واصرت ان تقدم لي الطعام والشراب ، وكانت ابتسامتها تخفي ألم دفين لايراة الا ابناء الاقليات الذين يعرفون حب من يقع عليه التمييز لمصر وللحرية .. كانت مثل شجرة وارقة تحمي بظلالها بناتها وتثمر في كبرياء رغم زهور الحسك التي تحاول خنق الثمار.
 
في عزاء نادية، تذكرت وجع عمى شحاتة،ووجع الام مارسيل فى نهاية خمسينيات القرن الماضى، مرضت ابنته البكر منى بمرض خطير، حاول الحصول على تأشيرة علاج لها فى فرنسا، خيرته السلطات بين العلاج أو اللا عودة لمصر، وضحى شحاتة بضناه وماتت منى، ترى من منا يحب الوطن أكثر من عمى شحاتة؟
 
تحملت مارسل في صمت وكبرياء كل الام الاسرة من 1956 وحتي الرحيل للزوج والرحيل المبكر لبناتها ،اعتقل أيضًا عام 1977 في انتفاضة الخبز، وفي 1979 بسبب معارضته لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وكان أحد المطلوبين في حملة اعتقالات سبتمبر 1981 وفق قرارات التحفظ على القوى الوطنية في مصر.
 
وتنوعت الاتهامات التي تم توجيهها إليه، فمن اتهام موسى صبري له بأنه «يهودي يساري ينظم المظاهرات ويقذف بالحجارة»، إلى اتهامه بأنه «مجرد جاسوس يعمل لحساب إسرائيل أصر أن يظل في مصر لإكمال نشاطه المُعادي».
 
بعد توقيع مصر لمعاهدة السلام مع إسرائيل، رفضها شحاتة هارون واصفًا إياها بأنها «اتفاقية سلام أمريكية بشروط الصهيونية الحاكمة في إسرائيل»، وأنها «أغفلت المطالب العادلة لمصر وسوريا في زوال الاحتلال من أراضيهما»، وحينما زار ييجال بادين، نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي، القاهرة عام 1979 ذهب للصلاة في المعبد اليهودي بالقاهرة، فدخل شحاتة بعد تعرضه لتفتيش دقيق، وقال له رأيه في معاهدة السلام: «إنني كمصري أرى أن المعاهدة مهينة لكرامة شعب مصر»، فما كان من قوات الأمن المصرية والإسرائيلية إلا أن حاصرته وأخرجته من المعبد، وكانت النتيجة اقتحام زوار الفجر لمنزله في فجر 16 أغسطس 1979.
 
تبقت ماجدة هارون، زهرة صبار شامخة وبقايا طائفة كان منها وزراء مثل قطان باشا وفنانين مثل داود حسنى، ومناضلين مثل يوسف درويش، هؤلاء الذين ساروا على درب الآلام من أجل الوطن، وأرغم معظمهم خاصة الفقراء على الهجرة لإسرائيل، وحتى الآن لم نسمع عن وزير صهيونى ولا قائد عسكرى صهيونى من أصل مصرى، آه يا وطن لا يتحمل فيه المتطرفون لا المسيحيون ولا حتى الشيعة المصريين، من منا يعتذر لشحاتة هارون وأمثاله، من منا يمتلك الشجاعة ليعتذر لروح منى، ويضع يده فى يد ماجدة من أجل الدفاع عما تبقى من اليهود المصريين الذين تحملوا ما لا يتحمله بشر من أجل أن يدفنوا فى تراب مصر.
 
وداعا عطر الاحباب ورمز لوطن مضي واخر قادم من أعماق الجرح واحلام المناضلين العشاق للمواطنة والعدل والحرية .