والجامع هنا ليس مسجداً للصلاة، بل هو جامع الضرائب أو «الملتزم» فى العهد العثمانى، وكان مثلاً مصرياً خالصاً، والمثل كان يبيح للناس التهرب من سداد الضريبة والجباية «للجامع» أو «الملتزم» إذا احتاجها البيت وعزّت أو ضاقت على الناس، ثم سُحب المثل إلى المسجد فى اللغة الاصطلاحية عند العامة والخاصة.

وتمشياً مع الاثنين معاً، سواء جامع الضرائب، أو مسجد الصلاة، تندّر أحد بلدياتى أن قريته الصغيرة بها خمسة مساجد كبيرة مكيفة الهواء، وتغطى أرضية المساجد الخمسة بنوع من السجاد الوثير الأنيق الراقى، وثلاجات المياه المعدنية، ترافقها أكواب بلاستيكية للشرب لمرة واحدة، ويتبارى الناس ويتسابقون فى التبرع لها، وتلبية احتياجات المصلين، زوار الله فى بيته يُكرمون.

وعلى الجانب الآخر توجد مدرسة وحيدة للتعليم الابتدائى، تعمل فترتين، واحدة صباحية والأخرى مسائية، وفصولها مكدسة فى كل مرحلة بالتلاميذ الصغار.. سبعون تلميذاً مكدسون ومحشورون حشراً فى الفصل الواحد، تتنافس أنفاسهم على الخروج دون اختناق من الشباك الوحيد فى الفصل، ويعزف الناس عن التبرع للمدرسة اليتيمة، أو إصلاح دورات المياه، أو شراء كراسى لجلوس التلاميذ، فهؤلاء زوار العلم فلا يكرمون.

وهذا بلدياتى آخر يضحك ضحكاً كالبكاء، ويرثى لحال المستشفى الوحيد فى قريته بلا شاش أو سرنجات للحقن أو أدوية للحروق وللإسعافات الأولية، إضافة إلى دورات المياه المتهالكة وكراسى الانتظار السيئة، فى الوقت الذى ينشغل فيه الناس بالنوم أثناء الظهيرة فى مكيفات المسجد الكبير، مساجد المسلمين أسعد حظاً من مستشفياتهم ومدارسهم ومصالحهم الحكومية وبيوتهم، وحتى لقمة عيشهم، وكلهم يحلمون ببيت فى الجنة، حتى قنصوه الغورى السلطان المملوكي صاحب المسجد الحرام بالقاهرة.

الحادث الإرهابى القاتل الذى أصاب معهد الأورام القومى، وتصدع المبنى، وما أصاب المرضى من هلع وفزع وخروجهم إلى عرض الشارع، من مات منهم الثانية، ومن عاش الثانية، ومن عانى على ضعفه ووهنه، كان الله فى عونهم وعون أهليهم، قد كشف حالنا وحال مستشفياتنا، ووضعنا فى حرج وتحد، وكشف حقيقة الزيف الذى نحياه، والتدليس الذى نبنى به حياتنا، والخدعة التى خدعونا بها، فلا يسبق الحج ولا يتخطى مريض واحد أو محتاج، ولا يتنافس المتنافسون إلى زيارة البيت الحرام وبيوت المرضى خربة وخاوية على عروشها، ولا يتقدم بناء المساجد والكنائس جائع واحد من خلق الله، فإطعام جائع أفضل من بناء جامع، والجامع هنا المسجد، هذا على مسئوليتى وعهدتى، الله هو الغنى ونحن الفقراء، لا يحتاج أموال العباد فى تشييد المساجد والكنائس، أو بذخ التكييف والسجاد الفاخر، ولو شاء الله لنفسه بيتاً لشيدته الملائكة أجمعون، ولم يكن البيت العتيق فى مكة على فخامة أو وجاهة أول عهده، بل كان على حال بيوت الفقراء قديماً، وكان أولى بالعز والفخامة من بيوت المكيين، فلا تتفاخروا على الله، ولا يظن أحدكم الفضل عليه، الفضل كل الفضل حين يتجه إلى مستشفياتنا ومرضانا، وتوجيه جزء كبير من إعمار المساجد والكنائس إلى المستشفيات العامة التى تستقبل يومياً آلاف المرضى والمصابين فى حوادث الطرق، ولا يجدون خدمة أو عناية أو رعاية لضيق ذات اليد أو لفساد القائمين عليها، وإلى مدارسنا التى أصبحت اسماً على الورق فقط، دون بنيان آمن، أو دورات مياه آدمية، أو تعليم مفيد أو نافع، وليعلم عمار المساجد أن حفظ النفس والعقل عند الله أعظم أجراً وأكثر قرباً، وليطمئن المتبرعون أن الناس فى الجنة يسكنون بيوتاً وليسوا فى العراء، ويلبسون لباساً وليسوا عراة، وجميعهم فى بيت الله العامر حتى لو لم يعمروا بيوته فى الدنيا.

حالنا يحتاج إلى مراجعة، وفقراؤنا إلى العمل وعدم التكاسل والتحايل، وأغنياؤنا إلى رفع المعاناة عن الناس فى مرضهم وتعليمهم وتثقيفهم وتربيتهم، وليس فى تشجيعهم على التواكل والتنطع والتكاسل والتسول، عالجوا الفقراء ليصبحوا أصحاء للعمل، علموهم كيف يتكسبون ويتربحون من كد عملهم، افتحوا الأبواب والطرق وادفعوهم دفعاً للسير والجد والعمل، ولا يقفون على أبوابه للتسول والشحاذة، هذه مسئولية الجميع، أما الدولة فتحتاج إلى مراجعة عامة وشاملة فى توزيع ثرواتها، الصحة والتعليم يسبقان كل الأولويات وكل البناءات، شعب سليم معافى متعلم واع، قادر على البناء والتطوير، وليس شعباً مريضاً عليلاً جاهلاً، إرهابياً ومتطرفاً.

أما مشايخنا الأفاضل، زادهم الله من فضله ومن سعته، فلم نسمع يوماً عن متبرع منهم لمدرسة أو مستشفى أو لمريض، بل شغلهم التعدد، الزواج مثنى وثلاث ورباع، فلو تنازلوا عن الخامسة لصالح معهد الأورام، لحمدنا ما صنعوه وتنازلنا عما فعلوه، افتحوا باب التبرع للمعهد، وليدل كل بدلوه، الفنانون الأغنياء والمطربون المليونيرات ولاعبو الكرة، وكل الأغنياء، المطنشين منهم والمطنشات، هذا يومكم.. وليتولّ أحد البنوك القومية مسئوليته التاريخية وخبرته فى هذا الأمر.
نقلا عن الوطن