يوم حفل افتتاح مشروع قناة السويس الجديدة، يوم 6 أغسطس قبل خمس سنوات، وقعت واقعةٌ عابرة، استوقفتنى، رغم مرورها على كثيرين. لكنها كانت بمثابة عصفور صغير همس فى أذنى: «الخيرُ قادمٌ على يد هذا الرجل»، كعادة الشعراء فى التقاط الدلالات والرموز من الأحداث. تحت قيظ الظهيرة اللاهبة، كنّا جالسين فى مواجهة ضفّة القناة نُنصتُ إلى كلمة الرئيس لجموع المصريين والعالم. وفجأة، مرّت من خلف ظهر الرئيس سفينةُ بضائع عملاقة، تشقُّ صفحةَ المياه الوليدة التى ذهبنا نحتفل بسريانها فى عرض القناة الجديدة. أطلقتِ السفينةُ أبواقَها صادحةً عالية، كأنما تُقدّم التحيةَ لمصرَ ورئيسِها وشعبِها وللعالم الذى ينتظر القناة التى ستنقل الخيرَ بين موانئ العالم.

قاطعَ صوتُ السفينة صوتَ الرئيس، فإذا بالرئيس يقطع كلمته، ويتوقف عن الحديث، ويُنصِت معنا إلى نفير بوق السفينة ويبتسم. ثم استدارَ ووجّه بصرَه، مثلنا، صوبَ السفينة التى تمرُّ فى الممر الملاحى الجديد لأول مرة منذ تشييدها. وبدأ الرئيسُ السيسى يصفّق للسفينة مع هدر تصفيقنا الجماهيرى، الذى بدا ردًّا على تحية السفينة للحضور وللعالم. تزامنَ مرورُ السفينة مع إلقاء الرئيس كلمته!، وبالتأكيد كان بوسع مُنظِّمى الحفل أن يؤجلوا مرورَ السفينة حتى يُنهى الرئيسُ كلمتَه، فهل ذاك «التزامنُ» مقصودٌ، أم عفوىٌّ غير مُرتَّب؟، قلتُ لنفسى يومها: إن كان مقصودًا فقد صنع رسالةً عبقرية غُزِلت دراماها بذكاء وإبداع. وإن كان عفوَ مصادفةٍ فقد قدّم رسالةً شعريةً قَدَريةً بليغة.

توقفتُ عند تلك الواقعة ورأيتها حاشدةً بالمعنى. كأنما يودُّ الرئيسُ أن يقول إن «صوتَ العمل» يَجُبُّ «صوتَ الكلام». العملُ «يكسرُ» الكلام. الكلام يتوقف إن دقَّ العملُ ناقوسَه. وهل نحتاجُ إلا إلى العمل من أجل الارتقاء بمصر وإعلاء شأنها فى هذه اللحظة الصعبة من تاريخها؟. (صمتَ الرئيسُ حين تكلمتِ السفينةُ). فكأنما بصمته يقول: (أنا رئيسُ مصر، أحترمُ هذه اللحظة التاريخية التى تمرُّ فيها أولُ سفينة تجارية فى المجرَى الملاحىّ الجديد. هذه اللحظة هى ناقوسُ بدء العمل وتشغيل القناة رسميًّا، فوجبَ معها الصمتُ، لأن الصمتَ فى حرم العملِ.. عملٌ). يتحتَّمُ الصمتُ عن أىّ كلام حين يبدأ العملُ. حتى وإن كان الكلامُ خطبةَ الرئيس التاريخية للعالم لحظة تدشين القناة الجديدة. يومها كتبتُ مقالًا حول الواقعة ووضعتُ سؤالى فى نهايته: هل الواقعةُ عفوية قدَرية، أم مُرتَّبة؟ وفكّرتُ، حتى إن كانت عفوية فقد كان بوسع قبطان السفينة أن يوقف سفينته قبل المنصّة، حتى يُنهى الرئيسُ كلمتَه. وكان بوسعه كذلك، وقد وجد الرئيس يتحدث، أن يمرَّ فى صمت فلا يُطلق نفيرَه الذى طغى على كلمة الرئيس. كلا السيناريوهين «منطقىٌّ» وأكثرُ قبولًا، لكنهما ليسا الأجمل. فليس كلُّ منطقىّ جميلًا. وليس كلُّ جميلٍ منطقيًّا. الأجملُ هو السيناريو الثالث الذى حدث بالفعل. كلٌّ سار فى طريقه يؤدى عملَه وفقَ برنامجه. الرئيسُ يفتتح القناةَ الجديدة ويقول كلمته للعالم، وقبطانُ السفينة يقودُ سفينتَه لنقل البضائع إلى العالم. فإن تقاطعت اللحظتان، احترم الرئيسُ لحظةَ «العمل» وقدّمها على «كلمته» التاريخية التى ينتظرها الشعبُ المصرىُّ والعالم. ثم سافرتُ إلى أمريكا فى اليوم التالى. وجاءتنى مكالمةٌ من الرئاسة تجيبُ عن سؤالى فى المقال: «الواقعةُ مقصودةٌ ومُرتَّبة وفق السيناريو الذى حدث بالفعل. لا شىء عفويًّا ولا مصادفةً». والمعنى الذى وصلنى هو المقصود بالضبط: «العملُ قبل الكلام».

ازدادت بهجتى لأننى تأكدت من معدن هذا الرجل الذى قال والشعبُ يناديه للترشّح: (لو قبلتُ الترشّح للرئاسة لن تناموا!، سنستيقظ فى السادسة صباحًا لنبدأ العمل). وقبلنا شرطَه الصعب. وألزم الرئيسُ نفسَه بما تعهّد به، فبدأ يومَه فى السادسة وحثَّ الوزراءَ على الذهاب إلى أعمالهم فى السادسة صباحًا. بينما لم نلتزم نحن بعد، للأسف، بالشرط الذى قبلناه، راضين مرضيين، فمازلتُ أرى الكسلَ والتراخى ينهشُ فى خاصرة مصر، فيا ليتنا لا نقف عند لحظات الفرح بإنجازاتنا، ونعمل بكامل طاقتنا على استكمال مشوار الحلم الصعب والطويل الذى بدأنا أولى خطواته. يوم افتتاح القناة تأكدتُ أن العمل لن يتوقف فى القناة مع افتتاحها، بل ستتبعه مشاريعُ ومشاريع. وبالفعل بدأ العمل فى اليوم التالى فى مشروع شرق التفريعة، الذى أبطل بطالة 3 ملايين شاب مصرى، ليدرّ الخير على مصر والعالم، وتتبعُ المشاريعَ مشاريعُ. قال الرئيسُ فى كلمته: (سننتصرُ على الإرهاب بالحياة، وعلى الكراهية بالحب). وأقول لنفسى ولشعب مصر الطيب: ولن ننتصر على الفوضى والفقر والفساد والقمامة والترهّل والكساد إلا بالعمل. دعونا نصمت عن الكلام، كما صمت الرئيسُ عبدالفتاح السيسى لحظة مرور سفينة البضائع، حتى نسمحَ لسفينة «العمل» بأن تمرّ. «الدينُ لله، والوطنُ لمَن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم