رأى الشيخ محمد عبده فى محمد على باشا :

فى مثل هذا اليوم 7 يونيه 1902 تحت عنوان 
سامح جميل
" آثار محمد علي في مصر "
 
( لغط الناس هذه الأيام في محمد علي ... وماله من الآثار في مصر والأفضال على أهلها وأكثرت الجرائد من الخوض في ذلك والله أعلم ماذا بعث المادح
 
على الإطراء وماذا حمَل القادح على الهجاء .
 
، غير أنه لم يبحث باحث في حالة مصر التي وجدها عليها محمد علي و ما كانت تصير البلاد إليه لو بقيت وما نشأ من محوها و استبدال غيرها على يد محمد علي ...أقول الآن شيئا في ذلك ينتفع به من عساه أن ينتفع ... ويندفع به من الوهم ما ربما يندفع ..
 
ما الذي صنعه محمد علي ؟ لم يستطع أن يُحيي ولكن استطاع أن يُميت ،
كان معظم قوة الجيش معه وكان صاحب حيلة بمقتضى الفطرة ، فأخذ يستعين بالجيش وبمن يستمليه من الأحزاب علة إعدام كل رأس من خصومه ثم يعود بقوة الجيش وبحزب آخر على من كان معه أولا وأعانه على الخصم الزائل ، فيمحقه وهكذا حتى إذا سحقت الأحزاب القوية ، وجّه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة ، فلم يَدَع فيها رأسا يستقر فيه ضمير "أنا" ...واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلا لجمع السلاح من الاهلين وتكرر ذلك منه مرارا حتى فسد بأس الأهلين وزالت ملكة الشجاعة فيهم وأجهز على ما بقي في البلاد من حياة في أنفس بعض أفرادها فلم يبق في البلاد رأسا يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه.
 
أخذ يرفع الأسافل ...ويُعليهم في البلاد والقرى كأنه يَحِن لشَبَه فيه ورثه عن أصله الكريم .. حتى انحط الكرام وساد اللئام ولم يبق في البلاد إلا آلات له يستعملها في جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة ، فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأي و عزيمة واستقلال نفس ، ليُصَيّر البلاد المصرية جميعها إقطاعا واحدا له ولأولاده بعد إقطاعات كانت لأمراء عدة.
 
ماذا صنع بعد ذلك ؟ اشرأبت نفسه لأن يكون ملكا غير تابع للسلطان العثماني ، فجعل من العُدة لذلك أن يستعين بالأجانب من الأوربيين فأوسع لهم في المجاملة وزاد لهم في الامتياز حتى صار كل صعلوك منهم لا يملك قوت يومه ملكا من الملوك في بلادنا ، يفعل ما يشاء و لا يُسأل عما يفعل ، وصغرت نفوس الأهالي بين أيدي الأجانب بقوة الحاكم وتمتع الأجنبي بحقوق الوطني التي حُرم منها وانقلب الوطني غريبا في داره غير مطمئن في قراره فاجتمع على سكان البلاد المصرية ذُلان ...ذُل ضربته الحكومة الاستبدادية المطلقة وذُل سامهم الأجنبي إياه ليصل إلى ما يريده منهم ...غير واقف عند حد أو مردود إلى شريعة.
 
لا يستحي بعض الأحداث من أن يقول : إن محمد علي جعل من جدران سلطانه بناء من الدين ... أي دين كان دعامة للسلطان محمد علي؟ دين التحصيل ؟ دين الكرباج ؟ دين من لا دين له إلا ما يهواه ويريده ؟
 
و إلا فليقل لنا احد من الناس ...أي عمل من أعماله..لصالح الناس .
 
لا أظن أن احدا يرتاب – بعد عرض تاريخ محمد علي – على بصيرته أن هذا الرجل كان تاجرا زارعا وجنديا باسلا ومستبدا ماهرا ولكنه كان لمصر قاهرا ولحياتها الحقيقية مُعدما ... وكل مانراه الآن فيها مما يسمى حياة فهو من أثر غيره ـ متّعنا الله بخيره وحمانا من شرّه والسلام )...!!
استعان محمد على بالأجانب من الأوروبيين فأوسع لهم من المجاملة وزاد في الإمتياز، خارجا عن حدود المعاهدات المنعقدة بينهم وبين الدولة العثمانية، حتى صار كل صعلوك منهم، لم يكن يملك قوت يومه، ملكا من الملوك في بلادنا يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل، وصغرت نفوس الأهالي بين أيدي الأجانب بقوة الحاكم وتمتع الأجنبي بحقوق الوطني التي حرم منها وانقلب الوطني غريبا في داره غير مطمئن في قراره فاجتمع على سلطان البلاد المصرية ذلان:
1ــ ذل ضربته الحكومة الإستبدادية المطلقة.
2ــ وذل سامه الأجنبي إياه إلى ما يريده منهم غير واقف عند حد أو مردود إلى شريعة.
نعم عني محمد علي بالطب؛ لأجل الجيش والكشف على المجني عليهم في بعض الأحيان عندما يراد إيقاع الظلم بمتهم! وعنى بالهندسة لأجل الري حتى يدبر مياه النيل بعض التدبير ليستغل إقطاعه الكبير.
هل فكر يوما في إصلاح اللغة: عربية أو تركية أو أرنئودية؟ هل فكر في بناء التربية على قاعدة من الدين أو الأدب؟ هل خطر في باله أن يجعل للأهالي رأيا في الحكومة في عاصمة البلاد أو أمهات الأقاليم؟ هل توجهت نفسه لوضع حكومة قانونية منظمة يقام بها الشرع ويستقر العدل؟
أين البيوت المصرية التي أقيمت في عهده على قواعد التربية الحسنة؟ أين البيوت المصرية التي كان لها القدم السابقة في إدارة حكومة أو سياستها أو سياسة جندها، مع كثرة ما كان في مصر من البيوت رفيعة العماد ثابتة الأوتاد؟
أرسل جماعة من طلاب العلم إلى أوروبا ليتعلموا فيها فهل أطلق لهم الحرية أن يبثوا في البلاد ما استفادوا؟ كلا! ولكنه اتخذهم آلات تصنع له ما يريد وليس لها إرادة فيما تصنع، وظهر بعض الأطباء الممتازين، وهم قليل، وظهر بعض المهندسين الماهرين، وهم ليسوا بكثير، والسبب في ذلك أن محمد علي ومن معه لم يكن فيهم طبيب ولا مهندس فاحتاجوا إلى بعض المصريين، وكان ذلك مما لا تخشى عاقبته على المستبدين! 
ترجمت كتب كثيرة في فنون شتى من التاريخ والفلسفة والأدب ولكن هذه الكتب أودعت في المخازن من يوم طبعت وأغلقت عليها الأبواب إلى أواخر عهد إسماعيل وهذا يدلنا على أنها ترجمت برغبة بعض الرؤساء من الأوروبيين الذين أرادوا نشر آدابهم في البلاد.
 
هل كانت له مدرسة لتعليم الفنون الحربية؟ أين هي؟ 
 
هل علّم المصريين حب التجنيد؟ لا! بل علمهم الهرب منها بعد أن كانوا ينتظمون في أحزاب الأمراء ويحاربون لا يبالون بالموت أيام حكم المماليك.
ليقل لنا أنصار الإستبداد كم كان في الجيش من المصريين الذين بلغوا في رتب الجندية إلى رتبة البكباشي على الأقل؟ فما أثر ذلك في حياة المصريين؟ أثر كله شر في شر.
 
ظهر ذلك حينما جاء الإنجليز لإخماد ثورة عرابي، دخل الإنجليز مصر بأسهل ما يدخل دامر على قوم، ثم استقروا ولم توجد في البلاد قوة تثبت لهم أن في البلاد من يحامي على استقلالها، وهو ضد ما رأيناه عند دخول الفرنسيين إلى مصر وبهذا رأينا الفرق بين الحياة الأولى والموت الأخير.
 
أى دين كان دعامة لسلطان محمد علي؟ دين تحصيل الضرائب بالقوة والظلم؟ دين الكرباج؟ دين من لا دين له إلا ما يهواه ويريده؟ فليقل لنا أحد من الناس أى عمل من أعماله افاد الناس؟؟؟؟؟
 
الخلاصة.. كان محمد علي مستبدا ماهرا، لمصر قاهرا، ولحياتها الحقيقية مُعدِما، وكل مانراه فيها مما يسمى حياة فهو من أثر غيره!".
يمكن تقسيم رؤى المفكرين العرب لنهضة محمد على إلى ثلاثة اتجاهات :
الاتجاه الأول : وهو ما يمكن أن نطلق عليه الاتجاه المؤيد لنهضة محمد علي والمبرر لما اكتنفها من سلبيات .
 
الاتجاه الثاني : هو الاتجاه الرافض لمنهج محمد على وإصلاحاته ويغلب سلبياته على إيجابياته .
 
الاتجاه الثالث : هو الاتجاه الذي يقف موقفاً وسطاً بين الاتجاهين السابقين ، فهو يسجل لمحمد علي إيجابياته ويعتد بها ، وفي الوقت نفسه يسجل عليه انتقادات مهمة أدت إلى فشل مشروعه ، ونحاول في الصفحات الآتية عرض وتحليل هذه الاتجاهات .
الاتجاه الأول : الاتجاه المؤيد لنهضة محمد علي :
يرى أنصار هذا الاتجاه أن ( محمد علي ) صاحب مشروع نهضوي ومنهج فكرى ، كانت نتيجته إحداث نهضة علمية واقتصادية واجتماعية وعسكرية في مصر ، امتدت إلى باقي الدول العربية وكان لها تأثيرها على نمو الحركات الإصلاحية في السلطنة العثمانية ذاتها ، ويمثل هذا الاتجاه كل من : جمال الدين الأفغاني ( 1838-1897م ) ، ومصطفي كامل ( 1874-1908م ) ، وجرجي زيدان ( 1861-1914م ) ، وشكيب أرسلان ( 1871-1946م ) ، وعباس العقاد ( 1889-1964م ) ، وأحمد فؤاد الأهواني ( 1908-1970م ) .
 
بداية نجد جمال الدين الأفغاني يثني على منهج محمد على ونهضته ، بل إنه يصفه أنه نابغه من نوابغ الدهر ، ويرى أن مصر قد دخلت معه عصراً جديداً تفوقت فيه على كل جاراتها من الأمم في عصور المدنية ، ويعدد مآثر هذا التفوق ، فيراها في الحكومة النظامية والتفوق الاقتصادي المتمثل في الزراعة وتطور وسائلها وانتشار معاهد العلم والمعارف الصحيحة والتقدم في إنشاء الطرق والمواصلات وما إليها من مظاهر تدل على التقدم المادي والاقتصادي ، ناهيك عن انتشار الأفكار الوطنية بين أهالي مصر .
 
أما مصطفى كامل فإنه يعد من المؤيدين لنهضة محمد علي في دقائقها وتفصيلاتها ، فلم يسجل عليه أي نوع من الانتقادات في إصلاحاته المختلفة على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعسكري ، فيرى أن محمد على قد أحاط مصر بسياج من القوة والرهبة وسعى إلى إنشاء حكومة منتظمة فيها تدير أمرها على أصول راسخة وقواعد ثابتة ، وجمع شمل الأمة بعد أن كانت موزعه مشتتة على المماليك يتصرفون في أرواح المصريين على هواهم ، صارت وطناً واحداً لأمة واحدة يجمعها لواء واحد وتحت سيادة حاكم واحد اختارته الأمة بمحض إرادتها .
 
ويشير مصطفى كامل إلى سياسة محمد علي في حكومته ، فيراها قائمة على ثلاثة مبادئ قويمة لا تدوم دولة بغيرها ، هي أولا : حماية الوطن من اعتداء الأجنبي وسلطته ، ثانياً : ترقيه الجيش المصري إلى أسمي الوظائف وترسيخه لاستلام مقاليد الأمور حتى لا تحتاج البلاد لأجنبي يزاحم أهلها وتدريب المصريين على العمل والصناعة حتى تحفظ الثروة الأهلية في البلاد ، ثالثاً : الامتناع عن الاستدانة للتنمية الاقتصادية .
 
ويرى مصطفى كامل أن محمد علي أيقظ القوي الحيوية في الأمة المصرية عن طريق التركيز على ضرورة نشر الوعي بأهمية العلوم والمعارف بوصفه من المواد الحيوية لإحياء الأمم وإعلاء قدرها ، فقد ألقى محمد علي إلى الأمة المصرية السلاح الذي تحارب به الجهل والرذيلة ومفتاح التقدم والرقى وآلة المجد والمدنية ، أي العلم الذي أحسن استخدامه وتوظيفه فكانت له الغلبة ، التي يجب أن تسعي إليها الأمة المصرية وإلا قضت على الحاضر والمستقبل .
 
ويرى مصطفى كامل أن محمد علي غيَّر أحوال مصر وألبسها ثوب العزة والمجد عن طريق التوفيق بين المدنية العصرية ومبادئ الدين الإسلامي ، لأنه رأى أن الإسلام يحتوى على كافة المواد الحيوية لأرقى مدنية يطلبها الإنسان ، وأنه الدين الذي يؤهل أهله وذويه إلى أسعد حالات الدنيا وأتم نعيمها ، ويري أن الأمة المصرية إذا اقتدت به واعتمدت على الإسلام وقواعده وأوامره وأخذت من المدنية الغربية فوائدها ومنافعها ، فتكون قد اعتبرت بعبر التاريخ ، وبلغت أقصى مرامي المجد والتقدم .
 
أما جرجي زيدان ، فقد جاء حديثه عن نهضة محمد علي عبارة عن مدح وإطراء وتقدير لمآثره المختلفة على مختلف المجالات ، الإدارية والزراعية والعسكرية والتجارية والصناعية والصحية والعلمية ، ويختم حديثه المطول عن هذه الإنجازات بقوله : إن محمد على كان حاكماً يراعي حق الرعية وإن آثاره العلمية والعملية واضحة للعيان ، ولذلك لم يسجل زيدان أدنى نوع من أنواع الانتقاد لكل هذه المآثر والإنجازات .
 
أما شكيب أرسلان فيرى أن محمد علي هو أول من انتقل بالشرق من جموده على أساليب العمران القديمة ، وجعل نصب عينيه الغرب في أساليبه الجديدة حتى يتمكن الشرق من مقاتلة الغرب بسلاحه ويتفوق عليه فيه ، لذلك يرى أرسلان أن محمد على هو مؤسس النهضة الشرقية الحديثة ليس بوادي النيل فقط، بل في البلاد المجاورة أيضاً .
 
أما عباس العقاد فيعتبر محمد علي من العباقرة في صناعة الحكم وسياسة الشعوب ، فقد أفلح في إنشاء دولة جديدة وأخرجها من الفوضى إلى النظام ، فقد كان منهجه وتفكيره النهضوي قائماً على البداهة العقلية والبصيرة النافذة والاستنارة ، فلم يترك أي مجال من مجالات النهضة القومية للصدفة ، من إنشاء القوة العسكرية والبحرية ونشر التعليم وإرسال البعثات العلمية وترجمة الكتب والاهتمام بالزراعة والصناعة ، حتى إدراكه لقيمة العلاقة الجيدة بينه وبين الرعية ، ولذلك اختار لمشروعه هيئة نيابية تناسب الوقت من العارفين لشؤون الإدارة وأحوال الأقاليم ، ولم ينس تمثيل الصحافة في الهيئة النيابية ، فكان ممثل الوقائع المصرية من أعضائها .
 
ويبرر عباس العقاد استبداد محمد علي السياسي ، من أنه لم يكن أمامه إلا أن يظل الحكم على حالة الفوضى بين عشرات الأمراء أو أن يوجد الرجل الذي يقضي على تلك الفوضى ويجتهد في تنظيم الأحوال على دعائم الاستقرار والإصلاح ، وقد كان محمد علي هو الحاكم العبقري الذي استطاع تأسيس دولة قوية وتقرير النظم وتكوين نهضة سليمة مطردة على سنن التقدم والحرية .
 
أما أحمد فؤاد الأهواني فيرى أن مظاهر عبقرية محمد على في أنه نقل مصر من الفوضى إلى النظام وبث فيها معالم الحضارة والعمران ، وذلك بما لديه من مقدرة على الملاءمة بين العقل والإرادة والدراسة الدقيقة لمشكلات الحاضر واستشراف المستقبل ، وقد كان ينقل عن الأوربيين ويأخذ علومهم وفنونهم ويرسل البعثات العلمية إلى الخارج ، لأنه كان يؤمن أن العلم لا وطن له وأنه أساس كل تقدم ورقي وخصوصاً العلوم الرياضية ، فقد كان يرى أن الهندسة هي سر العمران .
 
هكذا نجد أن رؤى أصحاب هذا الاتجاه انحصرت في تأييد وتبرير نهضة محمد على وتعداد المآثر والإنجازات ، وتركز على منهجه في التعامل مع الحضارة الغربية ، فلم ير محمد علي ثمة تعارضاً بين الدين الإسلامي والعلوم الغربية ، لذلك أقبل عليها بكل ما أوتى من قوة في سبيل تحديث مصر ونهضتها علمياًّ واقتصادياًّ وعسكرياًّ ، وهذا له ما يبرره خاصة مع المتغيرات الدولية التي تفرض على مصر والعالم الإسلامي بأكمله أن يسابق ركب التقدم العسكري والاقتصادي خصوصاً .
 
ولكن ما يمكن أن يؤخذ على أصحاب هذا الاتجاه هو أنهم لم يروا في تلك الإنجازات أسباب عدم استمرارها ولم يبصروا الفائدة التي جنتها منها مصر ، والعبء الذي يقع على عاتق المفكر في نظرنا في بحث أسباب السقوط والاستفادة منها في بناء الحاضر والمستقبل لا في تعداد المآثر والإنجازات ، وهذا ما يمكن أن نقف عليه عند أصحاب الاتجاهين الآخرين في رؤيتهم لنهضة محمد علي ومنهجه التحديثي .
 
الاتجاه الثاني : هو الاتجاه الرافض لمنهج محمد علي وإصلاحاته ويركز على سلبياته أكثر من إيجابياته وكل مفكر له وجهة ينظر منها إليه ، ويمثل هذا الاتجاه كل من : الإمام محمد عبده ( 1849-1905م ) ، ورشيد رضا( 1865 – 1935م ) ، وإسماعيل مظهر ( 1891-1962م ) ، وحسين فوزى ( 1900 - 1988م ) ، ومن الباحثين المعاصرين : محمد عمارة ، وعبد المحسن حمادة ، ونصر عارف .
 
بداية يحمل الإمام محمد عبده علي محمد علي حملة شعواء ، فينتقد منهجه وأسلوبه في مختلف نواحيه ، أول هذه الانتقادات هي استبداد محمد علي في التعامل مع المخالفين له في الرأي والفكر ، فكان يستعين بالجيش للتخلص من خصومه ، وكان يستعين بمن يستميله من الأحزاب لسحق حزب آخر ثم يستدير على من كان معه فيتخلص منه ، وعلى ذلك حتى فسد بأس الأهالي وزالت ملكة الشجاعة منهم .
 
وثاني هذه الانتقادات هو أسلوب محمد علي في التعامل مع الأجانب ، فقد أعلى كعبهم وأغدق عليهم الوظائف ووهب لهم المكانة الاجتماعية حتى ضعفت نفوس الأهالي وتمتع الأجنبي بحقوق المواطن التي حرم منها ، وهكذا اجتمع على المصري ذل الحكومة الاستبدادية المطلقة من ناحية وذل إذلال الأجانب لهم من ناحية أخرى .
 
وثالث هذه الانتقادات هو أن إصلاحات محمد علي كانت في مجملها موجهة ناحية الجيش والأغراض العسكرية ولم تكن موجهة ناحية الأمة المصرية ، فقد اعتنى بالطب والهندسة لأجل الجيش حتى البعثات العلمية كانت من أجل خدمة أغراضه وبذلك قتل الحرية الفكرية لدى الشعب .
 
ورابع هذه الانتقادات هو أن محمد علي لم يفكر مطلقاً في إصلاح اللغة سواء أكانت العربية أم التركية ، ولم يجعل للأهالي رأياً في حكوماتهم ولم يضع حكومة قانونية منظمة يقام بها الشرع ويستقر بواسطتها العدل ، ولم يفكر كذلك في بناء التربية على قاعدة من الدين أو الأدب ، حتى الكتب التي ترجمت في شتى فروع المعرفة من تاريخ وفلسفة وأدب لم ينتفع بها الشعب المصري لأن محمد علي لم يعمل على تكوين أرضية عريضة من أبناء الشعب المصري تستفيد من هذه الكتب .
 
الانتقاد الخامس ينصرف إلى اهتمام محمد علي بتكوين جيش قوي وأسطول بحري ولكنه أهمل تعليم المصريين الجندية ، فلم يعلم المصريين حب التجند رغبة في الفتح والغلبة والافتخار ، بل علمهم الهروب منها ، لذلك لم يشعر المصري يوماً أن هذا جيشه وأسطوله وأنه في خدمته وخدمة وطنه ، وقد ظهر ذلك الأثر العظيم في أثناء إخماد ثورة عرابي ، فقد دخل الإنجليز مصر كأسهل ما يكون ، عكس ما حدث من مقاومة المصريين للفرنسيين أثناء دخولهم مصر .
 
الانتقاد السادس هو إهمال محمد علي للناحية الدينية في نهضته ، فيرى أن محمد علي لم يهتم يوماً بالدين إلا من ناحية استمالة بعض رجاله المنافقين لدعم سلطانه أو للقضاء على الوهابية ذلك العمل الذي بدأ في ظاهرة خدمة للدين ، في حين أنه عمل سياسي محض لا شأن له بالدين أو بغلو الوهابيين في بعض معتقداتهم .
 
خلاصة القول فيما يرى محمد عبده أن محمد علي كان تاجراً وزارعاً وصانعاً وجندياً باسلاً ومستبداً ماهراً ، ولكنه كان لمصر قاهراً ولحياتها الحقيقية معدماً .
 
هذا هو رأى محمد عبده في نهضة محمد على فهو لم ير فيها أي جانب إيجابي ، وبغض النظر عما قيل حول هذا الرأي من أنه كتب بدوافع سياسية نتيجة لخصومته مع الخديو عباس وتسلحه بمؤازرة الإنجليز له ، فقد جاء نقد محمد عبده ردًّا على تقريظ مصطفي كامل لمحمد علي في خطبة ألقاها سبقت الإشارة إليها .
 
ومهما يكن من أمر هذه الآراء فإن الباحث يعتقد أن محمد عبده قد أصاب في أكثر ما قاله ، فهو يأخذ على محمد علي إهماله تنمية الوعي القومي المصري بالنهضة والإصلاح ، فقد أنشأ محمد علي نهضة عمرانية ولكنها كانت لأجل خدمة غرض واحد هو الغرض العسكري ولم يشعر الإنسان المصري بها ، بالإضافة إلى أنه أهمل الجانب الديني الأخلاقي في نهضته فكانت نهضة منقوصة لم تؤت ثمارها المرجوة ، وكل هذا كان وما يزال أمراً واقعياً ملموساً لا يحتاج إلى تأويلات مختلفة وخاصة ما أثاره الإمام محمد عبده من إعلاء سلطة الأجانب في مصر على حساب كرامة المواطن المصري ، حتى وصل الأمر إلى إنشاء المحاكم المختلطة التي كانت بداية الاحتلال الأجنبي لمصر ، وهذا ما يدلل على رفض البعثة اليابانية ، التي زارت مصر آنذاك لدراسة نظام المحاكم المختلطة ، تطبيق ذلك النظام في اليابان ، والمقارنة تظهر أيهما كان على صواب .
 
أما عن رأي رشيد رضا، فإنه لم يختلف كثيراً عن رأي أستاذه إلا في تفصيلاته، فيشير إلى أن محمد على يعد ضمن المصلحين من الناحية الدنيوية ( المادية والسياسية ) دون الناحية الدينية والمعنوية ، فقد بنى ركني الثروة والقوة على أساس العلم ولكنه أهمل بناء الأخلاق والآداب على أساس الدين وسنن الاجتماع ، لذلك كان إصلاحه منقوصاً عالج ناحية وأهمل الأخرى ، ويرى أن هذا الإصلاح يعد إصلاحاً صورياًّ لم يزد الأمة إلا ضرباً من الفساد وإضعاف روح الاستقلال ، فلم يكن محمد علي هو الطبيب الاجتماعي المبصر بأمراض الأمة الباطنة والظاهرة حتى يتمكن من وصف العلاج الملائم لها ، لذلك كان من أثر عدم تمكن الطبيب أن زادت الأمة مرضاً وضعفاً ، حتى إن العلوم التي أدخلت إليها قسراً كانت مثل الجسم الغريب الذي يدخل في البنية فيفسدها ، لأن هذه العلوم لم تكن على حسب استعداد الأمة وحاجاتها ، بل كانت تقليداً صورياًّ أو عارضاً وقتياً تمثل ضررها في تلك التقاليد والقوانين الغربية التي قطعت كثيراً من روابط الأمة الملية ومشخصاتها الأدبية والاجتماعية ولم تستبدل ما يحل محلها من مقومات الأمم الأوربية ، بل صارت عيالاً عليهم في جميع الشؤون ، حتى انتهى الأمر إلى فقدان الاستقلال باسم النفوذ أو الحماية أو الاحتلال .
 
ولذلك ينتقد رشيد رضا مصطفي كامل في مبالغته بوصف محمد على بأنه استطاع التوفيق بين المدنية العصرية والدين الإسلامي ، ويرى أن محمد علي لم يكن عالماً ولا فيلسوفاً وإنما كان أمياًّ لا يعرف من علوم الدين أو الدنيا شيئاً .
 
ويري رشيد رضا أن لمحمد علي ثلاثة أعمال كبيرة ، كان كل منها موضع خلاف هل كان نافعاً أم ضاراً بالمسلمين في سياستهم ؟
العمل الأول : هو تأسيس حكومة مدنية بمصر كانت مقدمة لاحتلال الأجانب لها ، ورغم الاختلاف الدائر حول قيمة هذا العمل إلا أن رشيد رضا يميل إلى ذم هذا النوع من الحكومات الظالمة وكل ما فعلته حكومة محمد علي هو أنها نظمت الظلم ووحدته ويرى أن مقصد محمد علي لم يكن سليماً وإن كان يحمد في نظر الدنيا لكنه لا يحمد في نظر الدين ، فلم يقصد محمد علي غير الملك وعظمته له ولذريته أما نتيجة عمله فهو دخول الأوربيين مصر ونشر مدنيتهم وسيطرتهم عليها بالاحتلال .
 
أما العمل الثاني : فهو الخروج على الدولة العثمانية ، ورغم الاختلاف حول هذا العمل ، فإن رشيد رضا يميل إلى نقده كذلك ويقف إلى جوار الرأي الذي يرجح أن هذا العمل أضر بالإسلام والمسلمين ، وكان من نتيجته إضعاف وقهر لأقوى دولة إسلامية في عصرٍ قويت فيه الدول الأجنبية فضعف بذلك الإسلام ولم تقم لأهله قائمة حتى الآن .
 
أما العمل الثالث : فهو محاربة الوهابية ويميل رشيد رضا إلى رأى الخواص في هذا الموضوع ، والذي مؤداه أن الوهابية كانت حركة إصلاحية أن ولم تكن مبتدعة خارجة عن السنة ، بل إن مذهبهم هو مذهب السلف في العقائد ومذهب الإمام أحمد في الفروع ولهم تشديد عظيم على مخالف السنة .
 
ذلك هو رأى رشيد رضا والذي يعبر عن وجهة نظر نقدية كذلك لإصلاحات محمد علي ، وهو بذلك يتفق مع الأستاذ الإمام محمد عبده ويختلف كلاهما مع جمال الدين الأفغاني ، ويجب التنويه إلى أن هذا الخلاف لا يفسر على أنه خلاف حول قيمة العلم وأهميته وخاصة العلم الغربي ، لأنهم جميعاً اتفقوا على ضرورة العلم لنهضة العالم العربي والإسلامي ودعوا إلى التعامل الانتقائي مع الحضارة الغربية برمتها مع التركيز على جوهر تقدمها دون مظهره ، وبذلك يكون مرد الخلاف حول منهج محمد على وأسلوبه في التعامل مع الحضارة الغربية لتحديث المجتمع المصري ، فالإمام محمد عبده ورشيد رضا رأوا أنه لم يوفق في التعامل معها ولم يتمكن من التوفيق بين الموروث والوافد أو بين الأصالة والمعاصرة ، فكانت نهضته عبارة عن إِقحام الوافد رغماً عن الموروث وقسراً له لذلك لم يجد الأرضية السليمة للإنبات والنمو في المجتمع المصري والعربي ، أما جمال الدين الأفغاني فإن حماسته ورغبته الشديدة في رؤية مصر متقدمة اقتصادياً وعلمياًّ جعلته يتغاضى عن أخطاء محمد علي في التطبيق .
 
أما انتقاد رشيد رضا لمحمد علي في هجومه على الدولة العثمانية وبيان ضعفها أمام الدول الأوربية ، مما مهد الطريق للانقضاض عليها فيما بعد ، فإن ذلك يعود إلى إيمان رشيد رضا في تلك الفترة بفكرة الجامعة الإسلامية المتمثلة في الخلافة العثمانية في ذلك الوقت وكان الحفاظ عليها وإصلاحها من الداخل هو الهدف وليس الهدف هو محاربتها وبيان ضعفها ، وهذه الفكرة سوف تتحول عنده إلى القومية العربية داخل الإطار الإسلامي فيما بعد .
 
أما إسماعيل مظهر ، فإنه يقف من نهضة محمد علي موقفاً نقدياً ، فيرفض اعتبارها نقطة الارتكاز التي يمكن أن يقال عنها إنها السبب في تغير أساليب الفكر في مصر ، والسبب في ذلك أن محمد علي أهمل تنمية الوعي القومي المصري بالنهضة ، فكان أن سيقت الأمة المصرية سوقاً نحو غايات لم تعرف يوماً أنها مسوقة في سبيلها ولم تشعر بما ينتظرها وراء تلك الغايات من المقاصد التي كانت تجول في رؤوس زعمائها ، ويبدو ذلك واضحاً لا من خلال الغزوات الحربية التي قام بها محمد علي فقط ، بل من خلال إسهاماته في ميدان العلم والمعرفة كذلك ، حتى إن مظهر يرى أن ذلك العهد على كثرة ما أنتج من نوابغ المتعلمين الذين أوفدهم المصلح الكبير إلى أوروبا لم يخرج مفكراً واحداً استطاع أن يجمع قوة الفكر الكامن في المجتمع المصري حول غاية معينة .
 
ومن الجدير بالذكر أن الخلاف بين المفكرين يدور حول مدى إسهام محمد علي في ضعف فكرة القومية العربية وتأخر ظهورها ، وأكثرهم متفقون على أن نهضة محمد على أسهمت في بناء الوعي القومي المصري على حساب الوعي القومي العربي ، إلا أن إسماعيل مظهر ينفي عن نهضته حتى هذا الانتقاد .
 
أما حسين فوزي النجار فإنه يقف كذلك موقفاً نقدياً من نهضة محمد على وأسلوبه وذلك في إطار نقده لمنهج محمد علي في التعامل مع الحضارة الغربية الذي ركز على آثار تلك الحضارة المادية بدلاً من التركيز على فلسفتها في النهضة ، أي على أصولها ومبادئها التي قامت عليها .
 
ويفصل ذلك فيرى أن نهضة محمد علي لم تر في الحضارة الغربية غير الشق المادي منها ، فحدثت تطورات على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والعلمية والعسكرية ، ولكنها كانت إصلاحات ظاهرية ركزت على الشق المادي من حضارة الغرب وتقدمه دون فنونه الرفيعة وفكره وفلسفته في النهضة والمنهج الذي أتبعه حتى وصل إلى ما وصل إليه ، ولذلك تاهت من محمد علي وأتباعه المقومات الحقيقية للنهضة لأنها لم تؤمن بحضارة الغرب الفكرية والفنية والعلمية ، لم تؤمن بها ككل متكامل ، ومن هنا حدثت البلبلة فلم يستطع الشعب المصري أن يسير نحو التطور الطبيعي للانتفاع الكامل بتلك الحضارة أو الاستغناء الكامل عنها ، بل إن الأمر لم يقف عند هذا الحد من التأثر بالحضارة الغربية في علومها وتكنولوجيتها وتطبيقاتها المختلفة ، بل تعداه إلى استعادة مظاهرها البراقة وتطوراتها الدنيوية التي لا تتلاءم مع طبيعة وواقع الشعب دون أن تتطور الأمة المصرية روحياً في مقابل ذلك .
 
ويدلل على رأيه السابق هذا بعملية استقرائية بسيطة لبواكير الحضارة الغربية وأسس تقدمها وهو عصر النهضة أو الإحِياء وما حدث في مصر من إحياء ، فيرى أن ما حدث في أوربا جاء على أثر اليقظة الفكرية والشعورية والتخلص من سيطرة الغيبيات والتزمت في العقائد إلى جوار الاهتمام بآثار الحضارة اليونانية والرومانية من أدب وفلسفة وفن وعلم ، وعندما لم تعثر على بعض الآثار الفكرية في أصولها القديمة لجأت إلى علماء العرب وفلاسفتهم الذين استفادوا من الحضارة اليونانية وترجموها ودرسوها واستفادوا من هؤلاء جميعاً في بناء حضارتهم ولكنهم لم يتوقفوا عند كل ذلك ، بل تحولوا إلى شعوب ومفكرين مستقلين فكراً وعقيدة ، فراحوا يفسرون الظواهر الطبيعية – مثلا - ويفحصونها دون التقيد بما جاء في كتبهم المقدسة أو كتب أرسطو ، بل على أساس من الملاحظة والتجربة بجوار الوسائل الأخرى مثل التدوين والمقابلة والقدرة على استخلاص النتائج وبذلك خرج الأوربيون من عصورهم الأولى ، ولنهضتهم أسس فكرية وروحية وفنية بجوار تقدمهم المادي .
 
ما ما حدث في مصر في عصر محمد علي ، فهو رغبته في أن تكون مصر جزءاً من أوروبا ، لكن عن طريق استعادة المظاهر المادية فقط ، فكانت الحضارة الغربية بالنسبة له ولأتباعه زخرفاً مزيفاً ولباساً ظاهرياً دون أن يعي الأساس الفكري والفني والروحي لهذه الحضارة ، وأكبر مثال على ذلك البعثات العلمية التي أوفدها إلى أوروبا لنقل تلك الحضارة إلى مصر ، فيلاحظ عليها أنها لم تتجه ناحية الإحياء ولم تكن بعثات فكرية علمية ، ولكنها كانت بعثات تخدم في المقام الأول الناحية الحربية والعسكرية ولم يكن أغلب أعضاء هذه البعثات مصريين ، ولو كانوا كذلك لاستطاعوا أن ينقلوا إلى مصر بعض لقاح الثقافة ولكنهم في أغلبهم عادوا إلى بيئاتهم الارستقراطية التركية وعاشوا بمعزل عن الشعب ، ولذلك لم تؤت هذه البعثات ثمارها الفكرية كما ينبغي أن تكون فيما عدا رفاعة الطهطاوي الذي حقق غرضاً لم يكن هو مرسلاً لأجله .
 
كذلك يأخذ حسين فوزي النجار على محمد علي أن نهضته لم تراع طبيعة ونفسية الأمة المصرية ، ولم تحاول أن تطور تلك الأمة عقلياً وفكرياًّ في مقابل تلك التطورات العمرانية المادية لذلك تقدمت مصر مادياً بخطوات سريعة بقدر ما تخلفت عقلياً وشعورياً عن الإحساس بالنهضة والتقدم .
 
والباحث يعتقد أن رأى حسين فوزي النجار هذا يأتي في إطار التوجه ناحية الحضارة الغربية بروح عقلية تركز على فلسفة نهضتها لا على آثارها المادية ، وعلى ذلك فالخلاف مع محمد على ليس على التوجه ناحية الغرب ، بل على أسلوب ومنهج التعامل مع الغرب ، فالنجار يري ضرورة أن يشعر الشعب بأهمية النهضة ويتفاعل معها ، ويجب أن تكون نهضة متضمنة دراسة نقدية انتقائية للتراث المصري والعربي حتى نتمكن من الاستقلال العقلي والفكري الذي نبني عليه التقدم المادي ، في حين أن محمد علي لم يراع كل ذلك ، وتوجَّه نحو الشق المادي من الحضارة الغربية وأقحمه على المجتمع المصري قسراً ، وهذا ما أدى إلى انهيار تلك النهضة سريعاً .
 
ومن الجدير بالذكر أن مشكلة العلاقة بين الأنا والآخر ظلت منذ عصر محمد علي حتى الآن الشغل الشاغل للمفكرين العرب بمختلف توجهاتهم ، حتى إنه يمكن القول بأن هذه المشكلة تزداد تجذراً وعمقاً في المجتمعات العربية .
 
أما لويس عوض فإنه يسجل بعض الانتقادات على نهضة محمد علي ، خاصة الصناعية وأسلوبه في إدارتها ، فيرى أن أسلوب محمد علي الصناعي أدى إلى تأخر انتشار الأفكار الديمقراطية وتبلور مبادئ حقوق الإنسان في المجتمع المصري الحديث ، ومرد ذلك إلى أن نشأة الصناعة المصرية في أيام محمد علي في كنف رأسمالية الدولة أو نظام الاحتكار وفي كنف العسكرية المصرية بدلاً من نشأتها في كنف الاستثمار الفردي أولاً ، والشركات المساهمة ثانياً كما حدث في البلاد الأخرى ، وقد أدى هذا إلى أن الطبقات المتوسطة المدنية التي تكونت منها البرجوازية المصرية اصطبغت بصبغة مَيَّزَتْها عن بقية البرجوازيات الأخرى ، فكان العمود الفقري لها هم الطبقة الفنية والصناعية والعسكرية والتجارية بمختلف مستوياتها بالإضافة إلى الطبقة البيروقراطية التي تتألف من جيش الكتبة والإداريين ، ويرى لويس عوض أن هؤلاء أقرب إلى الموظفين الذين يفضلون الأمان والمعاش المنتظم على الحرية والاستقلالية ويستمدون فكرة الكرامة لا من نمو الفردية أو قوة الشخصية أو القدرة على الاقتحام والابتكار ، ولكن من مبدأ الخدمة العامة والقيام بالواجب وذوبان الفرد في الجماعة وتأليه الدولة وطاعة أولى الأمر طاعة عمياء دون تفكير ، وقد انطبق هذا التوصيف نفسه على طبقة البروليتاريا المصرية التي فقدت ملامحها المميزة لها كطبقة لها استقلالها ، لأنها نشأت في كنف السلطات والقطاع العام ، وقد نجم عن ذلك أن الظهير الحقيقي للديمقراطية لم يكن من الطبقات المتوسطة المدنية البرجوازية المصرية ، كما حدث في بلاد العالم المتقدم ، وإنما كان ظهيرها الحقيقي هم الطبقة المتوسطة الزراعية وأوساط الملاك ، ولم يصبح لهذه الطبقة المتوسطة الزراعية عقل مستنير قادر على القيادة الاجتماعية إلا بعد أن تبلورت من بين أبناء مصر طبقة من أرباب المهن الحرة ، وتاريخ الديمقراطية في مصر ، شأنه في ذلك شأن معظم البلاد المتقدمة ، هو تاريخ اتساع رقعة الملكية الفردية .
 
وعلى صعيد آخر يرى لويس عوض أن كل ما استحدثه محمد علي في مصر من أدوات الدولة الحديثة سواء في باب التنظيم والإدارة أو في باب العلوم والتكنولوجيا كان مجرد وسائل لخدمة أهدافه العسكرية ، وذلك أن آخر ما كان يفكر فيه محمد علي هو بناء الإنسان على أرض مصر ولذلك أنهارت إنجازاته سريعاً بمجرد انهيار دولته وغاصت مصر مرة أخرى في الجهل والتخلف ، والسبب أن محمد علي لم يكن هو ذلك المستبد المستنير الذي تحتاجه الأمة للنهوض بها ، بل كان مستبداً أكثر منه مستنيراً .
 
يتفق لويس عوض مع سابقيه إسماعيل مظهر وحسين فوزي النجار في أن محمد علي أهمل تنمية الوعي القومي المصري بالنهضة ، وأن نهضته غلب عليها الطابع الشخصي أكثر من الطابع القومي الحقيقي ، ويركز لويس عوض في ذلك على ضرورة بناء شخصية الإنسان المصري وتنمية فرديته واستقلاليته التي أهملها محمد على في إطار اهتمامه باستبداد الدولة وهذا هو سبب انهيار إصلاحاته سريعاً في نظره .
 
ومن الباحثين المعاصرين الذين نقدوا محمد علي ، محمد عمارة ، حيث يركز على تبني محمد علي لفكر الدولة المستبدة التي تسيطر على أغلب نواحي النشاط الاجتماعي ، فأحيلت الأمة إلى التقاعد وأصيبت ملكاتها وطاقاتها بالسلبية والذبول واللامبالاة ، وبذلك تعاظم دور الدولة على حساب الأمة ( الشعب ) ، وهذا يبرر الإخفاقات التي أصابت مشروع محمد علي إذ أصبح موقف الدولة ضعيفاً أمام التغريب والاستلاب الحضاري والاستعمار .
 
ولا يذهب بعيداً عن تلك التوجهات السابقة كل من عبد المحسن حمادة ، ونصر محمد عارف ، حيث يركزان على الطابع الشخصي في نهضة محمد علي واختفاء الطابع القومي ، بالإضافة إلى سعيه لتأسيس دولة قوية على حساب المجتمع تسلبه معظم صلاحياته ودوره وقوته ، ولذلك فإن تجربة محمد علي كانت تجربة فوقية ركزت على مجموعة من المؤسسات التي لم يتعامل معها إلا أفراد النخبة ، أما باقي المجتمع فلم ير فيها إلا نوعاً من طغيان الدولة على حساب المجتمع .
 
ذلك هو مجمل الآراء التي وقفت من نهضة محمد علي وقفة نقدية في مجملها وركزت على سلبياته أكثر من إيجابياته وهي تقف على النقيض من آراء الاتجاه السابق الذي ركز على إيجابيات محمد علي وغض الطرف عن سلبياته ، ويلاحظ على هذه الآراء أنها جمعت بين أنصار الاتجاه المعتدل أو التوفيقي من ناحية ، وأنصار الاتجاه العلماني أو التغريبي من ناحية أخرى ، جمعتهم على المقدمة وهي تسجيل الملاحظات والانتقادات على منهج محمد علي في النهضة وإن كانوا قد اختلفوا حول صياغة تلك الانتقادات ، فأنصار الاتجاه التوفيقي نقدوه في إهماله الجانب الديني الأخلاقي في النهضة ، وأنصار الاتجاه العلماني نقدوه في إهماله أسس وقواعد النهضة الغربية بدلاً من التركيز على مظاهر نهضتهم المادية البراقة فقط ولكنهم اتفقوا جميعاً على إهمال محمد علي للإنسان المصري وتنمية وعيه بالنهضة والتقدم ، والباحث يتفق مع أصحاب هذه الآراء ، فكل رأي ركز على ناحية مهمة افتقدتها نهضة محمد علي وكانت من الأسباب المرجحة لانهيار هذه النهضة سريعاً وعدم استمرارها فيما بعد ، وهذا ما يجب أن نأخذ منه العبرة في بناء نهضة العالم العربي والإسلامي الحاضرة .
 
أما الاتجاه الثالث : فهو ما يمكن أن نطلق عليه الاتجاه الحيادي وهو الاتجاه الذي يسجل لمحمد علي إنجازاته ويعتد بها ، وهو في الوقت نفسه يسجل عليه أخطاءه وهفواته ويزن لكل جانب ما له من أهمية وقيمة وتأثير في النهضة ، من أمثلة : جورج أنطونيوس ( 1892-1942م ) ، سلامة موسى ( 1887-1958م ) ، أحمد حسين ، وعبد المتعال الصعيدي ومن الباحثين المعاصرين : مسعود ضاهر ، عبد العزيز الدوري ، ومحمد عابد الجابري ، وعبد الإله بلقزيز ، وغيرهم .
 
يذهب جورج أنطونيوس في تحليل نهضة محمد علي مذهباً مختلفاً عن سابقيه ، فيري أنه حاول بعث فكرة القومية العربية مرة أخرى وبذل جهوداً جبارة ، وساعد في ذلك ابنه إبراهيم باشا لتكوين إمبراطورية عربية تنطلق من مصر والسودان وتضم بلاد الشام والجزيرة العربية ، ويثنى انطونيوس على هذه المحاولة ويعدد أسباب إخفاقه في تحقيقها ، فيحصرها في عدة عوامل داخلية وخارجية أكثرها لا يعود إلى نهضة محمد علي .
 
أما عن العوامل الداخلية ، فتعود من ناحية إلى فقدان التضامن القومي في العالم العربي وذلك بفعل الانحطاط الذي أصاب العرب وسوء الإدارة التي منوا بها خلال القرون الطويلة مما أورث روح الجماعة عندهم وهناً وأوجد في انسجامهم القديم خللاً ، وعلى ذلك يمكن القول بأن هذه النهضة العربية بقيادة محمد علي قد ولدت في غير أوانها فخلقت قبل أن يخلق الوعي القومي عند العرب .
 
أما الناحية الأخرى فتكمن في الاختلاف بين طموح محمد علي ورغبات ابنه إبراهيم ، فقد كان لكل منهم تصور خاص عن إمبراطورية المستقبل ، حتى وإن اتفقا في الرغبة الرامية إلى ضرورة تكوين مملكة موحدة تضم المناطق العربية ، فقد كان هدف محمد علي هو الاستيلاء المجرد لذلك عول على نوايا العرب الحسنة وتأييدهم الفعلي له ، ولكنه لم يشعر ناحيتهم باحترام حقيقي ولم يتصور دعائم حكمه إلا قائمة على سواعد أتباعه من الأتراك والألبانيين وعلى ذلك فقد كان العرب بالنسبة له مجرد رعايا طائعين ، أما إبراهيم فقد كان هدفه هو إنشاء مملكة يكون من دعائم الاستقرار فيها هو بعث العرب بعثاً قومياًّ ، لكنهما فشلا في النهاية في إذكاء نار القومية العربية في نفوس أهلها .
 
أما عن العوامل الخارجية ، فتعود إلى تخوف الدول الأوربية من نهضة مصر والعالم العربي ، فقد أثارت توسعات محمد علي تخوف الدول العظمى لذلك ناهضت منذ البداية تكوين إمبراطورية عربية حديثة ووقفت لها بالمرصاد .
 
والباحث لا يتفق مع انطونيوس في تركيزه على دور محمد على في إبراز فكرة القومية العربية ، ويرجح الرأي الذي يذهب إلى أن هدف محمد على لم يكن بعث القومية العربية أو توحيد العرب تحت لواء إمبراطورية واحدة بقدر ما كان هدفه هو بناء مجده الشخصي مدفوعاً في ذلك برغبات السلطان العثماني من ناحية ، وتشجيع الدول الغربية غير المخلصة من ناحية أخرى .
 
أما سلامة موسى فيرى أن محمد علي كان يؤمن بالحضارة الغربية ، فأسس المصانع على النمط الأوربي وأوجد في نفوس الأمة المصرية حب العمل بعد أن كانت طبائع الاستبداد الشرقية قد طبعت فيهم حب الخمول والدعة .
 
وعلى الجانب الآخر لم يكن محمد علي يثق بالمصريين أو يحسب لكرامتهم حساباً ، ولذلك كانت بعثاته إلى أوروبا مؤلفة من غير المصريين من المماليك والمقدونيين ، فكانت نهضته ناقصة لم تستقر فيها عوامل النمو .
 
أما أحمد حسين فيرى أن محمد علي أنشأ جيشاً وبنى أسطولاً وفتح المدارس وأرسل البعثات العلمية ، وترجم الكتب في مختلف الفنون وشق الترع وبنى المصانع ، وخاض معارك رفعت اسم مصر عالياً في ذلك الوقت ، وكان مضرب المثل للشباب المصري حين يبحث عن قدوة في القدرة على النهوض ، والأخذ بأسباب الحضارة العلمية والتفوق على كثير من دول آسيا وأوربا في التقدم .
 
ويبدأ في تحليل المآخذ التي تؤخذ على محمد على وأهمها من الناحية السياسية هي استبداده المطلق بالحكم وأنه لم يكن يخضع لقانون سوى محض إيراداته ، وأن نظرته إلى شعب مصر كانت نظرة عنصرية ضيقة ، ويتفق مع أصحاب هذا الرأي وخاصة الإمام محمد عبده – كما سلف الذكر – ولكنه يري أن محمد علي ابن عصره في العالم عامة ، فقبل سنوات قليلة من قيام حكم محمد على كانت فرنسا ، بل أوربا كلها تحكم بهذه المقاييس السابقة ، وكان نظام الإقطاع يجعل الأرض ومن عليها ملكاً للملك أو الأمير ، لذلك عندما نتحدث عن عصر محمد علي يجب أن نعي أنه لم تكن في مصر ديمقراطية قبله وألغاها أو كانت بها محاكم وعدالة فحولها إلى ظلم ، أو نظام فَحَوَّلَهُ إلى فوضى ، ولم تكن الأرض الزراعية مملوكة للفلاحين وانتزعها منهم ، ولم يكن لمصر جيش من أبناء البلاد فحوله محمد علي إلى جيش للأتراك ، بقى القول بأن محمد علي وأصل أسس الحكم التي جري عليها العمل في مصر خلال أجيال وقرون عديدة .
 
أما ما يقال حول النزعة الشخصية والرغبة في تكوين ملك عظيم يتوارث له ولأبنائه من بعده فهذا ما يقره أحمد حسين ، ولكنه يري أنه من التجني القول أن مصر لم تستفد من ذلك ، بل يمكن القول بأن فترة حكم محمد علي هي البداية الفعلية لتاريخ مصر الحديث ، حيث خرجت مصر من عزلتها التي فرضتها عليها قرون من الحكم العثماني لتتفاعل مع التيارات العالمية حتى تثبت قدرة الشعب المصري على التجدد والانطلاق نحو التقدم والنهضة .
 
ويركز أحمد حسين على انهيار نهضة محمد علي فيراها في تربص دول أوروبا بالعالم الإسلامي كله والشرقي خاصة ، واختصاص مصر بالدرجة الأولى بأطماعه ومناوراته .
 
ويمكن القول تعليقاً على الرأي السابق أن تبرير أحمد حسين لاستبداد محمد علي السياسي يجانب الصواب في رأينا ، إذ لا يمكن المقارنة بين ما كان يحدث في أوربا في العصور الوسطي وما يحدث في مصر في العصر الحديث ، وحتى لو أجزنا هذه المقارنة ، فإنها لا تعطينا مبرراً لاستبداد محمد علي وتهميشه للأمة المصرية ، والمقارنة دائماً تكون متطلعة لحالة أفضل وتطبق النظرة الاستشرافية للمستقبل ، حتى تستطيع أن تبني الحاضر ، تلك هي - في نظرنا - مهمة فلاسفة التاريخ .
 
أما عبد المتعال الصعيدي فإنه يعدد إصلاحات محمد علي على مختلف المستويات العلمية والعسكرية والزراعية والصناعية وما إليها من مجالات تحسب لمحمد علي ، ولكنه يأخذ عليه أن إصلاحه كان إصلاحاً مدنياً صرفاً ليس فيه شيء من الإصلاح الديني أو الإصلاح السياسي ، أما الأول فإن الصعيدي يلتمس له العذر فيه نظراً لأميته وإهمال علماء الأزهر لدورهم ، أما الثاني فإن إهماله يقع على محمد علي ، فقد كان من الواجب عليه أن يجعل حكمه شورياً على مثال الحكم في أوروبا التي قلدها في الإصلاح المدني ، وحتى يشعر الشعب بقيمة ذلك الإصلاح فيخلص له في حياة صاحبة وبعد مماته وتؤمن بفوائد الإصلاح الذي قام به فتسعي إليه قبل أن يسوقها إليه سوقاً ، ولكن السبب عند الصعيدي يعود إلى أميته كذلك التي أبت أن يشاركه غيره في الحكم لأنها كانت تترك في نفسه شعوراً بالعجز والنقص .
 
ويأخذ الصعيدي كذلك على محمد علي عجزه عن توحيد الشعب الذي اختاره لحكمه ، فلم يتمكن من التغلب على النزعة العنصرية التي جعلته يتعالى على أبناء الشعب المصري وينظر إليهم على أنهم دون المستوى ، وتبعه في ذلك بقية الطوائف الغربية التي استأثرت بالوظائف القيادية ، وبقى الشعب المصري من جراء ذلك يزرع ويساق إلى الجندية دون أن يكون له رأي في حكم بلاده .
 
ومن الباحثين المعاصرين الذين حللوا نهضة محمد علي ، مسعود ضاهر الذي اعتبر أن من إيجابيات مشروع محمد على نصحه السلطان العثماني توحيد السلطنة على قاعدة الجهاد التي يدعو إليها الدين الإسلامي ، وتجاوز مرحلة الضعف والانحطاط على قاعدة إصلاحات جذرية وفورية وشاملة ، على النمط الأوربي ، مع رفض سياسة القروض طويلة الأمد ، على عكس ما فعل خلفاؤه الذين تركزت سياستهم الاقتصادية على الاستدانة ، مما أوقع مصر تحت الاحتلال فيما بعد .
 
ومن الأخطاء التي يأخذها مسعود ضاهر على محمد علي ، أنه توهم أن الصراع الفرنسي ، البريطاني صراع استراتيجي لا يوحي بالتفاهم بينهما على اقتسام المغانم على حساب البلدان الأخرى ، في حين أن التناقض الظاهري بين الدول الاستعمارية كان تناقضاً مصلحياًّ لا يمكن الركون إليه ، وقد وقع محمد على في سياسة تضخيم ذلك التناقض الذي وقع فيه معظم الإصلاحيين ، وقد تبين له خطأ ذلك التصور بعد تخلي الفرنسيين عنه في مؤتمر لندن عام 1840م .
 
فقد أدركت الدول الغربية منذ البداية خطورة التوحيد بين الولايات العربية ، خاصة بعد اكتشاف الثروات الطبيعية الهائلة فيها ، ولذلك حاربت وجود جيش عربي قوى في هذه المنطقة ، ورغم القضاء على تجربة محمد على فإن الدول الغربية شديدة الحساسية ضد وجود هذا الجيش وضد كل أشكال التوحيد في المنطقة ، ولذلك دعمت المشروع الصهيوني في فلسطين في أعقاب هزيمة محمد علي في بلاد الشام وما زالت تدعمه حتى الآن .
 
كذلك يؤخذ عليه في تعامله مع الغرب استفادته المحدودة من تنوع نماذج التحديث الأوروبية ، فقد أبقى الطابع الشمولي لحركة التحديث في عهده فرنسياًّ وحيد الجانب ، فأدخل مصر في دائرة الصراع الدولي المباشر مع الفرنسيين والإنجليز والروس ، لذلك بقيت مصر أسيرة النموذج الفرنسي ، عبر خبراء فرنسيين وبعثات علمية إلى فرنسا ، وارتهان شبه تام بتقلبات السياسة الفرنسية في شرق البحر المتوسط ، ومع دخول مصر في دائرة الصراع الإنجليزي – الفرنسي سعت إنجلترا لضرب مشروع محمد على بوصفه ركيزة احتياطية للمشروع الإمبريالي الفرنسي للسيطرة على العالم العربي .
 
ويؤكد مسعود ضاهر أن إصلاحات محمد علي قد طالت مختلف الجوانب العسكرية والإدارية والاقتصادية ، وهي لها أهميتها ، ولكنه أغفل جانباً مهماًّ وهو الإصلاحات السياسية تحت شعار أن السلطنة العثمانية تواجه أخطاراً خارجية لا تسمح لها بإطلاق الحريات لرعاياها خشية بروز دعوات انفصالية أو استقلالية عنها ، كذلك انتهى عهد محمد علي في مصر دون ولادة دستور عصري مكتوب ، وتم إحلال المجالس التي تضم الأعيان ، الذين يتم اختيارهم بطريقة أشبه ما تكون بالتعيين لا صلاحيات لها محل المجالس النيابية المنتخبة من الشعب ، وقد رفض محمد علي كل أشكال الديمقراطية ورفض تثقيف الجيش بمقولات الوطنية والسيادة والاستقلال وغيرها من المقولات المهمة للنهضة .
 
ومن الباحثين المعاصرين الذين حللوا نهضة محمد علي ، عبد العزيز الدوري ، الذي يسجل مآثر محمد علي ، فيري أنه أول نهضوي عربي أنشأ جيشاً حديثاً ، ووضع له قاعدة علمية واقتصادية ، وكانت له إسهامات في الإصلاح الزراعي والصناعي والصحفي أيضاً ، ولكنه يرى أن مشروع محمد علي كان مشروعاً نخبوياًّ لم يراعِ الهوية التراثية للشعب المصري في التحديث .
 
ويركز كل من محمد عابد الجابري ، وعبد العزيز الدوري ، على العوامل الخارجية فيما أصاب النهضة العربية ، متمثلة في بواكير هذه النهضة ، نهضة محمد علي ، أو حتى المشروعات اللاحقة في الوطن العربي ، فيرون أن ما أصاب التحديث والتقدم من انتكاسات في الوطن العربي بوجه عام ، يرجع في الأساس لا إلى المقاومة الداخلية من القوي المحافظة في المجتمع العربي ، بل إلى الدور التخريبي الذى قام به الوجه الآخر للحداثة الأوروبية ، والذي قوامه الداخلي ( القوة ) أو ( المنافسة ) ، وتطبيقه الخارجي ( التوسع الاستعماري ) ( والتنافس الغربي ) ، الذي أجهض المشروع الحضاري العربي .
ويتبنى التوجه نفسه عبد الإله بلقزيز ، حيث يؤكد أنه لا يتبنى وجهة النظر التي تفسر التاريخ تفسيراً تآمرياًّ ، لكن الواقع أن الاستعمار ساهم في إلحاق ضربات موجعة ، بل قاتلة للمشروع النهضوي العربي ويدلل على ذلك بالتحالف البريطاني الفرنسي مع عدوتها الدولة العثمانية لإجهاد مشروع محمد على بالعنف المسلح سواء لنهضة مصر أو لتحقيق وحدة عربية تضم مصر والشام ، وإن كان هذا لا يعني عنده أن مشروع محمد على كان خالياً من الأخطاء ، ويعدد الأخطاء نفسها التي ذكرها سابقوه في هذا الاتجاه .
 
ذلك هو مجمل آراء هذا الاتجاه في تحليل نهضة محمد علي ، ويمكن أن نلاحظ عليه الآتي :
من أنصار هذا الاتجاه من حاول تبرير استبداد محمد علي السياسي وإهماله جانب الإصلاح السياسي بالظروف التاريخية والواقع السياسي مثل أحمد حسين ، ومنهم من رفض ذلك وركز على إهمال محمد علي المتعمد لجانب الإصلاح السياسي ، مثل عبد المتعال الصعيدي ومسعود ضاهر .
 
مازال التركيز عند أنصار هذا الاتجاه أيضاً على إهمال محمد على تنمية الوعي القومي المصري بالنهضة وأهميته لها وذلك واضح عند سلامة موسى .
 
لا ينكر أنصار هذا الاتجاه ، أخطاء محمد على وفشل مشروعه النهضوي ، ويركزون على منطقة أخرى في تعامله مع الغرب لم يركز عليها أنصار الاتجاهين السابقين وهى عدم إدراك محمد علي لنوايا الدولة الغربية الاستعمارية تجاه مصر والدولة العثمانية ، أو كما يسمونه الوجه الآخر للحداثة الأوربية ، ولعل هذه كان واضحاً أكثر عند الباحثين المعاصرين أمثال : محمد عابد الجابري وعبد العزيز الدوري وعبد الآله بلقزيز وغيرهم ، نظراً لأن هذا الوجه الآخر للحداثة الأوروبية ازداد قبحاً وبشاعة بعد أن تلون بألوان التنمية والديمقراطية والحرية ، خاصة عندما تضافر الوجه الأوروبي مع الوجه الأمريكي ، فأخرجوا لنا مخلوقاً بشعاً كنا نتمنى لو لم يكن كذلك .
 
تلك كانت أهم اتجاهات فلسفة التاريخ التي نظرت لنهضة محمد علي كل من منظورها الخاص الذي حللت من خلاله أبعاد تلك النهضة ...!!
انها محاولة لتقييم تجارب تاريخية ..ولانقيسها الا بمعايير زمنها