أمينة خيري
المساحات الفارغة في علم الفيزياء ليست فارغة. فهي تعج بملايين الجزيئات متناهية الصغر التي تظهر وتختفي بطريقة عشوائية دون التقيد بنسق أو سياق أو قاعدة. وهذا تحديدًا ما يحدث في المساحات التي نتركها طواعية، إما فارغة تمامًا دون خبر أو معلومة أو إشهار بأن المعلومات حال توافرها ستكون متاحة أو بملئها بكلام فارغ يرقى في تفاهته وهرائه لأن يكون هو والعدم سواء.

وسواء اتضح أن ما جرى في محيط المعهد نتيجة سيارة كانت تسير عكس الاتجاه، أو انفجار أسطوانة أكسجين، أو عمل مدبر أو أي احتمالات أخرى، تبقى تفاصيل سويعات ما بعد الحادث أدلة إدانة للجميع. خواء الإعلام التقليدي الذي أخذ على عاتقه مهمة منافسة مواقع التواصل الاجتماعي في التكهن والتنبؤ والتوقع مع التعامل مع شهود العيان – حتى أولئك المعتمدين على روايات معاد تدويرها وليس التواجد في المكان- باعتبارهم مصادر موثوق في كلامها جاء على رأس المتهمين. فإن تنقل سرد الشاهد ليحكي ما رآه رأى العين، فهذا مقبول ومعروف. لكن أن تنقل تحليل الشاهد وتوقعه بأن سيارة كانت تحمل آلاف المتفجرات، أو أسطوانة أكسجين انفجرت فحطمت المكان، أو أيا من القصص التي تم تداولها في الإعلام "المهني" عقب الكارثة فهذا ذنب لا يغتفر.

والغفران يكون من نصيب أولئك الذين يستشعرون الحرج أو تضطرهم الظروف والأحوال لابتداع واختراع طرق بديلة لملء الفراغات، لكن أن يمعن البعض في السخافة والرذالة ويتحفنا بما قاله لاعبنا المفضل محمد صلاح عن الحادث ودفتر العزاء الذي فتحه الفنانون والفنانات لمواساة أسر الضحايا قبل أن يعرف ملايين المصريين ما جرى، فهذا عين النزق.

ذنب لا يغتفر آخر من نصيب الجهات التي يتوجب عليها فتح قناة اتصال على مدار الساعة عقب الحادث، لا للتعجل والقفز والتصريح بتفاصيل ما جرى قبل التأكد مما حدث، بل لإخبارنا بما يجري بشفافية ومصارحة تسد الطريق أمام هواة الصيد في المياه العكرة التي تنتج عن قلة المعلومات.

ليس عيبًا أن نتدرب على طريقة التعامل المهني مع الإعلام بهدف الإخبار أولاً بأول. "المعلومات الأولية المتاحة لدينا تشير إلى حدوث كذا" (دون القفز إلى استنتاجات تبريرية أو تكهنات تبريئية) "نقدر فداحة ما جرى ولكن حرصاً على المصداقية سنوافيكم بالتطورات أولاً بأول" مع تخصيص رقم ساخن وشريط خبري للمتابعة. رقم ساخن آخر ينبغي توافره فوراً لأسر الضحايا أو المفقودين الباحثين عن معلومات أو سبل مساعدة ولو حتى نفسية.

ويظل ترك الساحة فارغة أشبه بإشارة مرور خضراء لسكان مواقع التواصل الاجتماعي لتداول تدوينات تحمل تكهنات وآراء ومواقف ملونة مسبقًا لشرح ما جرى. ولا يخفى علينا ما جرى منذ ليل أمس، حيث الأصدقاء يتداولون كمًا مذهلاً من التحليلات المتنكرة في صورة معلومات كل منها أقرب باللغم الذي يجري تفجيره مع كل دقة "لايك" أو "شير". لكن كيف نلوم على هؤلاء ملء الفراغ؟!

الفراغ نجم عنه كذلك فحيح (صوت الأفعى) هادر حيث قنوات ومواقع وتغريدات وتدوينات تتابعها الملايين حول العالم بثت سمومًا إخبارية مميتة حول "الإهمال" و"جهود إحراق العاصمة القديمة" و"تأخر في مخاطبة الإعلام لحين تدبير رواية"، ناهيك عن الهبد والرزع وتبادل الترحمات والعزاءات على "وفاة الإعلام المصري".

في مثل هذه الحوادث، الدقيقة تساوي الكثير. والمطلوب ليس القفز إلى استنتاج أو الهرولة نحو تفسير أو سد الفراغات المعلوماتية بكلام فاضي، لكن المطلوب إخبار العالم في الداخل والخارج بأننا نتابع، ونتحقق فعليًا، مع الإعلان عن المتوافر من معلومات، وتوفير الدعم الصحي والنفسي المطلوبين عبر خط ساخن يعمل فعلياً.

بشاعة الحادث لا ينافسها إلا كيفية التعامل معه.
نقلا عن مصراوى